الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - فقه الصبر عن المعاصي
قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].
وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
الصبر له ثلاثة أركان:
صبر على طاعة الله .. وصبر عن معصية الله .. وصبر على أقدار الله المؤلمة.
وصبر العبد عن المعاصي ينشأ من أسباب عديدة:
منها الحياء من الله سبحانه عند المعصية، فهو يراه ويسمعه، فكيف يتعرض لمساخطه؟.
ومنها علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، وهذا كاف في تركها، ولو لم يعلِّق عليها وعيد العذاب.
ومنها مراعاة العاقل نعم الله عليه، وإحسانه إليه.
فالذنوب تزيل النعم ولا بدّ، والمعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب، وما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من نعم الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب ورجع رجعت إليه أو مثلها أو أكثر منها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة بعد نعمة، حتى تسلب النعم كلها.
وأعظم النعم الإيمان والطاعات، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر يزيلها ويسلبها العبد.
ومن أسباب الصبر عن المعاصي محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع.
وفرق بين من يحمله على ترك المعصية خوفه من سوط سيده وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده.
ومنها خوف الله وخشية عقابه الذي توعد به من عصاه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].
وإذا امتلأ قلب المؤمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه منعه ذلك من معصيته حياء وطاعة لربه، وما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه.
ومنها شرف النفس وفضلها وأنفتها أن تختار ما يحطها ويضع من قدرها، ويسوي بينها وبين السفلة.
ومنها قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها من سواد الوجه، وظلمة القلب، وشدة قلقه واضطرابه، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريته من زينته، وتخلي وليه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له.
ومنها أن العبد بسبب المعصية يصير أسيراً بيد أعدائه، بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه.
ومنها زوال أمنه، وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة.
ومنها زوال الأنس، فكلما ازداد العبد إساءة ازداد وحشة.
ومنها زوال الطمأنينة بالله، والسكون إليه، وزوال الرضا، واستبداله بالسخط ومنها وقوع العاصي في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة، كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها أو غيرها إن قضى وطره منها.
وكلما اشتد نزوعه .. وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.
ومنها فقره بعد غناه، فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يَتَّجِرُ به ويربح الأرباح الكثيرة من الأعمال الصالحة.
ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه.
ومنها زوال المهابة التي لبسها بالطاعة.
ومنها حصول النفرة منه، والبغض له في قلوب الناس، فكما جعل الله المودة لكل مؤمن، وكل مطيع فكذلك جعل الكراهية لكل كافر وكل عاصٍ.
ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه.
ومنها الطبع والرَّين على قلبه، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان، والرغبة في الآخرة.
ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعباده.
ومنها أن الذنب يستدعي ذنباً آخر حتى تهلكه ذنوبه.
ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه منها.
ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعة الله أوصله ذلك إلى دار أهل طاعته وولايته.
ومنها علمه أن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه.
ومنها علمه أن أعمال البر والطاعات تنهض بالعبد وتقوم به، وتصعد إلى الله به، وأعمال الفجور تهوي به، وتجذبه إلى الهاوية، وتجره إلى أسفل سافلين.
كما قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)} [الأعراف: 40].
فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم، بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند الموت، بل أغلقت عنها.
وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى
وصلت إلى الله، فتحت كذلك لأرواحهم حتى وصلت إلى ربها وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين.
ومن أسباب الصبر عن المعصية علم العبد أنه متى عصى الله فقد خرج من حصنه الذي لا ضيعة على من دخله، فإذا خرج بمعصيته منه صار نهباً للصوص وقطاع الطريق.
ومنها علم العبد بقصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال تحت ظل شجرة ثم سار وتركها.
ومنها تجنب الفضول في طعامه وشرابه، ولباسه ومنامه، واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات.
فإنها تطلب مصرفاً، فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام.
ومنها ثبات شجرة الإيمان في القلب، وهو أعظمها، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فإن من باشر قلبه الإيمان بالله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب، والجنة والنار، حجزه ذلك عن المعاصي، ومنعه من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.
ومن ظن أنه يقوى على ترك المعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإن سراج الإيمان إذا قوي في القلب، وأضاءت جهاته كلها به، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة، غير متثاقلة ولا كارهة.
بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105].
وبالجملة فآثار المعاصي أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط العبد بها علماً.
فخير الدنيا والآخرة كله بحذافيره في طاعة الله ورسوله، وشر الدنيا والآخرة
كله بحذافيره في معصية الله ورسوله.
والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة تلك الأسباب، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة، والآثار الجميلة.
ومن أقوى أسبابها الإيمان ومحبة الله، فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
وصبر العبد على الطاعة، وصبره عن المعصية، أيهما أفضل؟.
ذلك يختلف باختلاف الطاعة والمعصية.
فالصبر على الطاعة المعظمة الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة.
فصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الصبح، وصوم يوم تطوعاً ونحوه.
فالطاعات يفعلها البَرُّ والفاجر، ولكن المعاصي لا يصبر عنها إلا صدِّيق.
والنفس لها قوتان:
قوة الإقدام .. وقوة الإحجام.
فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفع العبد، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره.
ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينفعه أقوى من صبره عن ما يضره، ومنهم من تكون قوة صبره عن المعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا يصبر على هذا .. ولا على هذا.
وأفضل الناس أصبرهم على النوعين مع الصبر على أقدار الله فهؤلاء هم الصابرون حقاً، ويأخذون أجرهم بغير حساب كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].
وكمال العقل في ثلاثة:
حسن المعرفة بالله .. وحسن الطاعة لله .. وحسن الصبر لله.
إن إكرام الضيف من الناس والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان وموجباته، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف وخير الجيران وأبرهم وهم الملائكة.
فإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش فقد أساء جواره، وبالغ في أذاه وطرده عنه، فهل يليق بالمسلم أن يؤذي جاره فضلاً عن أنصح الخلق له من الملائكة كما قال سبحانه:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 10 - 12].
فمن ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القادر ولا يكرمه ولا يوقره؟.
ألا يستحي العصاة من هؤلاء الملائكة الحافظين الكرام، ويكرمونهم ويجلونهم أن يروا منهم ما يستحون أن يراهم عليه من هو مثلهم؟.
والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يَفْجُر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟.
وهل يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم أن يسكن في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ثم يبارز من خلقه وأسكنه ورزقه بالمعاصي؟.
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].
ومن لم يصبر عن المعاصي في الدنيا، فقارفها بلا حياء ولا خوف، فليوطن نفسه على تحمل عقوبتها في الآخرة حيث لا ينفع الصبر كما قال سبحانه عن النار:{اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} [الطور: 16].
ومن عقوبة المعصية المعصية بعدها، فإبليس لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك، عاقبه الله بأن جعله داعياً إلى كل معصية.
فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعياً إلى كل معصية وفروعها، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
ونعم الله على العباد لا تعد ولا تحصى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، فنسأله عز وجل أن يعفو عنا عن كل ما ضيعنا من شكر النعم، وعن كل ما ركبنا من الذنوب، وعن كل ما قصرنا فيه من حق الله وحق عباده:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].