المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌8 - فقه البعث والحشر

‌8 - فقه البعث والحشر

قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} [يس: 51 - 53].

وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس: 45].

وقال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}

[التغابن: 7].

ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع والموت، ثم ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور كما قال سبحانه:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].

فإذا نفخ في الصور نفخة البعث خرج الناس من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم، ويسرعون للحضور بين يديه، الأولون والآخرون، والإنس والجن، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يساقون حسب أعمالهم، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فسبحان الله ما أعظم هذا المَلَك، إسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق أهل السماء وأهل الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يحيا جميع الخلق، ويخرجون من قبورهم قيام ينظرون.

وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكيف بقوة بدنه؟ .. وكيف تكون قوة خالقه الذي خلقه وَأَمَره؟.

وما أعظم ما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإذا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.

فَتَوَهَّم نفسك معهم، وقد وَثَبْتَ متغير الوجه، مُغْبَرَّ البدن، مضطرب الفؤاد،

ص: 3482

مبهوتاً من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الفزع والرعب، فضلاً عما هم فيه من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر.

وبهذه النفخة يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ! أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أبَيْتُ؟ قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أبَيْتُ «ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ» .

ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].

ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، أرض بيضاء، وقاع صفصف، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، لا ترى فيها ربوة يختفي الإنسان وراءها، ولا وهدة ينخفض عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زمراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر، لا يتخلف منهم أحد:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}

[الكهف: 47].

فأحضر قلبك، وانظر إلى صورتك وأنت واقف هناك عارياً ذليلاً، متحيراً بهوتاً، وجلاً خائفاً، منتظراً لما سوف يجري عليك وعلى غيرك من القضاء بالسعادة، أو الشقاوة الأبدية.

يستقبلك يوم عظيم شأنه .. ترى فيه السماء قد انفطرت .. والكواكب من هوله انتثرت .. والنجوم قد انكدرت .. والشمس قد كورت .. والجبال قد سيرت .. والبحار قد سجرت .. والجحيم قد سعرت .. والجنة قد أزلفت .. يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات .. يوم تحمل فيه الأرض والجبال فتدك دكة واحدة .. يوم ترجّ فيه الأرض رجّاً .. وتبسّ الجبال بسّاً .. يوم يكون فيه الناس

ص: 3483

كالفراش المبثوث .. يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت .. وتضع كل ذات حمل حملها: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2].

يومٌ لا يُسأل أحد عن ذنبه من إنس ولا جان، ولا يُسأل فيه عن ذنوبهم المجرمون، بل يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30].

يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت.

والناس بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم.

فتأمل حالك أمامه .. وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودقته .. ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته .. والناس يتعاوون فيها ويبكون .. ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها .. وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك .. واضطراب قلبك .. وتزلزل قدمك .. وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب.

فكيف حالك عند عبور الصراط .. وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون .. وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف .. وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار .. وتعلو أرجلهم .. والنار تغلي بهم .. تشوي وجوههم .. وتحرق أجسادهم .. وتقطع أمعاءهم.

فيا له من منظر ما أفظعه .. ومرتقى ما أصعبه .. ومجاز ما أضيقه .. وهول ما أفزعه.

فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه .. وأنت مثقل الظهر بأوزارك .. تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار.

والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم، لكثرة من زل عن

ص: 3484

الصراط من الخلائق.

فكيف بك لو زلت قدمك .. ووقَعْتَ في قعر جهنم .. ووقع بك ما كنت تخافه .. وأنت تنادي يا ليتني قدمت لحياتي .. يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً

يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً .. يا ليتني كنت تراباً .. يا ليتني كنت نسياً منسياً.

فكيف ترى أيها العبد عقلك الآن .. وهذه الأخطار بين يديك .. فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم؟.

وإن كنت مؤمناً وعنه غافلاً فما أعظم خسرانك وطغيانك؟.

وتأمل في أحوال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها ينتظرون حقيقة أنبائها، وشفاعة شفعائها، إذا أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات لهب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وشهيقاً.

فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، وجاءت الزبانية بمقامع من حديد، لتأخذ كل مجرم إلى العذاب الشديد، فينكسونه في قعر جهنم ويقولون له:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49].

وأسكن أهل النار داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، يوقد فيها السعير، ويسقى فيها الحميم، يحشرون إليها عمياً وبكماً وصماً.

ويكبون فيها على وجوههم، مغلولين مقرنين في الأصفاد.

النار من فوقهم ومن تحتهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم .. تغلي بهم النار كغلي القدور، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم .. فيتفجر الصديد من أفواههم .. وتتقطع من العطش أكبادهم .. وتسقط من الإحراق لحومهم وشعورهم.

كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56].

وهم في تلك الأهوال والمواقف صمُّ بكمٌ عميٌ .. يبكون ويصيحون .. وهم يمشون في النار على وجوههم .. لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون .. قد

ص: 3485

غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم .. وجُمع بين نواصيهم وأقدامهم.

طعامهم الزقوم، والصديد، والضريع .. وشرابهم الحميم والغساق وفرشهم من نار .. ولباسهم من نار:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 19 - 22].

فما أعظم هذه الأحوال والأهوال، وما أشد حسرات أهل النار.

فهل نقبل هذا الإنذار، ونستعد لذلك الموقف الرهيب؟.

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}

[مريم: 39].

وهذه الدار التي عَرَفْت همومها وغمومها وشدة عذابها، تقابلها دار أخرى، وهي دار النعيم، ودار السلام، دار المتقين.

ومن لم يدخل هذه الدار استقر لا محالة في الدار الأخرى.

وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل طاعته وعبادته بدخول الجنة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57].

فتفكر في أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم.

في وجوههم نضرة النعيم .. يسقون من رحيق مختوم .. ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق .. يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير.

متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل والماء واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان كما قال سبحانه:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)}

[الإنسان: 19].

يطوف عليهم في تلك الجنان ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، وجنانهم مزينة بالحور العين للتنعم والاستمتاع .. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان .. كأنهن الياقوت والمرجان

كأمثال اللؤلؤ

ص: 3486

المكنون .. خيرات حسان .. يمشين في درجات الجنان .. عليهن من الحرير الأبيض وفاخر اللباس ما تتحير فيه الأبصار .. مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان.

عطرات آمنات من الهرم والبؤس .. حور مقصورات في الخيام .. قاصرات الطرف عين.

يطوف على أهل الجنة ويخدمهم ولدان مخلدون كأمثال اللؤلؤ المكنون .. وأهلها جالسون على منابر الياقوت الأحمر .. في خيام واسعة من اللؤلؤ

وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها .. وبسطهم من العبقري الأخضر.

وهم في الجنة خالدون .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر .. ينظرون فيها إلى وجه الرب الملك الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].

فهم عباد مكرمون .. وفيما اشتهت أنفسهم خالدون .. لا يخافون فيها ولا يحزنون .. وهم من ريب المنون آمنون .. فهم فيها يتنعمون .. ويأكلون من ألوان الطعام .. ويشربون من أنهار الخمر والعسل والماء واللبن.

ويسكنون في جنة أرضها المسك والكافور .. وبناؤها لبنة من فضة، ولبنة من ذهب .. وحصباؤها اللؤلؤ والمرجان .. وترابها الزعفران والدر والياقوت .. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 8 - 16].

فيا له من نعيم ما أكمله .. ويا له من سرور ما أعظمه .. ويا له من خير ما أدومه .. فليسعد بذلك ويهنأ به من آمن بالله رباً .. وبالإسلام ديناً .. وبمحمد (رسولاً: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].

ص: 3487

يا حسرة على العباد .. كيف يفرطون في هذا النعيم المقيم والملك الكبير؟.

إن الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن، والغرف المزينة المزخرفة، والخيام الفخمة الواسعة، ما لا يدركه الوصف ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والرياض الزاهرة، والأنهار الجارية، ما يأخذ القلوب، ويفرح النفوس، ويبهر العقول.

وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الجمال والحسن والإحسان، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً.

وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة.

وفوق ذلك كله الفوز برضى الرب الرحيم، وسماع كلامه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين. كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}

[التوبة: 72].

فيا له من نعيم ما أتمه وما أكمله، ويا له من مُلك ما أوسعه؟

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 20 - 22].

فهذه حال العباد يوم القيامة، وهذه مساكنهم، وهم بحسب أعمالهم إليها راجعون:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].

إن التكاثر في الأموال والأولاد واتباع الشهوات شغل أهل الدنيا، وألهاهم عن

ص: 3488

الله والدار الآخرة، حتى حضرهم الموت وهم غافلون عما به فوزهم وفلاحهم:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 1 - 8].

فيا حسرة من شغله التكاثر عن ربه إذا عاين تكاثره هباءً منثوراً .. وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خداعاً وغروراً .. ووجد عاقبة تكاثره عليه لا له .. وخسر هنالك تكاثره .. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه.

وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذب بتكاثره في دنياه، ثم عذب به في البرزخ، ثم يعذب به في يوم القيامة:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30].

فلم يفز مِنْ تكاثره إلا بأن صار من الأقلِّين، ولم يحظ به من علوه به في الدنيا إلا بأن صار مع الأسفلين.

فيا له من تكاثر ما أقله .. ومن غنى جالب لكل فقر .. وخير تُوُصِّل به إلى كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه .. يا ليتني قدمت لحياتي، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}

[المؤمنون: 99 - 100].

فهذا المفرط سأل ربه الرجعة ليستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه، وسلطانه وقوته، وأملاكه وأسبابه، فيقال له كلا، لا سبيل لك إلى الرجعى؛ لأن الله يعلم أنه لو رجع فإن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحاً لو أجيب، وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه لا بقلبه:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}

[الأنعام: 28].

وكل أحد من مسلم وكافر سوف يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله

ص: 3489

من حلال أم حرام؟ فإذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالاً آخر: هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم على معصيته؟.

فالأول سؤال عن كسبه، والثاني سؤال عن محل مصرفه.

والنفوس الشريفة العلوية إنما تكاثر بما يدوم نفعه، وما تزكو به وتكمل، وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها.

فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد، وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم من المراكب والمساكن، والمطاعم والمشارب ونحوها، فهذا تكاثر مُلْهٍ عن الله والدار الآخرة، وهو صائر إلى غاية القلة.

فعاقبة هذا التكاثر قِلّ وفقر، وحرمان وأحزان.

إن أمر البعث هو دائماً مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام، منذ أن أرسل الله رسله للناس يأمرونهم بعبادة الله وحده، ويخوفونهم حساب الله يوم البعث والحساب.

فالمشركون من قريش أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)} [النحل: 38].

فهم يقرون بوجود الله، ولكنهم ينفون عنه بعثه الموتى من القبور، يرون هذا البعث أمراً عسيراً بعد الموت والبلى، وتفرق الأوصال والأشلاء.

وغفلوا عن الخلق الأول مَنْ خلقه؟: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق: 15].

وغفلوا عن قدرة الرب؟

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} [يس: 81].

فما أجهل الإنسان بنفسه؟ وما أجهله بربه؟

ص: 3490

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 79].

والله سبحانه هو القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، وجميع ما في الكون تحت قهره وأمره:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}

[يس: 82 - 83].

وحكمة الله في البعث:

أن هذه الدنيا لا يبلغ أمر فيها تمامه، فالناس يختلفون حول الحق والباطل .. والهدى والضلال

والخير والشر.

وقد لا يفصل بينهم فيما يختلفون فيه في هذه الأرض، ولا يحل بهم عذابه الفاصل في هذه الدار، حتى يتم الجزاء في الآخرة، ويبلغ كل أمر تمامه هناك، أهل الجنة في كمال النعيم .. وأهل النار في كمال العذاب، وللأمر حكمته:{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 39].

والأمر بعد ذلك هين كغيره على الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40].

وقد جعل الله الدنيا دار تكميل الإيمان والأعمال، والآخرة دار تكميل الشهوات واللذات، ومن لم يأت بالإيمان، والأعمال الصالحة دخل النار المشتملة على كمال العذاب والآلام:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}

[النساء: 13 - 14].

والدور التي يمر بها العبد أربع:

الدار الأولى: بطن الأم، وحكمة بقائه هنا تكميل الأعضاء الداخلية والخارجية.

ص: 3491

الثانية: دار الدنيا، وحكمة بقائه هنا تكميل الإيمان والأعمال الصالحة.

الثالثة: دار البرزخ، وحكمة بقائه هنا انتظار يوم القيامة، وهو بحسب حاله، المؤمن في نعيم، والكافر في عذاب.

الرابعة: دار القرار في الجنة أو النار، وهذه آخر منازله.

وقد جعل الله لكل دار أحكاماً تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها، وجعل أحكام يوم القيامة من النعيم والعذاب على الأبدان والأرواح معاً.

والبعث: هو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً غير مختونين، ويبعث كل عبد على ما مات عليه، فيبعثون ويحشرون للحساب والجزاء كما قال سبحانه:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)}

[يس: 51 - 53].

وأول من ينشق عنه القبر محمد صلى الله عليه وسلم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (1).

وجميع الخلائق تحشر إلى ربها يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95].

ويحشر الناس يوم القيامة على أرض بارزة بيضاء، ليس فيها عَلَم لأحد كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ

(1) أخرجه مسلم برقم (2278).

ص: 3492

مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}

[الكهف: 47].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أرْضٍ بَيْضَاءَ، عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأحَدٍ» متفق عليه (1).

ويحشر الناس جميعاً يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فقَالَ (:«يَا عَائِشَةُ! الأمْرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» متفق عليه (2).

ويحشر المؤمنون إلى ربهم وإلى الجنة وفداً مكرمين في موكب كريم.

قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85].

وقال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73].

ويحشر الكفار والمشركون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً إلى النار.

قال الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} [الإسراء: 97 - 98].

وقال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)}

[الصافات: 22 - 23].

وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُّحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقَالَ: «ألَيْسَ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» متفق عليه (3).

ويساقون إلى جهنم عطاشاً زرقا:

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6521)، ومسلم برقم (2790) واللفظ له.

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6527)، ومسلم برقم (2859) واللفظ له.

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4760)، ومسلم برقم (2806) واللفظ له.

ص: 3493

قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}

[مريم: 85 - 86].

وقال الله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)}

[طه: 102].

فالحشر الأول لجميع الخلق من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى الجنة أو النار.

فعند الحشر الأول الكفار يسمعون ويبصرون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشر الكفار عمياً وبكماً وصماً.

فلكل موقف حال يليق به.

ويحشر الله يوم القيامة الدواب والبهائم والوحوش والطيور، ثم يحصل القصاص بين الدواب، فيقتص للشاة الجماء من القرناء نَطَحَتْها، فإذا اقتص لبعضها من بعض قيل لها كوني تراباً.

قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38].

ويجمع الله الخلائق بعد بعثهم في ساحة واحدة في عرصات القيامة، وذلك لفصل القضاء، حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس في ذلك اليوم، ويذهب العرق سبعين ذراعاً، ويعرق الناس على قدر أعمالهم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ» .

قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ.

قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» .

ص: 3494

قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ اللهِ (بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم (1).

وإذا حُشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، وبلغ العناء منهم مبلغاً عظيماً لشدة الهول، وعظمة الكرب، وصعوبة الموقف، رغبوا إلى ربهم في أن يحكم بينهم، فإذا طال موقفهم، وعظم كربهم، ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم ليفصل بينهم، ثم يجيء الله جل جلاله لفصل القضاء بين عباده كما قال سبحانه:{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} [الفجر: 21 - 23].

وقد ذكر الله عز وجل في القرآن المبدأ والمعاد .. والقيامتين الصغرى والكبرى .. والعالمين الأكبر وهو عالم الآخرة .. والأصغر وهو عالم الدنيا .. والدارين الجنة دار السعداء، والنار دار الأشقياء .. وفصَّل سبحانه في كتابه خلق الإنسان، وكيف يقضي حياته، وبيَّن أحواله عند وفاته، ويوم معاده.

والله سبحانه يعيد جسد الإنسان بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه بحسب عمله، كما ينعم الروح التي آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها.

وهو سبحانه العليم بما تنقصه الأرض من لحوم البشر وعظامهم وأشعارهم، والقادر على جمعها وتحصيلها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً، ثم بعثها يوم القيامة.

بل مع كل نَفَس سائق يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد عليها بما عملت كما قال سبحانه:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} [ق: 20].

وبراهين المعاد في القرآن تقرر ثلاثة أصول:

أحدها: تقرير كمال علم الرب كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 79].

(1) أخرجه مسلم برقم (2864).

ص: 3495

الثاني: تقرير كمال قدرة الرب كما قال سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}

[يس: 81 - 82].

الثالث: كمال حكمة الرب كما قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21].

ولكن الكفار لا يؤمنون بالرب .. ولا يؤمنون بالدين الحق .. ولا يؤمنون بالبعث .. ولذلك اختلط عليهم الأمر، فهم في أمر مريج آل بهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.

فما أجهلهم بربهم .. وما أسفه عقولهم.

{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 5 - 8].

وقد وكل الله تعالى إ بكل إنسان قريناً من الملائكة يكتب عمله، فإذا كان يوم القيامة قال الملك: يا رب هذا هو الشخص الذي وُكِّلت به، وهذا عمله الذي أحصيته عليه في الدنيا، كما قال سبحانه:{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)}

[ق: 23 - 26].

يا حسرة على العباد كم ضيعوا من الأوقات في غير طاعة الله .. ويا خيبة الكفار في ذلك اليوم العصيب.

فسبحان الرب الملك العظيم، العزيز الجبار، الغني الحليم، الذي له الخلق والأمر، وله التصريف والتدبير في الكون كله، في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة.

خلق الملائكة المقسِّمات أَمْر الله الذي أُمِرت به بين خلقه كما قال سبحانه:

ص: 3496

{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)}

[الذاريات: 4].

ومن أعظم المقسمات لأوامر الرب في خلقه:

جبريل: الذي يَقْسِم الوحي بأمر ربه إلى الرسل، ويقسم العذاب وأنواع العقوبات على من خالف الرسل.

وميكائيل: الذي يقسم القطر والبرد والثلج والنبات والأرزاق بأمر الله.

وإسرافيل: الذي يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور بأمر الله.

وملك الموت: الذي يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله.

وكل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض كما قال سبحانه عنهم:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5].

وذلك كله يدل على كمال قدرة الرب .. وكمال علمه .. وكمال حكمته .. وكمال عنايته بخلقه .. وكمال رحمته لهم.

وإبداء الخلق وإعادته دليل ظاهر مكرور يدل على المبدأ والمعاد، الذي نزلت به كتبه سبحانه، وأخبرت به جميع رسله.

وذلك مشهود في الدنيا عياناً:

في إبداء الليل والنهار وإعادتهما .. وفي إبداء الزمان وإعادته الذي هو حاصل بسير الشمس والقمر .. وفي إبداء النور وإعادته في القمر .. وإبداء النبات والحيوان وإعادتهما .. وإبداء فصول السنة وإعادتها .. وإبداء ما يحدث في تلك الفصول وإعادته.

أو ليس القادر على ذلك كله بقادر على أن يحيي الموتى يوم القيامة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف: 33].

ص: 3497