المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌9 - فقه الحساب

‌9 - فقه الحساب

قال الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}

[البقرة: 284].

وقال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].

إن الله تبارك وتعالى يحاسب الخلائق في الآخرة، ويجازيهم على ما عملوا من خير أو شر في الدنيا:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}

[الأنعام: 160].

والشياطين يهيِّجون الكفار إلى المعاصي، فهم مسلَّطون عليهم بسبب كفرهم، وهم ممهلون إلى أجل قريب، وكل شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 83 - 84].

فيا ويل من يعدّ الله عليه ذنوبه، وأعماله، وأنفاسه، ويتتبعها، ليحاسَبَ الحساب العسير عليها.

إن الذي يحس أن رئيسه في الأرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف، ويعيش في قلق وحسبان، فكيف بالله المنتقم الجبار؟.

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105].

وكل إنسان محاسب على عمله وحده، وكل نفس لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، وكلٌّ سوف يحمل حِمْلَه وحده، لا يعينه عليه أحد، ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه، وهو الكاسب وحده دون سواه، والأمر كله صائر إلى الله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ

ص: 3498

وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر: 18].

إن شعور كل فرد بأنه مجزي بعمله، لا يؤاخَذ بكسب غيره، ولا يتخلص هو من كسبه، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل أن تحاسَب، مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء، أو أن يحمل أحد عنه شيئاً.

كما أنه عامل مطمئن، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة غيره، ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة.

كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح، وكل يحمل أثقاله ويمضي في طريقه حتى يقف أمام الميزان:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}

[الأنبياء: 47].

وإلى الله المصير، فهو المحاسب والمجازي، فلا يذهب عمل صالح، ولا يفلت عمل سيئ، ولا يوكل الحكم إلى غير الله ممن يميلون أو ينسون أو يهملون.

إن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله، وهذا حق.

ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال، وكلفه اختيار الهدى، وأمره به، ورضيه له كما قال سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}

[الحجرات: 7 - 8].

فالله عز وجل خلق الإنسان قابلاً لهذا وهذا، فكل إنسان قابل للهدى والضلال، والخير والشر، ولا يتجه إلى هذا أو هذا إلا بمشيئة الله كما قال سبحانه:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].

وحساب العباد كلهم سيقع على ما اختاروا في الدنيا من الحق أو الباطل كلهم: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].

ص: 3499

وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).

والله جل جلاله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال، يَفْرَغ يوم القيامة لحساب هذين الخلقين الضعيفين: الجن والإنس، وفي وعيد وانتقام كما قال سبحانه:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}

[الرحمن: 31].

يا لَلْهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان، ولا تقف له الجبال الرواسي.

والله سبحانه ليس مشغولاً فيفرغ، ولا يشغله شأن عن شأن في خلقه وتدبيره.

فهذا الوجود كله أنشأه الله بكلمة واحدة (كن) فيكون على ما أراد.

وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50].

فكيف تكون حال الثقلين، والله يفرغ لهما وحدهما، ليتولاهما بالحساب والانتقام من كل مجرم، والإكرام لكل مؤمن.

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 48 - 49].

ولا يستطيع أحد أن يفر من الله، فكل الكون ملكه، وكل أحد في قبضته، وكل عبد ناصيته بيده، وكل أحد سيقف للحساب، وينال جزاء عمله.

وأنى للإنس والجن أن يَنْفُذُوا، أو يهربوا من ملك الله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا

(1) أخرجه مسلم برقم (2577).

ص: 3500

بِسُلْطَانٍ (33)}

[الرحمن: 33].

وفي يوم القيامة مواقف شتى:

منها ما يُسأل فيه العباد .. ومنها ما لا يُسألون فيه عن شيء .. ومنها ما تجادل فيه كل نفس عن نفسها .. وما يلقى به التبعة على شركائها .. ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام.

فهو يوم طويل مديد .. وكل موقف من مواقفه هائل مشهود.

وهنا موقف لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن: 37 - 39].

وذلك حين تُعرف صفة كل فرد وعمله، فيؤخذ كلٌّ إلى داره:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} [الرحمن: 41].

أما أهل الجنة فيساقون وفداً مكرمين إليها كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} [الزمر: 73 - 74].

ويوم القيامة، وبعد الحساب يكون الناس ثلاثة أقسام:

أصحاب الميمنة

وأصحاب المشأمة .. والسابقون المقربون.

قال الله تعالى في أقسام الناس يوم القيامة: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 7 - 11].

أما بيان قدرهم عند الله .. وتفصيل ما أعد الله لهم .. وتعديد أنواعه .. فهو يختلف بحسب عملهم.

فأعلاهم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

ص: 3501

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 10 - 26].

فهؤلاء عدد محدود، وفريق منتقى، كثرتهم في الأولين، وقلَّتهم في الآخِرِين، وهم في ذلك النعيم الكامل، جزاء ومكافأة على حسن عملهم في الدنيا.

أما أصحاب اليمين فهم فريق آخر في الجنة دون السابقين الأولين، وهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخِرِين كما قال سبحانه:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 27 - 40].

وأما الفريق الثالث فهم أصحاب الشمال، أصحاب النار كما قال سبحانه:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [الواقعة: 41 - 56].

والله عز وجل يدعو عباده المؤمنين إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه في الدنيا للآخرة قبل القدوم عليها بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18].

فالتقوى تجعل القلب يقظاً، حساساً، شاعراً بالله في كل حالة، وتجعله خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطَّلع عليه الله في حالة يكرهها.

ص: 3502

والتقوى تُذكِّر العبد بربه، وتفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته.

فيمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه.

ونظر العبد ماذا قدم لغده كفيل بأن يوقظه إلى مواضع الضعف، ومواضع النقص، ومواضع التقصير في حياته، مهما يكن أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً.

إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب.

وكما يدعو الله عباده إلى اليقظة والتذكر، ومحاسبة أنفسهم، كذلك يحذرهم من نسيانه بقوله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)}

[الحشر: 19].

إن الذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، والقصد من خلقه.

وهذا النسيان لربه مرض في القلب ينشأ عنه نسيانه لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.

فأي خسارة تحل بالإنسان إذا تمرغ في الدنيا بما يسخط الله، وغفل عن الآخرة، ورحل إليها بزاد إلى النار؟.

وتُعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}

[الحاقة: 18].

والكل مكشوف من الخلق:

فكل إنسان مكشوف الجسد .. مكشوف النفس .. مكشوف القلب .. مكشوف العمل .. مكشوف المصير .. وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار.

وتتعرَّى النفوس تعرِّي الأجساد .. وتبرز الغيوب بروز الشهود .. ويتجرد الإنسان من حيطته، ومن مكره، ومن تدبيره، ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصاً على أن يستره حتى عن نفسه.

ص: 3503

وما أقسى الفضيحة على الملأ .. وما أخزاها على عيون الجموع.

أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن، ويوم القيامة كل شيء بارز في الكون كله، والأرض مدكوكة مسوَّاة لا تَحجب شيئاً، والسماء منشقة واهية لا تحجب شيئاً، والأجساد معراة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك ليس من دونها ستر، وليس فيها سر.

ألا إنه لأمر عصيب .. أعصب من دك الأرض والجبال، وأشد من تشقق السماء، وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان الحياة، عريان العمل، ما ظهر منه وما استتر.

إنه يقف أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 13 - 18].

ألا ما أشد هذه الحال التي سيقف فيها كل إنسان وهو عريان الجسد والقلب، والنية والشعور، عريان من كل ساتر.

كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار؟ .. وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟.

ألا إنه لأمر أَمَرّ من كل أَمْر ومن كل مر ..

وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين كأنه حاضر تراه العيون: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} [الحاقة: 19 - 24].

فهذا مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة، تملأ الفرحة جوانحه، وتغلبه على لسانه فيهتف:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)} [الحاقة: 19].

ص: 3504

أما مشهد المعذبين الهالكين فقد ذكره الله بقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 25 - 37].

فهذا مشهد الخاسر الذي عرف أنه مؤاخذ بسيئاته، وأن العذاب مصيره، فيقف في هذا المعرض الحاشد الحافل وقفة المتحسر الكسير الكئيب.

ثم يصدر الأمر من العلي الأعلى، فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل، ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب، كلهم يبتدر هذه النطفة الصغيرة المكروبة المذهولة.

إنه قد خلا قلب هذا الإنسان من الإيمان بالله، والرحمة بالعباد، فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار، وذلك العذاب، فهو مَسْخٌ من الكائنات لا يساوي الحيوان، بل لا يساوي الجماد.

فكل شيء مؤمن يسبح بحمد ربه موصول بمصدر وجوده، أما هو فمقطوع من الله، مقطوع من الوجود المؤمن بالله.

ثم يعلن الله عن تكملة جزاء ذلك الشقي عن جرمه: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 35 - 37].

وكل نفس عليها من أمر الله رقيب كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4].

وما من نفس إلا عليها حافظ يراقبها، ويحصي عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله، فالنفس مستودع الأسرار والأفكار، وهي التي يناط بها العمل والجزاء.

إن الناس ليسوا متروكين يفعلون كيف شاؤوا بلا رقيب، إنما هو الإحصاء

ص: 3505

الدقيق المباشر، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18].

فالنفس ليست في خلوة أبداً وإن خلت، فهناك الحافظ الرقيب عليها، حين تنفرد من كل رقيب، وتتخفى عن كل عين، وتأمن من كل طارق.

هناك الحافظ الذي يكشف كل غطاء، وينظر إلى كل مستور.

والحساب يكون على ما يرتكبه الإنسان من المعاصي، سواء كانت بأمر النفس، أو بإغواء الشيطان، ولا يكون الحساب على أمور جبرية لا يملك الإنسان فيها حق الاختيار، فالقهر يُسقط الحساب عن البشر، وإبليس لا يستطيع أن يقهر أحداً على المعصية، ولكنه يغريه ويزين له، فإذا استجاب سقط، وإذا استعان بالله نجا وسلم.

والشيطان لا يستطيع أن يقودك إلى الشر رغماً عنك، ولكن باختيارك يوقعك في إغرائه، واستجابتك له.

فالحساب يتم على أمر اختياري تستطيع أن تفعله أو لا تفعله بإرادة منك، وهنا يكون الحساب عدلاً؛ لأنك أنت الذي اخترت.

وكيد الشيطان ضعيف، لماذا؟.

لأن الله معك يمنعك منه إن استعنت به، ولأن أمر الشيطان عَرْض وإغراء، لا قهر ولا إجبار، ولو كانت نفسك قوية لاستطعت أن تتغلب عليه.

وإبليس لا يستطيع أن يرغم أحداً على عمل، ولا يملك الحجة الصحيحة للإقناع بالإثم.

ولكن المسألة أنه يملك النفس الضعيفة، ويستطيع أن يغريك أو يوهمك بشيء كاذب، حتى إذا ارتكبته وجدت النتيجة غير ما قال.

والتهافت على الدنيا يدفعنا إلى أن لا نتنبه لكيد الشيطان، فيغفل الإنسان، فيدخل الشيطان ويغري الإنسان بالمعصية كما قال سبحانه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}

[فاطر: 6].

ص: 3506

وجميع ما في السموات والأرض ملك لله عز وجل، وعبيد له، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

هو الذي خلقهم ورزقهم ودبر أمورهم، ووفقهم لمصالحهم الدينية والدنيوية.

وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، وسيحاسبهم على ما أسروه وما أعلنوه.

فيغفر لمن يشاء ممن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره كما قال سبحانه:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284].

والله تبارك وتعالى حُكْمه العدل، وقضاؤه القسط، يضع لعباده يوم القيامة الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر، وتوزن بها الحسنات والسيئات، فلا تُظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئاً، فلا يزاد في سيئاتها، ولا يُنقص من حسناتها كما قال سبحانه:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47].

والله عز وجل سريع الحساب يعلم جميع أعمال العباد، حافظ لها، مثبت لها في الكتاب، عالم بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها، عالم بمستحقها، موصل للعمال جزاءها مهما كانت:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49].

فلا يخشى المجرمون أن الله يعذبهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبون أنه يُضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة، بل كل ذرة من خير أو شر معدودة مكتوبة معروضة على من عملها كما قال سبحانه:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}

[الزلزلة: 7 - 8].

ويجمع الله عز وجل جميع الخلائق للحساب في ساحة واحدة في عرصات

ص: 3507

القيامة حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس منهم في ذلك اليوم كمقدار ميل كما قال صلى الله عليه وسلم:«تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ» .

قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ.

قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» .

قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ اللهِ (بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم (1).

ويجيء الله عز وجل َيوم القيامة لفصل القضاء، فتشرق الأرض بنور ربها، وتخشع الخلائق لهيبة الله وعظمته وجلاله كما قال سبحانه:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}

[الفجر: 22].

وقال سبحانه: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه: 108]. وإذا حشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، واشتد كربهم لطول العناء والانتظار، وشدة الأهوال، رغبوا إلى ربهم أن يحكم فيهم، فإذا طال موقفهم وعظم كربهم ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله ليفصل بينهم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ» متفق عليه (2).

ثم يفصل الله بين الناس، ويحاسبون على أعمالهم، فتعطى الكتب، وتوضع الموازين، ويحاسب كل فرد، فآخذ كتابه بيمينه إلى الجنة، وآخذ كتابه بشماله إلى النار:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75].

(1) أخرجه مسلم برقم (2864).

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194) واللفظ له.

ص: 3508

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.

قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْواً» . قُلْنَا: لا.

قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا» .

ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأصْحَابُ الأوْثَانِ مَعَ أوْثَانِهِمْ، وَأصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ.

ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ.

ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ.

حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا.

قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأوْهُ فِيهَا أوَّلَ مَرَّةٍ. فَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ.

فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لله رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً.

ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْجَسْرُ؟.

قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عَقِيفة، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ

ص: 3509

فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أنْتُمْ بِأشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مَنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ.

وَإِذَا رَأوْا أنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، وَيُّحَرِّمُ الله صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.

فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.

ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.

ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا».

قَالَ أبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَؤُوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40].

«فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أقْوَاماً قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أبْيَضَ.

فَيَخْرُجُونَ كَأنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» متفق عليه (1).

فما أشد تلك الأهوال، وما أعظم ذلك الموقف بين يدي الله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439) واللفظ له، ومسلم برقم (183).

ص: 3510

إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 6 - 12].

والحساب يوم القيامة عام لجميع الخلق إلا من استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم سبعون ألفاً من هذه الأمة يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب كما قال النبي (:«يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» . قَالُوا: مَنْ هُمْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» أخرجه مسلم (1).

والمحاسبون يوم القيامة صنفان:

أحدهما: من يحاسب حساباً يسيراً وهو العرض.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ أحَدٌ يُّحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا هَلَكَ» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ألَيْسَ قَدْ قَالَ الله تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [ٍٍالانشقاق: 7 - 8]. فَقَالَ رَسُولُ الله (: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عُذِّبَ» متفق عليه (2).

الثاني: من يحاسب حساباً عسيراً، ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فإن صدق فبها ونعمت، وإن حاول الكذب أو الكتمان فإنه يختم على فمه، وتستنطق جوارحه كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65].

والكفار يحاسبون وتعرض عليهم أعمالهم يوم القيامة توبيخاً لهم، وهم متفاوتون في العذاب، فعقاب من كثرت سيئاته، أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن له حسنات منهم يخفف عنه العذاب لكنه لا يدخل الجنة.

وأول من يحاسب من الأمم يوم القيامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما يحاسب عليه

(1) أخرجه مسلم برقم (218).

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6537) واللفظ له، ومسلم برقم (2876).

ص: 3511

المسلم يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.

وجميع الكفار والمنافقين لا تقبل قُرَبُهم وطاعاتهم، لفقدها شرطها وهو الإيمان كما قال سبحانه:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}

[إبراهيم: 18].

وكل إنسان سوف يسأل ويحاسب على الأمانة التي تحملها، وقد حذرنا الله عز وجل من خيانة الأمانة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].

فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها استحق من الله العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته.

والأمانة هي الشيء الذي يجب أن يُّحفظ، ثم يؤدى إلى صاحبه.

والأمانة ثلاثة أقسام:

الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عُهِد إليه حفظه، والقيام به من الإيمان بالله، والاستقامة على دينه، وتعليم دينه، والدعوة إليه، وامتثال جميع أوامره، واستعمال قلبه وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وهذه أعظم الأمانات التي يجب أداؤها.

والطاعات كلها من الأمانة، فمن أداها فقد أدى الأمانة، والمعاصي كلها من الخيانة، فمن فعلها فقد خان الأمانة، وخان الله عز وجل.

الثاني: أمانة العبد مع الناس، كرد الودائع إلى أهلها، وإيفاء المكيال والميزان، ونصح الخلق، وعدم غشهم، وحفظ السر، ونحو ذلك مما يجب أداؤه للناس والحكام.

ومنه عدل الأمراء مع الرعية .. وعدل العلماء مع العوام بتعليمهم الأحكام التي تُقوِّي إيمانهم، وتصلح بها عباداتهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم

ص: 3512

وأخراهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر.

الثالث: أمانة الإنسان مع نفسه، بأن لا يختار إلا ما هو الأصلح له والأنفع له في الدين والدنيا.

فلا يُقْدِم على عمل يضره في دنياه وآخرته، كأن يتوقى أسباب الأمراض والأوبئة، ويغتنم عمره في اكتساب مرضاة الله بالقيام بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى ربه.

فيغتنم شبابه قبل هرمه .. وصحته قبل سقمه .. وغناه قبل فقره .. وفراغه قبل شغله .. وحياته قبل موته.

ص: 3513