الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - فقه خطوات الشيطان
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208].
خطوات الشيطان وطرقه يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح، فالشيطان يأمر بكل ما تستفحشه العقول والشرائع من الذنوب العظيمة، والكبائر المهلكة، وكل ما تنكره العقول ولا تعرفه من المعاصي والفواحش، ولولا فضل الله ورحمته على العباد ما تطهر أحد من اتباع خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يسعى هو وجنده في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميّالة إلى السوء، أمّارة به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، فلو خُلِّى وهذه الدواعي ما زكا أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات، والنماء بفعل الحسنات.
ولكن الله بفضله ورحمته يزكي من يعلم منه أنه يتزكى بالتزكية كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21].
وقد أمر الله المؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة، ويعملوا بجميع شرائع الإسلام، ولا يتركوا منها شيئاً، فيفعل المسلم كل ما يقدر عليه من الأعمال الصالحة، وما يعجز عنه ينويه فيدركه بنيته.
ولا يمكن الدخول في السلم كافة إلا باتباع شريعة الرحمن، ومخالفة طرق الشيطان في العمل بمعاصي الله، فالشيطان يأمر بكل سوء وفاحشة، وبكل منكر وضرر، وبكل محرم وقبيح.
فالسبل التي يسلكها الإنسان أربعة:
اليمين .. والشمال .. والأمام .. والخلف.
وأي سبيل سلكها الإنسان من هذه وجد الشيطان عليها رصداً له.
فإن سلكها العبد في طاعة وجد الشيطان عليها يثبطه عنها ويبطِّئه ويعوقه، وإن سلكها في معصية وجده عليها حاملاً له، وخادماً، ومعيناً ومزيناً كما قال سبحانه عنه:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
…
[الأعراف: 16، 17].
فالشيطان يضل الناس ويغويهم، ويستعمل لتحقيق مراده منهم هذه الجهات الأربع، فبقى للإنسان جهتان: الفوق .. والتحت، لا يقدر عليهما الشيطان، فإذا رفع الإنسان يديه إلى الله في الدعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته ساجداً لله على الأرض على سبيل الخشوع والخضوع، غفرت ذنوبه؛ لأن الباب مفتوح، والدعاء مسموع، والتوجه إلى الله حاصل.
وخطوات الشيطان في إفساد الدين والأخلاق والعباد كثيرة جداً، وأشدها وأخطرها ما كان مزيناً للناس بصورة الحق ومن ذلك:
أن الله عز وجل أمر بإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، ونهى عن الشرك بالله، ثم أظهر الشيطان للمسلمين الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم.
ومنها أن الله سبحانه أمر بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، ثم أظهر الشيطان للأمة أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وتحول العلم الشرعي إلى خلاف وجدل فرَّق الأمة إلى شيع وأحزاب ومذاهب متناحرة، وصار الأمر بالاجتماع في الدين مستحيل لا يقوله إلا أحمق أو مجنون.
ومنها أن الله سبحانه أمر بالسمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً إلا
في معصية الله، ثم صار هذا الأصل بسبب كيد الشيطان لا يعرف عند كثير ممن يدعي العلم فكيف العمل به؟.
ومنها أن العلم الشرعي هو ما جاء عن الله ورسوله (، ثم أظهر الشيطان للأمة أن العلم والفقه في الدين هو البدع، ومعرفة الخلاف وأصول الجدل.
وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا منافق أو جاهل بزعمهم، وصار من أنكره وعاداه وجَدَّ في التحذير منه هو الفقيه العالم.
ومنها ترك القرآن والسنة، واتباع الآراء والأهواء المختلفة، بحجة أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا العالم المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا مما يتعذر وجوده.
ومنها أن الله عز وجل ذكر أنه أنزل القرآن ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فزين لهم الشيطان أن الأمر ضد ذلك، وأنهم ما تأخروا إلا بسبب التمسك بالقرآن.
وذكر سبحانه أن الإيمان سبب للعلو والعز في الدنيا والآخرة، فأظهر الشيطان للناس أن العلو والرفعة والشرف بتعلم علم اليهود والنصارى، فأقبلوا على ذلك، وجفا أكثرهم كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأنزل الله القرآن عربياً لعلهم يفقهونه، فزين لهم الشيطان ضد ذلك، فأقبلوا على تعلم الكتب الأعجمية لظنهم سهولتها، وصعوبة فهم القرآن.
ومنها أن الله ذكر أن الأمة لو عملت بالدين الحق لصلحت دنياها وأخراها، فزين لهم الشيطان ضد ذلك، وذكر سبحانه أنه الله أنزل القرآن تفصيلاً لكل شيء، وأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأنه من يتوكل على الله فهو حسبه، فأظهر لهم الشيطان أن الأمر بخلاف ذلك.
وذكر الله أن تزوج الفقير سبب لغناه، وأن صلة الرحم، وإخراج الزكاة سبب لزيادة المال وكثرته، فظن الأكثر أن الأمر بخلاف ذلك، وتُركت الزكاة خوفاً من نقصه، وغير ذلك مما زينه الشيطان وأضل به العباد مما عم وطم: {وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].
وكيد الشيطان خفي ماكر، فكم اصطاد به من الرجال والنساء، ومن العلماء والخاصة والعامة.
والمداخل التي يأتي الشيطان من قِبَلها إلى الإنسان ثلاثة:
الشهوة .. والغضب .. والهوى.
فالشهوة بهيمية، وبها يصير الإنسان ظالماً لنفسه، ومن نتائجها الحرص والبخل.
والغضب سبعية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وأشد خطراً، وبالغضب يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وظالماً لغيره، ومن نتائجه العجب والكبر.
والهوى شيطانية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وأعظم من الغضب، وبالهوى يكون الإنسان ظالماً لنفسه، وظالماً لغيره من المخلوقات، ويتعدى ظلمه إلى خالقه بجحد حقه بالكفر والشرك والمعاصي، ومن نتائجه الكفر والبدعة.
وأكثر ذنوب الخلق بهيمية؛ لعجزهم عن غيرها، ومنها يدخلون إلى بقية الأقسام، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112].
وجميع الشرور في العالم إنما سببها الشيطان، فهو يجتهد على بني آدم بكل ما يستطيع من وسائل ليخرجهم من الحق إلى الباطل، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن السنة إلى البدعة، ومن الطاعات إلى المعاصي.
وللشيطان خطوات وطرق ووسائل يسلكها لإضلال الناس عن الهدى.
وللشيطان شرور كثيرة، ولكن ينحصر شره في سبع خطوات، ولا يزال بابن آدم حتى يوقعه في واحدة أو أكثر، وهي كما يلي:
الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله، فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى يخرجه من الإيمان إلى الكفر، ومن التوحيد إلى الشرك، وهذه أعظم شروره وأكبرها وأخطرها، فإن عجز عنه نقله إلى ما بعده وهو:
الشر الثاني: وهو شر البدعة التي هي باب الكفر والشرك، فإن يئس منه نقله إلى ما بعده وهو:
الشر الثالث: شر الكبائر على اختلاف أنواعها، فإن عجز عنه نقله إلى ما دونها وهو:
الشر الرابع: شر الصغائر من الذنوب التي ربما اجتمعت عليه فأهلكته، فإن عجز عنه نقله إلى ما دونها وهو:
الشر الخامس: وهو إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب عن الطاعات والواجبات، فإن عجز عنه نقله إلى ما دون ذلك وهو.
الشر السادس: وهو إشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، كإشغاله بالنوافل حتى تفوت الفرائض، وبتوزيع المال حتى تفوت صلاة الجماعة.
فإن أعجزه العبد في كل ما سبق نقله إلى آخر ما يقدر عليه وهو:
الشر السابع: بأن يسلط عليه حزبه من شياطين الإنس والجن بأنواع الأذى، والتكفير، والتضليل، والتبديع، والتفسيق، والتحذير منه، وقصد إخماله.
ليشوش عليه قلبه .. ويشغل بحربه فكره .. وليمنع الناس من الانتفاع به .. فحينئذ يلزم المسلم أن يلبس لأمة الحرب، ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسِر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله بثواب المجاهدين: و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
والشيطان للإنسان عدو مبين، وهو الآن يُسيِّر الأمة ويخطو بها للتوسع في الحلال والمباحات والشهوات .. والحرام حد المباحات .. فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى ينقله من المباحات إلى المحرمات لتكميل شهواته .. والكفر حد المحرمات .. فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى ينقله من المحرمات إلى الكفر لتكميل شهواته وإضاعة أوامر الله.
فهذه خطوات الشيطان:
التوسع في المباحات، ثم الدخول في المحرمات، ثم الكفر وترك أوامر الله من
أجل الشهوات، ثم الدعوة إلى الكفر والمعاصي كما يفعل الشيطان، فليحذر العبد من كيد الشيطان ومكره:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168، 169].
وقلب الإنسان كالحصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه، ويقيم فيه، ويطرد من فيه، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرفها.
وأبواب الشيطان ومداخله التي يدخل منها إلى القلب صفات العبد.
ومن أبوابه العظيمة التي يهلك بها الناس باب الحسد والحرص، فإن الشيطان يحسِّن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته، وإن كان فاحشاً أو منكراً أو حراماً.
ومنها باب الغضب والشهوة والحدة، فالغضب غول العقل، والشهوة بحر يركض فيه الشيطان، وإذا ضعف جند العقل هجم الشيطان، فلعب بالإنسان، وزجه فيما حرم الله.
ومنها حب التزين في الثياب والأثاث، والمساكن والمراكب، فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى يخسر عمره وأوقاته في التشييد والتزيين.
ومنها باب الشبع، فالشبع يقوي الشهوة، ويشغل عن الطاعة.
ومنها باب الطمع، فإن من طمع في شخص بالغ في الثناء عليه بما ليس فيه، وداهنه فلم يأمره بالمعروف، ولم ينهه عن المنكر.
ومنها باب العجلة وترك التثبت، ليقع المسلم في الأخطاء والآثام والمحرمات.
ومنها حب المال، وحب المال إذا تمكن من القلب أفسده، وحمله على طلب المال من غير وجهه، وأخرجه إلى البخل وخوف الفقر، فمنع الحقوق اللازمة ومنها سوء الظن بالمسلمين، فإن من حكم على مسلم بسوء ظنه احتقره وأطلق فيه لسانه، ورأى نفسه خيراً منه.
وسوء الظن يدل على خبث الظان؛ لأن المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن، والمنافق يبحث عن عيوبه، وعلى المسلم أن يحترس من مواقع التهم؛ لئلا يُساء به الظن.
وعلاج هذه الآفات يكون بسد المداخل التي يدخل منها دخان الشيطان، وتطهير القلب عن الصفات المذمومة بالتوبة والاستغفار كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208].
وقال سبحانه: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268].
وإذا غلب على الإنسان هواه استسلم للشيطان وجنوده، فقادوه حيث شاؤوا، وله معهم حالتان:
إحداهما: أن يكون من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف.
الثانية: أن يصير الشيطان من جنده، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط الداعية المتبوع المبتدع.
فيصير إبليس وجنده من أعوانه وأتباعه، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.
وهذه الحالة هي حالة جَهْد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعَمَل أصحابها المكر والكذب، والخداع والغرور، والتسويف بالعمل، وطول الأمل، وإيثار العاجل على الآجل.
وهؤلاء أئمة جنود الشيطان، وهم أنواع شتى:
فمنهم المحارب لله ورسوله .. الساعي في إبطال ما جاء به الرسول .. يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجاً .. ومنهم المقبل على دنياه وشهواته فقط .. ومنهم المنافق الذي يأكل بالكفر والإسلام .. ومنهم الماجن الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب .. إلى غير ذلك من أصناف المغترين الذين اتبعوا
شهواتهم، فسلط الله عليهم من كان حقهم أن يتسلطوا عليه وهو الشيطان، وجعلهم تحت قهره وتصرفه وسلطانه، يسخرهم حيث شاء، ويَسْخر منهم ويزعجهم إلى كل معصية وفاحشة وشر.
وشياطين الإنس والجن منهم من يختار الكفر والشرك والمعاصي، وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر، ويلتذون به، ويطلبونه ويحرصون عليه بمقتضى خبث أنفسهم، وإن كان موجباً لعذابهم، وعذاب من يغوونه.
والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقاً يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله.
والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب إليه السحرة والكهان بما يحبه من الكفر والشرك صار ذلك كله كالرشوة له، فيقضي بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالاً ليقتل له من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة أو سرقة.