الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - فقه الثواب والعقاب
قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31].
…
[النساء: 13 - 14].
…
[البقرة: 25].
الله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته سبحانه، وأرسل إليهم الرسل ليأمروهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
فمن آمن بالله وعبده وأطاعه أسعده الله في الدنيا، وأدخله الجنة يوم القيامة، ومن كفر بالله وعصاه شقي في الدنيا، وأدخله الله النار يوم القيامة:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].
وأصل الذنوب نوعان:
ترك مأمور به .. وفعل منهي عنه.
وهذان هما الذنبان اللذان ابتلى الله بهما أَبَوي الإنس والجن، ولكل ذنب عقوبة تناسبه في القدر والعدد.
والعقوبات نوعان:
عقوبات قدرية .. وعقوبات شرعية.
فالعقوبات الشرعية ثلاث أنواع:
القتل .. والقطع .. والجلد.
وعقوبات الذنوب نوعان:
شرعية وقدرية، فإذا أقيمت العقوبات الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها، وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد أو أخف، ولكنها تعم، والشرعية تخص، فالله لا يعاقب شرعاً إلا من باشر الجناية كما قال سبحانه:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38].
وعقوبات الله للمخالفين نوعان:
عقوبات على عدم قبول الحق .. وعقوبات على مخالفة أوامر الرب.
فالأول كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17].
والثاني كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].
وقد عذب الله الأمم المكذبة للرسل بعقوبات في الدنيا تناسب جرائمهم، وأما في الآخرة فمأواهم جهنم، فبسبب كفرهم وظلمهم، وتكذيبهم واستكبارهم، وصدهم عن سبيل الله جعل الله:{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].
فقوم نوح ذنوبهم مع الشرك .. الاستكبار والاغترار بكثرة العدد، والسخرية بأهل الإيمان، فلما كذبوا رسولهم نوحاً أغرقهم الله ولم يُنج إلا المؤمنين كما قال سبحانه:{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} [يونس: 73].
وجعلهم عبرة لمن بعدهم كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37].
وعاد قوم هود ذنوبهم مع الشرك .. الاستكبار والتجبر في الأرض .. والظلم وشدة البطش .. فلما كذبوا رسولهم هوداً صلى الله عليه وسلم عاقبهم الله بريح صرصر عاتية تناسب عتوهم واستكبارهم عن الحق وقوتهم التي اغتروا بها كما قال سبحانه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت: 15].
فلما اجتمعت فيهم هذه الجرائم عاقبهم الله وطهر الأرض من جرائمهم كما قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت: 16].
أرسل الله عليهم ريحاً عقيماً شديدة القوة، مزعجة الصوت كالرعد القاصف:{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} [الحاقة: 7].
فدمرتهم وأهلكتهم، وأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وقوم ثمود ذنوبهم مع الشرك .. انتهاك محارم الله .. وعقر الناقة التي حذرهم الله من مسها بسوء .. والاستكبار عن الحق والاستهزاء به.
فلما كذبوا رسولهم صالحاً صلى الله عليه وسلم عاقبهم الله بكفرهم وظلمهم كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} [فصلت: 17 - 18].
وقوم لوط ذنوبهم مع الشرك .. إتيان الفاحشة التي لم يسبقوا إليها .. وهي إتيان
الذكران من الناس .. فلما حذرهم رسولهم لوط صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 80 - 81].
فلما لم يستجيبوا له .. وأصروا على الاستمرار في فعل هذه الفاحشة المنكرة عاقبهم الله بأن أمر جبريل باقتلاع بلادهم ومن فيها، ثم رفعها إلى السماء ثم قلبها عليهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من جهنم متتابعة، عليها علامة الغضب والعذاب كما قال سبحانه:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82 - 83].
وقوم مدين ذنوبهم مع الشرك .. الظلم في الأموال .. وبخس المكيال والميزان .. والفساد في الأرض .. فأرسل الله إليهم أخاهم شعيباً يأمرهم بعبادة الله وحده .. والعدل في الكيل والميزان كما قال سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} [هود: 84 - 85].
فلما كذبوا رسولهم عاقبهم الله بسحابة أمطرتهم ناراً، فأحرقتهم وأحرقت أموالهم التي أخذوها ظلماً، وظلوا تحتها خامدين كما قال سبحانه:{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} [الشعراء: 189].
وأنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه، وأهلك الظالمين كما قال سبحانه:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)} [هود: 94].
وفرعون وقومه ذنوبهم مع الشرك والكفر .. العلو والاستكبار .. والفساد في الأرض كما قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4].
وادعى فرعون الربوبية: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} [النازعات: 24 - 25].
وادعى الألوهية: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)} [القصص: 38].
فما أعظم جرم هذا الطاغية، وما أشد ظلمه:{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)} [يونس: 83].
فأرسل الله رسوله موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الله كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)} [الزخرف: 46 - 47].
ولكن فرعون كذب موسى وعصاه، واتهمه مرة بالجنون حيث:{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)} [الشعراء: 27].
ومرة بالسحر حيث: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)} [الشعراء: 34 - 35].
ومرة بالكذب كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)} [غافر: 23 - 34].
ولكن الطغاة والمفسدين والمستكبرين لا يعبأون بالحق، ولا بمن جاء به، بل يحاربونه بكل وسيلة؛ لأنه يردعهم عن قهر العباد وظلمهم واستعبادهم لهم، وهم لا يريدون ذلك، والله لا يتركهم على هذه الحال، بل يأمر رسله أن يذهبوا إليهم لدعوتهم إلى الله، ورفع الظلم عن العباد كما قال سبحانه لموسى صلى الله عليه وسلم: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ
الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} [النازعات: 17 - 26].
وقال سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)} [المؤمنون: 45 - 48].
فلما كذبوا موسى، وردوا ما جاء به وأضلوا قومهم عن الهدى، وزاد طغيانهم وأذاهم، ساقهم الله إلى مصارعهم، وعاقبهم بسوء صنيعهم، وحاق بفرعون وآله سوء العذاب.
فلما يئس موسى من إيمانهم بعد ما رأوا الآيات البينات، وحقت عليهم كلمة العذاب، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم الله من أسرهم، ويمكِّن لهم في الأرض كما وعدهم، أوحى الله إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن يخرج بهم:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)} [الشعراء: 52].
فماذا حصل من فرعون وقومه لما علموا بخروج موسى وبني إسرائيل؟.
لقد حشر فرعون جيشاً عظيماً من مدائن مصر للقضاء على موسى ومن آمن معه: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)} [الشعراء: 53 - 56].
فأخرجهم الله بحسن تدبيره من بساتين مصر، وجنانها الفائقة، وعيونها المتدفقة، وزروعهم وفواكههم المختلفة، وساقهم إلى مصارعهم كما قال سبحانه:{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)} [الشعراء: 57 - 58].
وأورث بني إسرائيل فيما بعد هذه الجنات والبساتين والزروع والعيون والمقام الكريم كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}
…
[الشعراء: 59].
فتبع فرعون وقومه موسى وقومه وأدركوهم عند شروق الشمس كما قال سبحانه: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 60 - 62].
وحان وقت الهلاك للمجرمين ونصرة الله للمؤمنين، فأمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه ليفتح به طريقاً آمناً لأوليائه، ويجعله مقبرة لأعدائه كما قال سبحانه:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 63 - 68].
فسبحان من يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء بطاعته، ويذل من يشاء بمعصيته.
ونزلت عقوبة الله بهؤلاء الطغاة: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)} [الأعراف: 136].
وحق وعد الله لموسى ومن آمن معه بالنصر والتمكين في الأرض كما قال سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}
…
[الأعراف: 137].
فكل أمة من الأمم المكذبة للرسل أخذه الله بذنبه على قدره، وبعقوبة مناسبة له، وما ظلمهم الله ولكن الناس أنفسهم يظلمون:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40].
أما عقوبة هذه الأمم المكذبة يوم القيامة فهي بالنار، وهم في العذاب متفاوتون، وأشدهم عذاباً آل فرعون كما قال سبحانه:{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 45 - 46].
فجعل عليين مستقر العلية، وأسفل سافلين مستقر السفلة.
وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة، وجعل أهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة.
كما جعل سبحانه أهل طاعته أكرم خلقه عليه كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].
وجعل أهل معصيته أهون خلقه عليه، وجعل العزة لأهل طاعته، والذلة والصغار لأهل معصيته.
وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين.
فيجب على المؤمن أن يقف بين يدي مولاه موقف المخطئ المذنب، مستحياً منه، خائفاً منه، راجياً له، محباً له.
فأي نعمة وصلت إليه من الله استكثرها على نفسه، ورأى نفسه دونها، وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأى نفسه أهلاً لما هو أكبر منها، ورأى مولاه قد أحسن إليه إذ لم يعاقبه على قدر جرمه وإساءته.
والشر الذي يصيب الإنسان لا يخلو من قسمين:
أحدها: إما ذنوب وقعت منه فيعاقب عليها ويجازى بها؛ لأنه فعلها بنفسه وقصده كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
الثاني: شر واقع به من غيره:
إما من مكلف كالإنس والجن .. أو غير مكلف مثل الهوام والحيات والعقارب ونحوها، فيصيبه ذلك لحكم يعلمها الله حسب حاله:
إما عقوبة له على معصية، أو تطهيراً له من ذنب، أو رفعة لدرجاته ونحو ذلك والشر الأول هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين.
وإن الذنب وإن صغر لقبيح، وإن مقابلة العظيم جل جلاله به، العظيم الذي لا
شيء أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، المنعم لجميع النعم، يعد من أقبح الأمور وأعظمها وأشنعها.
فإن مقابلة العظماء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن أو كافر، وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل.
فكيف بعظيم السموات والأرض، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة؟.
هل يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم عصيانه ومخالفة أمره؟.
ولولا أن رحمة الله سبقت غضبه، ومغفرته سبقت عقوبته، لتزلزلت الأرض بمن قابله بما لا تليق مقابلته به من الذنوب والمعاصي:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)} أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 90 - 95].
ولولا حلم الله ومغفرته وعفوه لزالت السموات والأرض من معاصي العباد وظلمهم: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41].
وكل من نسي الله عاقبه بعقوبتين:
إحداهما: أن الله سبحانه ينساه، وإذا نسيه الله وأهمله وتركه وتخلى عنه فالهلاك أدنى إليه من اليد إلى الفم كما قال سبحانه:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67].
الثانية: أن الله سبحانه ينسيه نفسه، فيهمل حظوظها وأسباب سعادتها وفلاحها،
وينسيه عيوب نفسه وآفاتها فلا يخطر بباله مداواتها، وإزالة عللها، وهذه أعظم خسارة للعبد، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].
ومن نسي دين الله في الدنيا وأعرض عنه أشغله الشيطان بما يضره ويبعده عن ربه، ثم نزلت به عقوبة جنايته كما قال سبحانه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44 - 45].
ومن نسي الله في الدنيا نسيه الله في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه عن الكفار:{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)} [الجاثية: 34 - 35].
والله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها، والأوامر والنواهي الشرعية ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله سبحانه أمر العباد بما أمرهم به رحمة منه وإحساناً.
ولما كان كل عامل سيجازي بعمله، والإنسان عرضة للنسيان والخطأ والتقصير، أخبر الله سبحانه أنه لا يؤاخذ على الخطأ والنسيان كما قال سبحانه:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
فقال الله عز وجل: «قَدْ فَعَلْتُ» أخرجه مسلم (1).
وقال سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} [الأحزاب: 5].
والنسيان قسمان:
نسيان بمعنى ترك الشيء عمداً والإعراض عنه .. ونسيان بمعنى ذهول القلب
(1) أخرجه مسلم برقم (126).
عما أمره الله به فيتركه نسياناً، فالأول محاسب عليه ومعاقب عليه.
والثاني معفو عنه.
والخطأ: أن يقصد الإنسان شيئاً يجوز له فعله ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله كأن يرمي صيداً فيصيب إنساناً خطأ، فهذا الخطأ والنسيان بمعنى ذهول القلب قد عفا الله عنهما عن هذه الأمة رحمة بهم وإحساناً.
فمن أتلف مالاً أو إنساناً خطأ فليس عليه إثم، لكن الضمان مرتب على الإتلاف، فمن أتلف شيئاً خطأ فعليه ضمانه، الإنسان بالدية والكفارة، والمال أو الشيء بمثله أو قيمته.
والله تبارك وتعالى أمرنا بأربعة أمور هي:
تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. والدعوة إلى الدين.
فكل سعادة وفلاح في العالم سببه القيام بهذه الأمور الأربعة.
وكل شقاء وفساد في العالم سببه الإخلال بهذه الأربعة أو بعضها، فكل نقص فيها نقص من الدين.
وإذا نقص الدين خرج من حياة الأمة تدريجياً ثم هلكت.
فحارس البستان المملوء بالزورع والأشجار والثمار إذا ترك الحراسة دخلته الكلاب والبهائم والسراق فلعبت به، وأكلت ما فيه، وغيرت صورته حتى ينتهي.
وكذلك الدين إذا تركنا الدعوة إلى الله جاءت شياطين الإنس والجن فلعبت بالأمة، وغيرت صورتها ومقصدها، وحياتها وأخلاقها.
فجاءت البدع مكان السنن .. والمعاصي مكان الطاعات .. والباطل مكان الحق .. والكفر بدل الإيمان .. والجهد للدنيا بدل الجهد للدين.
والله حكيم عليم أعلم عباده أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروه، وأنها بقضاء الله وقدره ليوحدوه، ويتوجهوا إليه وحده في كشفها، وأخبرهم بما له فيها من الحكم، ومالهم فيها من المصالح؛ لئلا يتهموه في قضائه وقدره،
وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته.
وسلاهم بما أعطاهم بما هو أجل قدراً وأعظم مما فاتهم، فكل مصيبة وبلية تهون أمام منة الله على المؤمنين بالهداية إلى الإسلام كما قال سبحانه:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
والله قوي عزيز، وهو على كل شيء قدير، والمخلوقات كلها بالنسبة لله أصغر من الخردلة فهو سبحانه وحده الكبير المتعال.
والله عز وجل لا يستعمل قدرته أمام الطغاة والجبابرة، بل يهلكهم ويدمرهم بأضعف مخلوقاته وأصغرها وأهونها؛ ليعلم الناس أنهم ليسوا بشيء، وأن الله قادر على إهلاكهم بأهون شيء عليهم.
كما أرسل الله البعوضة على النمرود فأهلكته .. وفتح ماء السماء والأرض على قوم نوح فأغرقهم .. وكما فتح البحر لفرعون وقومه فأغرقهم في جوفه .. وكما فتح السد على قوم سبأ فأهلك زروعهم وخرب ديارهم .. وكما أرسل الريح على قوم عاد فدمرتهم .. وكما أرسل النار على قوم شعيب فأحرقتهم .. وكما أرسل الصيحة على قوم ثمود فأهلكتهم .. وكما أهلك قوم لوط بطرف جناح جبريل .. وأهلك أصحاب الفيل بالطير الأبابيل .. وأرسل الجراد والقمل والضفادع على قوم فرعون.
وقد شرع الله سبحانه الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ونصرة الدين، وقمع المعتدين، وإذا تركته الأمة هلكت كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39].
وإذا أقبلت الأمة على الدنيا وأعرضت عن الآخرة، سلط الله عليها الذل حتى تعود إلى ربها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ
وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» أخرجه أحمد وأبو داود (1).
وما يبتلى به العبد من الذنوب والمعاصي وإن كان خلقاً لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله من أجله وهو عبادته سبحانه.
فلما لم يفعل ما أمره الله به، زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، والإيمان يمنع من تسلط الشيطان عليه.
ولا بدَّ لكل إنسان من إرادة وحركة، فمن تحرك بالمعاصي والذنوب إما بفعل محظور أو ترك مأمور، فهذا عقوبة له لعدم فعل الطاعات، والشيطان مسلط عليه، فلما لم يتحرك بالحسنات حركه الشيطان بالسيئات، عدل من الله.
وتخصيصه سبحانه لمن هداه، بأن استعمله ابتداء فيما خُلق له وفيما يحبه الله فضل منه سبحانه، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل، وهو سبحانه أعلم بمن يستحقه ويشكره كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها:{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105].
فإن قيل معصية الكفر كانت في زمان قليل متناه، والجزاء في جهنم أبدى غير متناه، فكيف ينطبق هذا الجزاء على العدل الإلهي؟.
قيل: من مات على الكفر لو بقي أبداً لكان كافراً أبداً لفساد جوهر روحه، فهذا القلب الفاسد استعد لجناية غير متناهية.
وبذلك نعلم أن الجزاء الأبدي في مقابلة الجناية غير المتناهية، وذلك عين العدالة.
وأيضاً فالكفر كفران لنعم غير متناهية، فجزاؤه غير متناهٍ.
وحقيقة الإيمان:
التوكل على الله وحده، والتأثر من الله وعدم التأثر من غيره مطلقاً.
(1) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد برقم (4825)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (11).
وأخرجه أبو داود برقم (3462) واللفظ له، صحيح سنن أبي داود ر قم (2956).
فالأعداء يخوفون الناس بما صنعوه من المدمرات الإنسانية كالقنابل والطائرات والدبابات وغيرها.
أما الأنبياء وأتباعهم فيدعون الناس إلى الإيمان والاستقامة على أوامر الله، فمن استجاب فله الجنة، ومن عصى خوفوه بطش ربه في الدنيا وعذابه في الآخرة كما قال سبحانه:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}
…
[فصلت: 13 - 14].
فالأنبياء والمؤمنون معهم قوة الخالق .. والكفار والأعداء معهم قوة المخلوق .. وقوة الخالق أقوى من قوة المخلوق .. ومن كان الله معه فمعه كل شيء .. ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء.
ولله جنود السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن، والمياه والرياح والزلازل، والخوف والرعب، والحر والبرد:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)} [المدثر: 31].
والله عز وجل مع الأنبياء والمؤمنين بنصره وتأييده، سواء كان معهم شيء أو لم يكن معهم شيء.
فمحمد صلى الله عليه وسلم نجاه الله من الكفار حين أرادوا قتله، وأظهر دينه، وخذل أعداءه، ولم يكن له ملك ولا مال.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم نجاه الله من النار، ونجاه من أعدائه، ولم يكن معه شيء إلا إيمانه بربه.
وموسى صلى الله عليه وسلم نجاه الله من فرعون وملأه، ونجاه من الغرق، ولم يكن معه إلا إيمانه بربه.
وقارون خسف الله به الأرض مع كثرة أمواله، فلما أعرض عن الله أعرض الله عنه فهلك .. وهلكت أمواله كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا
كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81].
وفرعون لما طغى أهلكه الله مع أن معه الملك والمال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55].
ونمرود أهلكه الله لما أصرَّ على كفره مع أن معه الملك والمال.
وهكذا القرى الظالمة، أهلكهم الله بذنوبهم ولم ينفعهم ما تعلقوا به من دون الله:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} [الكهف: 59].
فهل يعتبر العاقل، ويتوب الظالم، ويطيع العاصي، قبل أن تحل بهم عقوبة الظالمين والعصاة:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}
…
[الفجر: 6 - 14].
إن الدعوة إلى الله كما هي وظيفة الأنبياء والرسل، هي كذلك وظيفة هذه الأمة، وبها تحصل الهداية للدعاة والمدعوين.
ولما تركت الأمة الدعوة إلى الله عوقبت بضعف الإيمان، فعطلت أوامر الله في الدين، وأوامر الله في جهد الدين، حتى خرجت من الأمة أوامر الله، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا فقط، بل لما خرجت السنن والفضائل، أخذت مكانها المحرمات والرذائل، فجاءت المصائب والمشاكل.
وليس هذا فقط، بل قام في المسلمين من يحارب الله ورسوله، ويدعو إلى نبذ كتاب الله وراءه، وترك شرعه، ويدعو إلى المحرمات والكبائر والفواحش والرذائل، واتباع سنن اليهود والنصارى.
وذلك كله عقوبة ترك الدعوة إلى الله، هذا ما حصل بين المسلمين، فكيف بأحوال الكافرين؟.
إن في الدعوة إلى الله إحياء دين الله في قلوب المؤمنين، ودخول الكفار في دين رب العالمين، وإنشاء الاستعداد في القلوب للأعمال الصالحة، وبها تعمر الحياة كما كانت حياة الصحابة رضي الله عنهم.
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالحياة حسب أوامر الله بركة ورحمة، والحياة بدون أوامر الله شقاء وتعاسة.
وجميع البشرية اليوم يعيشون في المصائب والمشاكل:
كل خائف .. كل غير مطمئن في جميع شعب الحياة .. في نفسه، وفي بيته، وفي مجتمعه .. كل يشكو أحواله .. ويشكو ربه الرحمن الرحيم إلى خلقه.
والمسلمون خاصة في أعظم المصائب والمشاكل، لتعطيلهم كثير من أوامر الله:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
فكل مسلم إلا من رحم الله يشكو المصيبة، بل المصائب في كل مكان، ويدعو فلا يستجاب له.
والسبب: أن المسلمين لم يفكروا في سبب البلاء والمرض، بل يفكرون في الخلاص من البلاء والمرض، فلا يرتفع البلاء، ولا يزول المرض.
والنجاة والسلامة أن نعلم أن المصائب من الله عز وجل، والمصائب تكون بحسب أعمالنا كما قال سبحانه:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
ونحن غافلون عن إصلاح إيماننا وأعمالنا، وبصلاح أعمالنا تصلح أحوالنا، وترفع عنا العقوبات:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
فعلينا تغيير الداخل بالإيمان والتقوى، ثم الله يغير الخارج ويصلحه:
وعلينا أن نعيش كحياة الأنبياء والرسل لنسعد في الدنيا والآخرة، ونسلم من العقوبات، وننقل هذه الحياة الطيبة إلى جميع البشرية بالدعوة إلى الله، لتسعد البشرية، وتسلم من العقوبات في الدنيا والآخرة، فمن عاش كحياة الأنبياء حصل له الخير ثم دخل الجنة بعد الموت.
وقد خلق الله الإنسان ليعيش في الدنيا كإنسان يعرف ربه ويعبده ويطيع أمره، ليس كالحيوان، وليس كالشيطان، وبذلك يسعد في الدنيا والآخرة.
فإذا عاش الإنسان كالحيوان أو عاش كالشيطان جاءت المصائب والمشاكل في الدنيا، وعوقب بالنار في الآخرة.
وكلما تشبه المسلم بالملائكة والأنبياء ارتفع مكانه، وعلت درجاته، واطمأنت نفسه، وكثر خيره في الدنيا والآخرة.
وكلما تشبه الإنسان بالحيوانات والشياطين ضرَّ نفسه، وآذى غيره، ونزلت قيمته، وهبطت درجته، وشقي في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه: 123 - 127].
والعقوبات الشرعية نوعان:
أحدها: عقوبة على ذنب ماض كجلد الشارب للخمر والقاذف، وقطع السارق والمحارب ونحو ذلك.
الثاني: العقوبة لتأدية حق واجب، وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم، وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة، وآخذ حقوق الناس حتى يؤديها.
وقد شرع الله العقوبات الشرعية على قدر مفسدة الذنب، وتقاضي الطبع له: فإن
كان الوازع عنه طبيعياً، وليس في الطباع داع إليه، اكتفى فيه بالتحريم مع التعزير، ولم يرتب عليه حداً كأكل الرجيع، وأكل الميتة، وشرب الدم ونحو ذلك، وما كان في الطباع داع إليه رتب عليه من العقوبة بقدر مفسدته، وبقدر داعي الطبع إليه كالقتل والزنا والسرقة، وجعل عقوبتها: القصاص والرجم والجلد.
ولما كان داعي الطبع إلى الزنا من أقوى الدواعي كانت عقوبته العظمى من أشنع القتلات وأعظمها وهي الرجم، وعقوبته الدنيا أعلى أنواع الجلد مع التغريب، فالجلد للبكر، والرجم للثيب.
ولما كانت جريمة اللواط فيها الأمران، كان حده القتل بكل حال.
وجعل سبحانه القتال بإزاء الكفر، وما يليه ويقرب منه وهو الزنا وعمل قوم لوط، فإن هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد الأنساب.
وجعل سبحانه القطع بإزاء إفساد الأموال الذي لا يمكن الاحتراز منه.
وجعل الجلد بإزاء إفساد العقول، وتمزيق الأعراض بالقذف.
وكما جعل الله للطاعات ثواباً، فقد جعل للمعاصي عقاباً.
والذنوب ثلاثة أقسام:
الأول: قسم فيه الحد، فهذا لم يشرع فيه كفارة؛ اكتفاءً بالحد الشرعي كالقتل قصاصاً، وكسرقة المال فيها القطع، وشرب الخمر فيه الجلد ونحوهما.
الثاني: قسم ليس فيه حد، لكن شرعت فيه الكفارة كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام، والظهار، وقتل الخطأ، والحنث في اليمين ونحو ذلك.
الثالث: قسم لم يرتب عليه حد ولا كفارة، وهو نوعان:
أحدهما: ما كان الوازع عنه طبيعياً كأكل العذرة والنجاسات، وشرب البول والدم ونحو ذلك.
الثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رتب عليه الحد كالنظر، والقبلة ونحوهما.
وشرع الإسلام الكفارات في ثلاثة أنواع:
أحدها: ما كان مباح الأصل ثم فرض تحريمه، فباشره الإنسان في الحال التي عرض فيها التحريم كالوطء في حال الإحرام والصيام، والوطء حال الحيض والنفاس ونحوهما.
الثاني: ما عقده الإنسان لله من نذر، أو بالله من يمين، أو حرمه على نفسه ثم أراد حله، فشرع الله حله بالكفارة، فالكفارة حل لما عقده كما قال سبحانه:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 2].
الثالث: ما تكون فيه الكفارة جابرة لما فات، مثل كفارة قتل الخطأ، وإن لم يكن هناك إثم، وكفارة قتل الصيد خطأ.
فإن هذا من باب الجوابر، والأول من باب الزواجر، والأوسط من باب التحلة لما منعه العقد.
ولا يجتمع الحد والتعزير في معصية، بل إن كان فيها حد اكتفى به، وإلا اكتفى بالتعزير.
ولا يجتمع الحد والكفارة في معصية، بل كل معصية فيها حد فلا كفارة فيها، وما فيه كفارة فلا حد فيه.
وعقوبات الذنوب والمعاصي نوعان:
عقوبات قدرية .. وعقوبات شرعية.
وهي إما في القلب .. وإما في البدن .. وإما فيهما معاً.
عقوبات في دار الدنيا .. وعقوبات بعد الموت في القبر .. وعقوبات يوم البعث وحشر الأجساد .. وعقوبات في مستقر الكفار والعصاة في النار كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].
وترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والغرق على الماء، وفساد البدن على السموم.
والعقوبة قد تقارن الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيراً وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه.
أما أصل العقوبة فهو واقع على كل ذنب وما يعفو الله عنه أكثر كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
وأعظم الذنوب ثلاثة:
الشرك .. والقتل .. والزنا.
وعقوباتها أعظم العقوبات كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 70].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» . قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «وَأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» . قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» متفق عليه (1).
فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله نداً.
وأعظم أنواع القتل أن يقتل الإنسان ولده خشية أن يطعم معه.
وأعظم أنواع الزنا أن يزني الإنسان بحليلة جاره.
فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4477) واللفظ له، ومسلم برقم (86).
فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وأشد عقوبة من التي لا زوج لها كالبكر؛ لما فيه من انتهاك حرمة الزوج، وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه.
فإن كان زوجها جاراً له فذلك أشد وأعظم البوائق، فإن كان الجار أخاً أو قريباً من أقاربه انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم له.
فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف له الإثم، حتى إن الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة، ويقال له خذ من حسناته ما شئت.
فإن اتفق أن كانت المرأة رحماً منه انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها، فإن كانت خالته أو عمته أو أخته أو بنته فذلك أشد وأعظم، وأقبح وأشنع، نسأل الله السلامة والعافية.
فإن اتفق أن كان الزاني محصناً كان الإثم أعظم وأشد، فإن كان شيخاً كبيراً كان أعظم إثماً، فإن اقترن بذلك أن كان الزنا في شهر حرام، وبلد حرام، أو وقت حرام كالصيام، أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلاة تضاعف الإثم، وتضاعفت العقوبة.
وقد حرم الله عز وجل على اليهود بعض الطيبات عقوبة لهم على ظلمهم وبغيهم وانتهاكهم حرمات الله كما قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)} [النساء: 160].
وقال سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: 146].
أما الإسلام فقد شرع الله فيه للمسلمين لتكفير الخطايا أموراً أخرى غير تحريم الطيبات:
أحدها: التوبة النصوح التي تمحو الذنوب كما يمحو الماء الوسخ كما قال سبحانه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39].
الثاني: الحسنات اللاتي يذهبن السيئات كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].
الثالث: الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» أخرجه أحمد والترمذي (1).
الرابع: المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر إذا يبس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه (2).
وصار التحريم كله في الإسلام يتبع الضرر والخبث والفساد.
والناس قسمان:
الأول: حي قابل للانتفاع، يقبل الإنذار، وينتفع به.
الثاني: ميت القلب، لا يقبل الإنذار ولا ينتفع به؛ لأن أرضه غير زاكية ولا قابلة للخير البتة، فيحق عليه القول بالعذاب.
وتكون عقوبته بعد قيام الحجة عليه، لا بمجرد كونه غير قابل للهدى والإيمان، بل لأنه غير قابل ولا فاعل.
وإنما يتبين كون الإنسان غير قابل بعد قيام الحجة عليه بالوحي والرسول، فإذا رد ما جاء به الرسول تبين أنه غير قابل للهدى، فعوقب بكونه غير فاعل، فحق عليه القول أنه لا يؤمن ولو جاءه الرسول كما قال سبحانه:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} [يونس: 33].
وإنما يؤمن هؤلاء إذا رأوا العذاب يوم القيامة، وذلك لا ينفعهم كما قال
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (22016).
وأخرجه الترمذي برقم (2616) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2110).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641) واللفظ له، ومسلم برقم (2573)
…
[يونس: 96 - 97].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد كل أوقاته لدعوة الكفار إلى الإسلام، ويدعو ربه، ويبكي لأمته لعل الله أن يهديهم، والكفار كانوا يسبونه ويؤذونه ويشتمونه، فتحمل ذلك وصبر حتى أظهر الله دينه.
وفي أيامنا هذه طرد كثير من المسلمين الدين من حياتهم .. من بيوتهم .. ومن أسواقهم .. ومن معاملاتهم .. ومن معاشراتهم ..
وفي هذه المرحلة ينبغي أن نكون أشد جهداً، وأشد بكاءً، وأشد دعاء؛ لأن الكفار زمن النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين يطردون الرسول والدين ويحاربونه.
أما اليوم فإن كثيراً من المسلمين هم الذين يطردون الدين وأعمال الرسول، ويعملون بسنن اليهود والنصارى، ويرضون بالخبائث عن الطيبات، وبالباطل عن الحق، وبالمحرمات عما أحل الله، وبالدنيا عن الآخرة.
وأصبح المسلمون اليوم بسبب ضعف الإيمان، وترك العمل بأوامر الله، كحفرة صغيرة انفصلت من البحر، فصار الناس والبهائم والسباع يلعبون بها لصغرها وقلة مائها وانفصالها من البحر الأعظم.
فبدأ الأعداء يلعبون بهذه الأمة التي صارت صغيرة بسبب تركها للدين وجهد الدين، يلعبون بها ولا يخافون منها:
يلعبون بشبابها ورجالها .. ويلعبون ببناتها وأولادها .. ويلعبون برجالها ونسائها .. ويسخرون بدينها وأخلاقها .. ويلعبون بأموالها وأعراضها .. وعقولها وأفكارها .. وحكامها وتجارها.
يلعبون بالمسلمين هكذا، وهم آمنون مطمئنون، فليس لهذه الأمة صلة متينة
بمصدر عزها ومجدها وهو القرآن الكريم.
وأوامر القرآن الكريم لها قوة لا تقف أمامها أي قوة في الأرض كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}
…
[الرعد: 31].
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
والجهاد موجود في العالم الإسلامي، ولكنه جهاد من أجل الدنيا وتكميل الشهوات، جهاد لرفاهية البدن، جهاد لجمع الحطام، جهاد لتكميل شهوات النفس من المطعم والمشرب، والمركب والمسكن، والملبس والمنكح.
عبث في الأوقات .. وإضاعة للطاقات .. واقتراف للمحرمات.
فلله ما أعظم هذه الجناية، وما أخطرها على أهلها:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59 - 60].
فسبحان الله كم حل بالمسلمين من العقوبات بسبب هذه الجنايات، والإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28 - 29].
ولا تزال هذه العقوبات من إغراق وإحراق، وإهلاك وتدمير، تحل بالأمم كلما أعرضت عند دين الله وخالفت رسله.
وأما الجهاد لإعلاء كلمة الله وإصلاح النفس فهو موجود، ولكن القائمين به قليل.
ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى التوحيد
والإيمان بالله، فإذا ظهر الشرك والكفر بعد ذلك بعث الله نبياً آخر يردهم إلى التوحيد والإيمان.
وقد عاش بنو إسرائيل حياة شديدة مؤلمة في ظل حكم فرعون، الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل، وملأها بالالتواء من ناحية، وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية، وبالضعف عن تحمل التبعات من ناحية، وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً.
فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً، ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء، والحركة في الظلام مع الذعر الدائم، والتوقع الدائم للبلاء.
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً، وفرعون يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فإذا فتر هذا النوع من العذاب عاشوا حياة الذل والكد والسخر والمطاردة على كل حال، حتى جاء موسى صلى الله عليه وسلم، ورفع الله بسببه هذا البلاء.
فدين الله يجعل الناس في أرض الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ لأنهم عبيد الله ملك الملوك، ويجب أن لا يضربهم الحكام فيذلوهم؛ لأنهم ليسوا عبيداً للحكام، بل عبيد الله وحده:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
…
[البقرة: 49].
وقد حقق الله وعده لبني إسرائيل فأنجاهم من عذاب فرعون، وأهلك أعداءهم، وأورثهم أرضهم وديارهم كما قال سبحانه:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} [القصص: 4 - 6].
وعقوبات الله واقعة بكل من كفر بالله وعصاه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31].
ونحن إذا تركنا الدعوة إلى الله عوقبنا بالدعوة إلى الأموال والأشياء، ثم بالدعوة إلى الشهوات والمحرمات والشبهات، فجاء في قلوبنا تعظيم المخلوق، والخوف من المخلوق، والتأثر منه، فيسلطه الله علينا، فنطيع أمره وإن خالف أمر خالقه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].
والصحابة رضي الله عنهم لما قاموا بالدعوة إلى الله جاء في قلوبهم عظمة الخالق عز وجل، فزاد إيمانهم، وحسنت أعمالهم وتنوعت، وأطاعوا الله ورسوله، فرضي الله عنهم ورضوا عنه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
والناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب، وفي هذا تخويف وتحذير لمن سكت عن النهي عن المنكر .. فكيف بمن داهن؟ .. فكيف بمن رضي؟ فكيف بمن أعان؟ فكيف بمن فعل؟.
والعقوبة معناها: مؤاخذة المجرم بذنبه، وسميت بذلك لأنها تَعْقُب الذنب.
والعقوبة أنواع:
منها ما يتعلق بالدين وهي أشدها كأن تخف المعصية في نظر العاصي، أو يتهاون بترك الواجب.
ومنها العقوبة في النفس كالمرض .. والعقوبة بفقد الأهل والأولاد .. والعقوبة بفقد المال ونحو ذلك: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49].
وإذا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما،
وعدلوا إلى الأمراء وأقوال الشيوخ عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم.
وأعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم فلم يروها منكراً، وجاءتهم دولة أخرى تقوم فيها البدع مقام السنن .. والنفس مقام العقل .. والهوى مكان الهدى .. والضلال مقام الرشد .. والمنكر مقام المعروف .. والجهل مكان العلم .. والباطل مقام الحق .. والرياء مقام الإخلاص .. والظلم مقام العدل .. والظلام مقام النور.
فحينذاك بطن الأرض خير من ظهرها، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
وما ضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلي بتضييع السنن، وما ضيع أحد سنة من السنن إلا يوشك أن يبتلي بالبدع.
والله عزيز حكيم عليم، إذا منع الناس الزكاة، وحرموا المساكين، حبس الله عنهم الغيث، وابتلاهم بالقحط.
فلما منعوا الحق عاقبهم الله بمنع نزول الغيث.
ومن صرف الناس عن الهدى والإيمان صرف الله قلبه عن الهدى والإيمان، فصدهم الله عنه كما صدوا عباده عنه، صداً بصد، ومنعاً بمنع:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
وإذا جار القوي على الضعيف، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، سلط الله العدو عليهم ففعل بهم كفعلهم بضعفائهم.
فسبحان من بهرت حكمته العقول، وملكت القلوب.
وكفر ساعة يوجب عقاب الأبد في النار؛ لأن الكافر كان على عزم أنه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعتقاد أبداً، فلما كان ذلك العزم مؤبداً عوقب بعقاب الأبد، والله عليم بذات الصدور.
أما المسلم المذنب، فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة.
والعبد إذا قصر في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه، وكلما زاد الإيمان زادت الطاعات، فاستأنس العبد بربه، واستوحش من غيره، وكلما نقص الإيمان قلت الطاعات، وزادت المعاصي، وانشغل الإنسان بالشهوات عن أوامر الله عز وجل.
وإذا قامت الحياة على أساس الأموال والأشياء، لا على أساس الإيمان والتقوى، سلط الله على الأمة أربعة أشياء:
قحط الدهر .. وخيانة الحكام .. وظلم الملوك .. وخوف الأعداء، فالأشياء موجودة لكن الحوائج لا تكمل، والأموال موجودة لكن القلوب غير مطمئنة:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)} [النحل: 33].
ومن سنة الله عز وجل أن كل من أعرض عن شيء من الحق وقع في باطل، مقابل ما أعرض عنه من الحق.
فمن رغب عن العمل لله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فما أخسره حين رغب عن العمل لمن ضره ونفعه، وحياته وموته، وسعادته وشقاوته بيده، إلى العمل لمن لا يملك من ذلك شيئاً.
ومن رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم.
ومن رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب لخدمة أدنى الخلق.
ومن رغب عن الهدى بالوحي ابتلي بكناسة الآراء، وزبالة الأذهان.
والعقوبات نوعان:
خاصة: كما عاقب الله قارون وحده، فخسف به وبداره الأرض.
وعامة: كما دمر الله فرعون وقومه؛ لأن فرعون ادعى أنه رب وإله، واستخف قومه فأطاعوه واتبعوه، فدمر الله الجميع، وأغرقهم في البحر كما قال سبحانه:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55].
وكذا كل من عاند الرسل وكذبهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقريش عاقبهم الله بذنوبهم: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ
تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31].
والجرائم في الشريعة الإسلامية لها عقوبات تسمى الحدود كالقصاص، والقطع في السرقة، والرجم أو الجلد في الزنا، والجلد في القذف وشرب الخمر ونحوها.
أما عقوبة ترك الدعوة فهي الاستبدال كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38].
وكما أن الله لم يستثن أحداً من الخيرية، كذلك لم يستثن أحداً من المسئولية، والدعوة ليست عملاً اكتسابياً، بل هي عمل اجتبائي من الخالق، وبعد الاجتباء تأتي المسئولية كما قال سبحانه لموسى:{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)} [طه: 13].
وقد اجتبى الله هذه الأمة كما اجتبى الأنبياء كما قال سبحانه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
…
[الحج: 78].
والملوك إذا تعرضوا للدين سُلبوا ملكهم، وذلوا بعد عزهم، كما حصل لفرعون حين استكبر وعارض موسى أهلكه الله، وكما حصل لكسرى حين مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزق الله ملكه.
وقد أرسل الله الأنبياء السابقين إلى أممهم، وعاقب من خالفهم بعذاب الاستئصال كقوم نوح وهود، وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم.
والسبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة، أن ذلك العذاب مشروط بشرطين:
الأول: أن عند الله حداً من الكفر مَنْ بلغه عذبه، ومن لم يبلغه لم يعذبه.
الثاني: أن الله لا يعذب قوماً حتى يعلم أن أحداً منهم لا يؤمن.
فإذا حصل الشرطان أمر الله الأنبياء أن يدعو على أممهم، فإذا دعوا وشكوا إليه
سوء أعمالهم استجاب الله دعاءهم، وعذب أممهم بعذاب الاستئصال إلا من آمن منهم فينجيه الله وإياهم.
والمسلمون اليوم وإن آمنوا بالله رباً وإلهاً .. إلا أنهم لم يعظموه ولم يطيعوه كما يجب أن يعظم وأن يطاع .. ولم يسلموا وجوههم إلى الله .. ولم يتوكلوا عليه .. ولم يتيقنوا على ذاته وأوامره.
فكانت النتيجة أن عوقبت الأمة بعقوبات:
فارتابت الأمة في أخبار الله .. وشكت في عدالته فلم تحكم شرعه .. ولم تذعن لأمره ولا لنهيه .. فتركت كثيراً من الفرائض والواجبات .. وارتكبت كثيراً من الكبائر والمحرمات.
فقست القلوب .. وضعف الإيمان .. وقلت الطاعات .. وكثرت المعاصي .. فأصبحت الأمة إلا من رحم الله تكره لقاء ربها .. وتخاف من فراق الحياة.
وأمست لا همَّ لها إلا ما يعمر دنياها ويحقق شهواتها .. وانقطعت عن السير في طريق الكمال .. وأسرعت السير في طريق الضلال .. فضلَّت وتاهت إلا من رحم الله.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضاع الإسلام أو كاد، ومسئولية ضياع الإسلام مسئولية مشتركة بين أعدائه وأوليائه:
فأعداؤه كادوا له بإثارة النعرات والنزاعات، وإيجاد الطرق والمذاهب المتعددة بين أمم الإسلام وشعوبه، وبذر بذور الفرقة والشقاق في صفوفهم:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].
وأولياؤه: هم الأمراء والعلماء، فالأمراء والرؤساء فرطوا في إقامة الشرع، وحماية حدوده بما أوتوا من قوة وما خُوِّلوا من سلطان.
وأكثر العلماء فرطوا في تعليم الدين للناس، والعمل به، والدعوة إليه.
وبين كيد الأعداء وتفريط الأولياء ضاع الإسلام أو كاد، وصار كأمة لا يهاب ولا يحترم.
لكنه باقٍ في الأرض كأفراد وجماعات تؤمن به، وتعمل بأحكامه وتؤدي فرائضه، وتقيم حدوده، وتدعو إليه في ساحة الأرض كلها، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» متفق عليه (1).
والله عز وجل يعاقب على الأسباب المحرمة، وعلى ما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وعلى ما تولد منها.
فمن دعا إلى بدعة أو ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها؛ لأن فعلهم تولد من فعله، ولذلك كان على ابن آدم القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل بغير حق إلى يوم القيامة.
ولكل من دل على خير فله مثل أجر فاعله.
قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 25].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (2).
والله جل جلاله إنما يسلط الشيطان على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، فلما تولوه من دون الله، وأشركوه معه، عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم كما قال سبحانه:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99 - 100].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641) واللفظ له، ومسلم برقم (1037).
(2)
أخرجه مسلم برقم (2674).
ولله عز وجل على أهل المعاصي عقوبتان:
إحداهما: جعل الإنسان خاطئاً مذنباً لا يحس بألم المعصية ومضرتها لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات.
الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات.
لكن العقوبة الأولى عقوبة موافقة لشهوته وإرادته فلا يشعر بها، والثانية مخالفة لما يحبه ويتلذذ به فيقاسي ألمها.
وقد ذكر الله العقوبتين وقرن بينهما بقوله سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44 - 45].
وعلى المسلم أن يحذر من أمرين لهما عواقب سوء:
الأول: رد الحق لمخالفته هواه، فمن فعل ذلك عوقب بتقليب قلبه، وَرَدِّ ما يَرِدُ عليه من الحق رأساً، فلا يقبله إلا إذا برز في قالب هواه.
الثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فمن تهاون بذلك ثبطه الله وأقعده عن مراضيه وأوامره عقوبة له كما قال سبحانه:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: 110].
وكل كافر ومشرك إنما يستحق العقوبة بمجرد كفره وشركه، ولكن إرسال الرسل وترك طاعتهم شرط في وقوع العذاب.
فالمقتضي قائم وهو عدم الإيمان، لكن وقوع العقوبة مشروط بشرط هو إرسال الرسول، ومعصية الرسول كما قال سبحانه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].
وفساد الدين يحصل بأمرين:
البدع .. واتباع الهوى.
وهذان هما داء الأولين والآخرين، وأصل كل شر وفتنة، وكل بلاء وعقوبة، وبهما كُذبت الرسل، وعصي الرب، ودُخلت النار، وحلت العقوبات.
فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات كما قال سبحانه:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}
…
[التوبة: 69].
فالاستمتاع بالخلاق وهو النصيب من الدنيا متضمن لنيل الشهوات المانعة من متابعة الأمر، والخوض في الباطل شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق لنعيم الآخرة، فهي لا تزال ساعية في نيل شهواتها.
فإذا نالتها خاضت في الباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل، ولكن من رحمة الله أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء والنصب في تحصيل مرادها وشهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلاً.
ولو تفرغت لكانت هذه النفوس آثمة تدعو إلى النار.
وهذا حال من تفرغ منها كما هو مشاهد في كل زمان ومكان.
فالاستمتاع بالشهوات داء العصاة، والخوض في الباطل داء المبتدعة وأهل الأهواء.
وما من قرية من القرى المكذبة للرسل إلا لا بدَّ أن يصيبهم هلاك قبل يوم القيامة، أو عذاب شديد، كتاب كتبه الله، وقضاء أبرمه لا بدَّ من وقوعه كما قال سبحانه:{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}
…
[الإسراء: 58].
وقضى الله سبحانه قضاءً لا مرد له أن من اطمأن على شيء سواه، أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائناً من كان.
بل لو اطمأن العبد إلى علمه وعمله وحاله سلب ذلك.
وقد جعل سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء، ليعلم عبادُه وأولياؤه أن المتعلِّق بغيره مقطوع.
وكل ما نراه في الوجود من شر وألم، وعقوبة وجدب، ونقص فينا وفي غيرنا، فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلِّط له أعدل العادلين كما قال سبحانه لمن أفسد في الأرض:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} [الإسراء: 5].
وقد عاقب الله جل جلاله الكفار بعقوبات حسب جرائمهم، ورتب بعض العقوبات على الذنوب.
منها: الختم على القلوب والأسماع .. والغشاوة على الأبصار .. والأقفال على القلوب .. وجعل الأكنة والرين عليها .. والطبع على القلوب .. وتقليب الأفئدة والأبصار .. والحيلولة بين المرء وقلبه .. وإغفال القلب عن ذكر الرب .. وإنساء العبد نفسه .. وترك إرادة الله تطهير قلبه .. وجعل الصدر ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّد في السماء .. وصرف القلوب عن الحق .. وزيادتها مرضاً على مرضها .. وإركاسها وإنكاسها بحيث تبقى منكوسة.
ومن عقوبات المعاصي أنها تثبط عن الطاعات، وتبعد عنها، وتجعل القلب أصم لا يسمع الحق، أبكم لا ينطق به، أعمى لا يراه.
ومنها الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين، وصاحبه لا يشعر به.
وعلامة الخسف بالقلب أنه لا يزال جوالاً حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول البر والخير، والفضائل والطيبات، والعلويات والمحاسن من الأقوال والأعمال والصفات.
وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن ما أوقع بالمشركين من العقوبات، ويذكر إنجاءه لأهل التوحيد.
فيذكر شرك هؤلاء الذي استحقوا به الهلاك، وتوحيد هؤلاء الذي استحقوا به
النجاة، ثم يخبر أن في ذلك آية وبرهاناً للمؤمنين، ثم يذكر مصدر ذلك كله، وأنه صادر عن أسمائه وصفاته سبحانه.
فصدور هذا الإهلاك عن عزته، وذلك الإنجاء عن رحمته كما قال سبحانه بعد عقوبات الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 8 - 9].
والله عز وجل أحسن كل شيء خلقه .. وأتقن كل شيء صنعه .. فكل شيء عند مبدأ خلقه بريء من الآفات والعلل .. تام المنفعة لما خلق له وهيىء له: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 6 - 7].
وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر من مجاورة، أو امتزاج، أو أسباب أخر تقتضي فساده، فلو تُرِك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به لم يفسد.
ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه، يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله، جاءت بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه.
ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأسقام والأمراض، ومن القحط والجدب والطواعين، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها، ونقص أوزانها وأحجامها أموراً متتابعة كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
ولا زالت تحدث الآفات والعلل كل وقت في الزروع، والثمار، والأشجار، والإنسان، والحيوان، ويحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، وبعضها آخذ برقاب بعض.
وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات
والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وهوائهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم كما قال سبحانه:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
فظهر الفساد في البر والبحر وفي أنفسهم بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة، المفسدة بطبعها، ليعلم العباد أن الله هو المجازي على الأعمال، فعجل لهم شيئاً يسيراً من جزاء أعمالهم في الدنيا لعلهم يرجعون عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت، وجلبت لهم من البلاء والمحن ما جلبت، فتصلح أحوالهم، ويستقيم أمرهم.
فسبحان الحكيم العليم الذي أنعم ببلائه .. وتفضل بعقوبته .. وإلا فلو أذاقهم عقوبة جميع ما كسبوا من السيئات في الدنيا ما ترك على ظهرها من دابة ..
كما قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} [فاطر: 45].
وأكثر هذه الآفات والأمراض بقية عذاب عذبت به الأمم السابقة، ثم أبقى الله منها بقية مرصدة لمن فعل مثل أفعالهم، حكماً قسطاً، وقضاء عدلاً.
كما سلط الله الريح على قوم عاد سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام وفي نظيرها عظة وعبرة.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أوْ عَذَابٌ أرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأرْضٍ وَأنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» متفق عليه (1).
والحل الذي يرفع هذه الآفات والبلايا والأمراض الإيمان بالله، والاستقامة
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3473)، ومسلم برقم (2218) واللفظ له.
على أوامره، بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، والقيام بوظائف الدين الظاهرة والباطنة، وفي ذلك الأمن والسلامة والعافية في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].
وبذلك نعلم أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البوار صائرون، والله بالغ أمره لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط، وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة أمر الله ورسوله، والدعوة إلى غير الله وما شرعه رسوله.
فالله عز وجل أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بعبادته وتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به، ومخالفة رسوله كما قال سبحانه:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55 - 56].
والناس قسمان:
ذاكر لربه .. وغافل عن ربه.
فمن نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، وما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة، بل هي خير منه لبقائها على هداها التام الذي أعطاها إياه خالقها.
وأما هذا الغافل عن ربه فخرج عن فطرته التي خُلق عليها، فنسي ربه فأنساه نفسه، وما تكمل به، وما تزكو به، وما تسعد به في معاشها ومعادها كما قال سبحانه:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}
…
[الكهف: 28].
فلما غفل عن ذكر ربه انفرط عليه أمره وقلبه.
وأعظم العقوبات نسيان العبد نفسه وإهماله لها، وإضاعته حظها ونصيبها من الله، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه كما قال سبحانه:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].
فهؤلاء عاقبهم الله على نسيانهم له، بأن أنساهم أنفسهم، فنسوا مصالحها أن يفعلوها، وعيوبها أن يصلحوها، ونقائصها أن يكملوها، وحظوظها أن يتناولوها.
وهذا من أعظم العدل، فإنه سبحانه نسيهم كما نسوه، وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها، وأسباب سعادتها ولذتها؛ عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم، المتحبب إليهم بآلائه ونعمائه.
فلما قابلوا ذلك بنسيان ذكره، والإعراض عن شكره، عدل فيهم بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها، فوقعت فيما تفسد به وتتألم بفوته.
ومن أعظم مصالح النفس وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها، وشكرها له، وطاعتها لأمره، فلا نعيم لها ولا سرور، ولا فلاح ولا صلاح، إلا بذكر الله وحبه وطاعته، والإقبال عليه والإعراض عما سواه كما قال سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
فهؤلاء ذكروا الله فذكرهم، وذكرهم بمصالح نفوسهم ففعلوها، وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها، وعَرَّفهم حظوظها العالية فبادروا إليها.
فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان، ومحبة الله وذكره وشكره، فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصاً.
وهذا يبين لنا كمال عدل الله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها.
وإذا كان قضاؤه على النفس بالكفر والذنوب عدلاً منه عليها، فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل.
فهو سبحانه ماض في عبده حكمه، عدل فيه قضاؤه.
فله فيها قضاءان:
قضاء السبب .. وقضاء المسبب، وكلاهما عدل فيه.
فإن العبد لما ترك ذكر ربه، وترك فعل ما يحبه ويرضاه، عاقبه بنسيان نفسه، فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه الله ويسخطه بقضائه الذي هو عدل.
فترتب لهذا العبد على هذا الفعل والشرك عقوبات وآلام لم يكن منها بدّ، بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها، فهو عدل محض من الرب سبحانه، فعدل في العبد أولاً وآخراً، فهو محسن في عدله، محبوب عليه.
ودين الله تبارك وتعالى هو الحق، وكل ما سواه باطل، وإنما يكيد المكذبون الظالمون، ويحتالون ويخادعون، من أجل رده وصرف الناس عنه، والله جل جلاله يكيدهم كما يكيدون دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين عقوبة لهم على جرمهم كما قال سبحانه:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}
…
[الطارق: 15 - 17].
وكيده سبحانه لأعدائه استدراجهم لمصارعهم من حيث لا يعلمون، والإملاء لهم حتى يأخذهم على غرة كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182 - 183].
فالإنسان إذا أراد أن يكيد غيره يظهر له إكرامه وإحسانه إليه حتى يطمئن إليه، فيأخذه على غرة كما يفعله أعداء الله ورسوله.
فإذا فعل ذلك أعداء الله ورسوله بأوليائه ودينه كان كيد الله لهم حسناً لا قبح فيه، فيعطيهم ويعافيهم وهو يستدرجهم كما قال سبحانه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].
وكل من استقام على أوامر الله أسعده الله وأكرمه في الدنيا والآخرة، وتفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم، واستقامتهم
على أوامر الله كما قال سبحانه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} [البقرة: 47].
فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم، وأفسدوا في الأرض، فقد أعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب، والذلة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد، وحق عليهم الوعيد كما قال سبحانه:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)}
…
[المائدة: 78].
وقال سبحانه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61].
…
[النساء: 160 - 161].
والربا من كبائر الذنوب، يدمر الأمم، ويحطم الأخلاق، ويوجب اللعنة والطرد من رحمة الله، وقد أعلن الله الحرب على أهله من الله ورسوله، وهي حرب شاملة داهمة غامرة أعم من القتال.
حرب على الأعصاب والقلوب .. وحرب على البركة والرخاء .. وحرب على السعادة والطمأنينة .. حرب المطاردة والمشاكسة .. حرب الغبن والظلم .. حرب القلق والحزن .. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لدينه ومنهجه على بعض .. وأخيراً حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول.
إنها حرب تشتعل الآن في العالم كله من جراء النظام الربوي المقيت، وأيسر ما يقع إن لم يقع هذا كله هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطيم الكيان البشري كله من أساسه.
وهي حرب مشبوبة دائماً، وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا، وهي مسعرة الآن تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة، وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم، بينما هي خاسرة قطعاً؛ لأن المرابين يحاربون الله ورسوله، ومن يحاربه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو هالك وخاسر قطعاً كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}
…
[البقرة: 278 - 279].
وهذا الإنتاج العظيم والمال الوفير لو أنه نشأ من منبت زكي طاهر لأسعد البشرية، ولكنه نبت من أرض الربا الملوث فأشقى البشرية، وخنق أنفاسها، وحطم أخلاقها، وأثقل كواهلها بالديون، وأشعل الفتن والحروب، وتسبب لها بأعظم العقوبات.
والحل واحد .. بالاستقامة على أوامر الله، وتجنب هذا المورد العفن النتن الآسن وهو الربا، واتباع وطاعة الله ورسوله فيما شرعه من أحكام عادلة، وإلا فهي العقوبة والهلاك بلا ريب.
فيا لله .. كم يؤم أوكار الوحوش الربوية من المسلمين؟.
وكم تسعى هذه الفرائس إلى الفخاخ بأقدامها؟.
وإذا كانت الطاعات محسوبة .. والمعاصي محسوبة .. والمعاملات مكتوبة .. والسرائر مكشوفة، فهلا نسارع إلى الخيرات؟. وهلا نخاف الله؟ ونخاف يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281].
والكفر بآيات الله سواء بإنكارها أصلاً .. أو عدم الاحتكام إليها في واقع
الحياة .. وقتل الأنبياء بغير حق .. وطرد سننهم من الحياة .. وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس جسدياً أو معنوياً .. وعصيان الجبار سبحانه .. والاستعداء على حق الله، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق عباده .. هذه هي المؤهلات لغضب الله، وللهزيمة والذلة والمسكنة يتقدم بها من يسمون أنفسهم مسلمين بغير حق إلى ربهم، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة والغضب.
فاليهود لا يطمئنون ولا يستقرون، حيث عاقبهم الله بالذلة في بواطنهم، والمسكنة في ظواهرهم، فلا يطمئنون إلا بحبل من الله، وحبل من الناس فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ منهم الجزية ويُستذلون، أو تحت أحكام النصارى، وباءوا مع ذلك بأعظم العقوبات وهي غضب الله عليهم، ولعنته لهم.
وقد حذر الله المؤمنين من طاعة الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة، بل فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}
…
[آل عمران: 149 - 150].
فالذي لا يكافح الكفر والشر، والضلال والباطل، والظلم والطغيان، لا بدَّ أن يتخاذل أو يتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والطغيان.
فالإيمان والكفر ضدان .. فالذي لا يتحرك إلى الأمام بإيمانه، لا بدَّ أن يرتد إلى الوراء بكفره .. والذي لا يعلو بإيمانه وأعماله الصالحة، لا بدَّ أن ينزل إلى أسفل بكفره وأعماله السيئة.
ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ .. ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟.
والله تبارك وتعالى لطيف بعباده رحيم بهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].
وهو سبحانه غني عن عذاب العباد، فما به سبحانه من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب، وما به سبحانه من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق، وما به سبحانه من رغبة ذاتية في عذاب الناس، وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله عز وجل:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147].
فعذاب الله جزاء على الجحود والكفران، وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان.
إنها ليست شهوة التعذيب، ولا رغبة التنكيل، فمتى اتقى الإنسان ربه بالشكر والإيمان فهنالك المغفرة والرضوان، وهناك شكر الله سبحانه لعبده:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7].
وإذا كان الخالق المنعم المتفضل، الغني عن العالمين، يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وهو غني عنهم وعن إيمانهم وشكرهم، فماذا ينبغي للمخلوقين المغمورين بنعم الله؟. وماذا يجب عليهم تجاه الخالق الرزاق المنعم المتفضل؟.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172].
وأعظم المنكرات والفواحش والكبائر ثلاثة:
الشرك بالله .. والزنا .. وقتل النفس بغير حق، وكل هذه جرائم قتل في الحقيقة.
الجريمة الأولى: جريمة قتل الفطرة.
والثانية: جريمة قتل الجماعة.
والثالثة: جريمة قتل النفس المفردة.
فالفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة، والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة منتهية قطعاً إلى الدمار، والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات مهدد بالدمار.
ومن ثم جعل الله عقوبة هذه الجرائم الثلاث هي أقسى العقوبات؛ لأنه سبحانه يريد حماية خلقه من عوامل الدمار، ولذا وصف الله عباده المؤمنين بالبراءة منها كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68].
وقد ذكر الله سبحانه سنته في عقوبة الذين يتكبرون في الأرض في الحق بقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)}
…
[الأعراف: 146].
عاقبهم سبحانه بصرفهم عن آياته، فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها، آياته في كتابه المنظور وآياته في كتبه المنزلة على رسله.
وذلك لأنهم تكبروا وكذبوا بآيات ربهم، فكانوا عنها غافلين.
فالكبرياء صفة لله وحده؛ لا يقبل فيها شريكاً، وحيثما تكبر الإنسان في الأرض كان ذلك تكبراً في الأرض بغير حق.
وشر التكبر: ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله، وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر، فهو أساس الشر كله، ومنه ينبعث ويتفجر.
وهؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق جبلتهم مقلوبة ضالة، تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها.
وهذا الصنف من الناس موجود مشهود، يتجنب الرشد، ويتبع الغي، دون جهد
منه، ودون تفكير ولا تدبر.
فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه، إنه يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً ويعمل بذلك، ويدعو إلى ذلك، وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله الكونية والشرعية، لا يراها ولا يتدبرها، ولا تتأثر بها نفسه، فما أعظمها من عقوبة؟.
وما يظلم الله هذا الصنف من الناس بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله، ويغفل عنها:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)} [الأعراف: 147].
إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المتلوّة التي يحملها الرسل، ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر، إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المسلم ونواميسه، لا تربطه بهذا الكون رابطة.
وكل عمل يصدر عن هذا المسيخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح، كالدابة التي تأكل النبات السام فتنتفخ فيحسبه الناس عافية وسمنة، وإنما الهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط.
وكلما تكررت جريمة الكذب والافتراء على الله تكررت العقوبة كما حصل من بني إسرائيل حين عبدوا العجل كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}
…
[الأعراف: 152].
فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله، وقد كتب الله على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة، وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب.
فإذا بدا في فترة من الفترات أن بني إسرائيل يطغون في الأرض ويستعلون،
وأنهم يملكون سلطان المال والإعلام، وأنهم يستذلون بعض عباد الله، ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية، والدول الضالة تساندهم، فليس هذا بناقض لوعيد الله ولا لما كتبه عليهم.
فهم بظلمهم وأفعالهم وصفاتهم السيئة يختزنون النقمة في قلوب البشر، ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب.
غير أن هذه حالة لا تدوم، إنها فترة غيبوبة المسلمين عن سلاحهم الوحيد، فإذا عادوا إلى ربهم ردوا هؤلاء إلى الذلة التي كتبها الله عليهم.
أما الذين يعملون السيئات، ثم يتوبون إلى الله، فإن الله يتوب عليهم، ويغفر لهم، وهذه سنة الله في كل زمان ومكان:{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}
…
[الأعراف: 153].
وما أكثر الذين يعطون علم دين الله ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى به.
وكم من عالم يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوي المطلوبة لسلطان الأرض الزائل.
وما أكثر ما يتكرر هذا النوع من علماء البشر، يعطيه الله نعمة العلم ثم ينسلخ من آيات الله، ويخلد إلى الأرض، ويتبع الهوى، فيستند له الشيطان، ويلهث وراء الحطام الذي يملكه أصحاب الجاه والسلطان.
فليحذر العبد أن يوقعه الشيطان في حبائله فيهلك: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)} [الأعراف: 175].
إنه مثل لكل من آتاه الله علماً فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان، يلهث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا مقبلاً ومدبراً.
يلهث، سواء وعظته أم لم تعظه، يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا إلى نار جهنم.
إن الإسلام يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم النفس وعالم الحياة الدنيا إلى نار جهنم.
إن الإسلام يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم النفس وعالم الحياة فور استقرارها في القلب والعقل.
وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع .. وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول.
فالعقيدة والعلم في صورة نظرية للدراسة، هذا مجرد علم لا ينشئ في عالم الإنسان وعالم الحياة شيئاً كما هو واقع الآن.
إنه علم بارد لا يعصم من الهوى، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً، ولا يدفع الشيطان، بل ربما ذلل له الطريق وعبدها.
وقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب الاستئصال من عند الله، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها، ثم يمضون في التكذيب.
ذلك لأنها رسالات مؤقتة لأمة من الناس، ولجيل واحد من هذه الأمة.
فأما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهي خاتمة الرسالات، لجميع الأقوام، وجميع الأجيال إلى يوم القيامة، فكانت معجزتها القرآن الكريم باقية أبد الدهر، تتدبرها الأجيال بعد الأجيال، وتؤمن بها أجيال وأجيال، وأمم وشعوب، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن ثم اقتضت الحكمة الإلهية ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال، وأن يقع العذاب والعقوبات على أفراد منها في وقت معلوم.
وكذلك كان الحال في الأمم قبلها من اليهود والنصارى، فلم ينزل بهم عذاب الاستئصال العام.
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة، ولا نفس جادة، وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة ليؤمن من يتهيأ للإيمان.
ولم يحل عذاب الاستئصال بكفار أهل الكتاب، ولا بكفار هذه الأمة؛ لأن لهم
كتاباً، والذين لهم كتاب من أتباع الرسل وغيرهم كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة.
لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره وتعمل به كالجيل الذي أنزل فيه، والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل من حضرها، فإما أن يؤمن بها فينجو ويسعد، وإما أن لا يؤمن بها فيأخذه العذاب.
والتوراة والإنجيل كتابان كاملان معروضان للأجيال، حتى جاء الكتاب الأخير القرآن، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعاً.
يدعى إليه الناس جميعاً .. ويعمل به الناس جميعاً .. ويحاسب على أساسه الناس جميعاً بما فيهم أهل التوراة والإنجيل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
وإذا كان عذاب الاستئصال قد أُجِّل ورُفع عن كفار قوم موسى، وقوم عيسى، وقوم محمد، على السواء، فإنهم سيوفون ما يستحقون بعد الأجل، ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق، فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم وأسلافهم:{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}
…
[هود: 109 - 110].
وإذا كان العذاب قد أجل، فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها، يوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع:{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)} [هود: 111].
والأمم السالفة التي أهلكها الله بعذاب الاستئصال، لو كان فيهم أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ الله تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بها،
فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}
…
[هود: 116 - 117].
فتلك القرى فيها قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة فأنجاهم الله، وكان فيها كثرة من المترفين المكذبين، فأهلك القرى بأهلها الظالمين، وهذه سنة من سنن الله في الأمم.
فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله في أي صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير.
فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويُفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها إما بهلاك الاستئصال، وإما بهلاك الانحلال والاختلال.
إن أصحاب الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له هم صمام الأمان للأمم والشعوب في كل زمان ومكان.
إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والعقوبة.
وإذا قدر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدفعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، وعاثوا في الأرض فساداً، فحقت عليهم سنة الله، وأصابها الهلاك والدمار.
وهي المسئولة عما حل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين.
فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق، فلم تسمح لهم بالظهور فيها، ما استحقت الهلاك، وما
سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد، فيقودها إلى الهلاك كما قال سبحانه:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}
…
[الإسراء: 16].
والله عز وجل قد جعل للحياة البشرية سنناً لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج، فتنفذ إرادة الله، وتحق كلمته:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} [الأحزاب: 38].
إن مسئولية الأمة عظيمة، وستتحمل تبعة ترك النظم الفاسدة تنشي آثارها السيئة التي لا مفر منها، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها، فيحق عليها القول فيدمرها تدميراً.
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح قرناً بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} [الإسراء: 17].
ولقد كان المشركون في مكة يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين، فيستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم بالعذاب على سبيل التحدي كما قال سبحانه:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)} [العنكبوت: 53].
وكثيراً ما يكون إمهال الله استدراجاً للظالمين؛ ليزدادوا عتواً وفساداً، أو امتحاناً للمؤمنين؛ ليزدادوا إيماناً وثباتاً، وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات، أو استبقاءً لمن يعلم الله سبحانه أن فيهم خيراً من أولئك المنحرفين .. حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى، أو استخراجاً لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه، ولو كان آباؤهم من الضالين، أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور.
إن أحوال الحياة وأوضاعها مربوطة بأعمال الناس وكسبهم، وإن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا
الفساد كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه، لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة، وإنما حصل بإذن الله، ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشر والفساد حينما يكتوون بناره، لعلهم يرجعون، فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح، وإلى الصراط المستقيم.
والذين كفروا ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس، وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع، وشاقوا الله ورسوله، وآذوا الرسول في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة لما جاء به، والوقوف في غير صفه، أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه، ومحاربة المتبعين لسنته، والقائمين على دعوته، وذلك من بعد ما تبين لهم الهدى، وعرفوا أنه الحق، ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد.
فهؤلاء كلهم لن يضروا الله شيئاً، فهم أضعف وأضأل من أن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته، مهما بلغت قوتهم، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت.
فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها، وليست ضراً لدينه ومنهجه وعباده القائمين على شرعه ومنهجه.
والعاقبة مقررة فسيحبط أعمالهم فتنتهي بهم إلى الخيبة والدمار، كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام فتهلك:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)} [محمد: 32].
والفرصة متاحة لهؤلاء الكفار والعصاة في الدنيا فقط بأن يتوبوا إلى ربهم، فباب التوبة لا زال مفتوحاً للكافر والعاصي حتى يغرغر، فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)} [محمد: 34].
والعقوبات التي أنزلها الله في الأرض بقيت آثاراً سارية في الأرض تطلب ما يشاكلها من الذنوب، فهذه الآثار في الأرض من آثار العقوبات، كما أن هذه المعاصي من آثار الجرائم، وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية، والأخف للأخف:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)} [النمل: 69].
وكل من أعرض عن دين الله وشرعه قارنه الشيطان عقوبة له، والشيطان إذا قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره ورزقه، وقوله وعمله:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
…
[الزخرف: 36 - 37].
ولما أثرت طاعة الشيطان في الأرض ما أثرت نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته، وكذلك سكنه لما كان في الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة.
فكم يحصل للعبد المعرض عن ربه من الشرور والآثام بسبب مقارنة الشيطان له: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)}
…
[النساء: 38].
وإذا اتصف قلب الإنسان بالمكر والخديعة، والفسق والبلادة، وانصبغ بذلك صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير، والكلاب والحمير، حتى يبدو على صفحات وجهه بدواً خفياً، ثم يصير ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة كما قلب الصورة الباطنة، يرى ذلك من له فراسة تامة عقوبة من الله.
فقلّ أن ترى مكاراً وخداعاً إلا على وجهه مسحة قرد .. وقل أن ترى رافضياً إلا على وجهه مسحة خنزير .. وقل أن ترى شرهاً نهماً إلا على وجهه مسحة كلب.
فالظاهر مرتبط بالباطن.
وإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الباطنة،
ولهذا خوف النبي صلى الله عليه وسلم من سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار؛ لمشابهته الحمار في البلادة وعدم الفطنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يُّحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» متفق عليه (1).
وأحق الناس بالمسخ أهل الباطل، وأهل الأهواء، وأهل الغناء، فهؤلاء أسرع الناس مسخاً قردة وخنازير لمشابهتهم لهم في الباطن.
وكل من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلاً وآجلاً، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنئوه، وعلى مخلفه وزره.
وكذلك من رفَّه بدنه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله أتعبه الشيطان أضعاف ذلك في غير سبيل الله ومرضاته، وهذا أمر معلوم.
وإبليس لما امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل، صيره الله أذل الأذلين، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وعباد الأصنام لما أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه، رضوا أن يعبدوا آلهة أخرى من الأحجار.
فكل من امتنع أن يذل لله أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لا بدَّ أن يذل لما سواه من الخلق، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبة له.
ومن امتنع أن يمشي خطوات في طاعة الرب ابتلي أن يمشي أكثر منها في غير طاعته: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن: 17].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (691)، ومسلم برقم (427) واللفظ له.
والذنب لا يخلو من عقوبة البتة، وترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والكسر على الانكسار.
وقد تقارن المضرة الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيراً وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه.
وأعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته.
ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال سبحانه:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6].
فلم يجمع الله على أحد من الوعيد والعقوبة مثل ما جمع على أهل الشرك، فإنهم ظنوا به ظن السوء.
ولا يتم إيمان العبد إلا إذا آمن بالله، ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شؤونه في الأنفس والأموال والأعراض وإلا كان عابداً لغيره.
فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه فهو العابد له، ومن خضع لغيره، وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)}
…
[النساء: 60].
وعبادة الله وحده والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
والحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، والإعراض عن حكم الله تعالى سبب في حلول عقابه وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين كما قال سبحانه: {وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 49 - 50].
والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالعقوبة وحدها، إنما يرفع سيف العقوبة ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف.
فأما اعتماده الأول فعلى الدعوة إلى الله، وتقوية الإيمان، وتربية القلب، وهداية الروح، وتقويم الطبع، إلى جانب إقامة المجتمع الذي تنمو فيه بذرة الخير وتزكو، وتذبل فيه نبتة الشر وتذوي، لذلك ما يكاد السياق القرآني ينتهي من الترويع بالعقوبة حتى يأخذ طريقه إلى القلوب والضمائر والأرواح، يستجيش فيها مشاعر التقوى، ويرغبها بالحسنى كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}
…
[البروج: 10].
…
[البروج: 11].
وقد بشر الله بالجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].
فالمبشِّر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قام مقامه من أمته.
والمبشَّرون هم الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة التي تصلح بها أحوالهم، وأمور دينهم ودنياهم، وأحوالهم الدنيوية والأخروية.
والمبشر به هي الجنات الجامعة للأشجار العجيبة، والثمار اليانعة، والظل الممدود، والأنهار الجارية بالماء واللبن والخمر والعسل، والعيون العذبة
الصافية يفجرونها تفجيراً، وسرر مرفوعة، وأزواج مطهرة من كل عيب ودنس، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، قاصرات الطرف على أزواجهن.
والسبب الموصل لهذا النعيم كله الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما.
فهذه أعظم بشارة للبشرية كلها .. وهي حاصلة على يد أفضل الخلق كلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. بأفضل الأسباب وهي الإيمان والعمل الصالح .. الموصل لأفضل نعيم وهو الجنة ورضوان الله عز وجل.
والمؤمنون الذين يستحقون الجنة لهم صفات، ولهم أعمال، ولهم وظائف، إذا قاموا بها رحمهم الله وأسكنهم الجنة، وقد وصفهم الله بقوله سبحانه:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71].
فهؤلاء أعد الله لهم من الثواب العظيم، والنعيم المقيم، ما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولا خطر على قلب بشر كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
…
[التوبة: 72].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم وجميع المسلمين منهم.
فالإيمان والطاعات سبب للنجاة وحصول الحسنات، والكفر والمعاصي سبب للهلاك وحصول السيئات.
والطاعات كلها شعب من شعب الإيمان، والمعاصي كلها شعب من شعب الكفر.
وشعب الإيمان أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة والزكاة والحج والصيام
من شعب الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخوف والتعظيم والمحبة والخشية كل ذلك من شعب الإيمان، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق.
وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة.
ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً.
وشعب الإيمان قسمان: قولية .. وفعلية.
وكذلك شعب الكفر: قولية .. وفعلية.
فحقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل.
والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام.
والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، وهي الأعمال الظاهرة فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، وكما يكفر الإنسان بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم.
والعقوبات الشرعية أدوية نافعة، يُصلح الله بها أمراض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، والدين كله شفاء ورحمة للعباد:{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [الأعراف: 203].
فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذين أعان على عذابه وهلاكه وإن كان لا يريد إلا الخير.
فدين الله هو طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، المبني على محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، فإن الرأفة والرحة يحبهما الله
ما لم تكن مضيعة لدين الله وحدوده.
والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين وصلة الرحم ما يأمر به الله وسوله صلى الله عليه وسلم، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتعدى الحدود.
وهذا كله من الإسراف والله لا يحب المسرفين.