المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

‌فقه عداوة الكفار والمشركين

قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} [النساء: 101].

وقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}

[المائدة: 82].

كشف الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أباطيل الكفار، وبيَّن بطلانها بالأدلة الحسية، والبراهين العقلية، حتى ظهر الحق وزهق الباطل.

وأباطيل الكفار ثلاثة أنواع:

الأول: ذكر الله بما لا يليق به من أن الملائكة بناته، وأن له ولداً وشريكاً، وأنه ثالث ثلاثة، ووصفه بما لا يليق به ونحو ذلك.

الثاني: ذكر رسول الله (بأنه ساحر وكاهن، وشاعر ومجنون، وإنكار لنبوته ونحو ذلك.

الثالث: إنكار البعث، واليوم الآخر، والجنة والنار، وإنكار الثواب والعقاب.

واليهود والكفار والمشركون أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعياً في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم بغياً وحسداً، وعناداً وكفراً.

وهؤلاء الكفار لا يؤمنون، فلا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة عليهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6].

وبسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق طبع الله على قلوبهم بطابع لا يدخلها الإيمان، ولا ينفذ فيها، فلا يَعُون ما ينفعهم، ولا

ص: 3311

يسمعون ما يفيدهم، وجعل على أبصارهم غشاوة تمنعها من النظر الذي ينفعهم:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة: 7].

فهذا لهم عقاب عاجل في الدنيا، أما العقاب الآجل فهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم:{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)}

[الرعد: 34].

وطبيعة المعرضين عن الهدى واحدة، وحجتهم كذلك مكرورة على مر الأجيال والقرون:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23].

فليس قصد هؤلاء المشركين الضالين بتقليد آبائهم اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض يراد به نصرة ما معهم من الباطل، ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف: 24].

فتغلق قلوب هؤلاء على هذه المحاكاة، وتطمس عقولهم، دون التدبر لأي جديد، ولو كان أهدى، ولو كان أجدى، ولو كان يصدع بالدليل والبرهان، فعلم بهذا أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما أرادوا اتباع الباطل والهوى.

فإذا تمسكوا بما عليه آباؤهم من الضلال، ولم يستجيبوا للرسول، فلا يكون إلا التدمير والتنكيل لهذه الجبلة التي لا تريد أن تفتح عينها لترى، أو تفتح قلبها لتحس، أو تفتح عقلها لتستبين:{قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}

[الزخرف: 24 - 25].

وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 6 - 7].

وواجه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة التوحيد الكفار والمشركين من أول يوم، وأمره ربه

ص: 3312

سبحانه أن يقول لهم: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6].

فالإيمان ضد الكفر .. والتوحيد ضد الشرك، فلا يجتمعان أبداً في قلب عبد كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} [التغابن: 2].

ولما كان الكفار والمشركون في مكة وغيرها يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، جاء القرآن في عامة نصوصه ينكر على الكفار كفرهم بالله، وينكر على المشركين شركهم بالله، ويسخر من عقول عباد الأصنام والأوثان، ويسفه أحلامهم، ويكشف لهم عن حقارة هذه الأصنام وعجزها، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً، ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، فكيف يعبدونها من دون الله؟.

فقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}

[الأحقاف: 5 - 6].

وقال عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)} [الأنبياء: 98 - 100].

وقال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73 - 74].

فواجه الكفار والمشركون هذه الدعوة بإثارة الشبه حول حامل رايتها وهو القرآن، ليشككوا الناس فيه، وفي صحته وخيريته، وسلكوا في سبيل تحقيق ذلك مسالك متعددة:

ص: 3313

فقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)}

[الأحقاف: 17].

وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 24 - 25].

وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 4 - 5].

والله تبارك وتعالى يؤكد لهم ويقسم بما يُرى وما لا يُرى، أن هذا القرآن تنزيل من رب العالمين، جاء به رسول كريم كما قال سبحانه:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} [الحاقة: 38 - 43].

وظل هؤلاء الكفار والمشركون يسخرون من هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويواجهون رسول الله بما يكره لعله أن يرجع عما جاء به.

فقالوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)} [الحجر: 6 - 7].

وقالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)} [الأنعام: 8].

ثم زادوا في التهكم والسخرية:

فقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32].

وقالوا: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)} [سبأ: 7 - 8].

وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} [الأنعام: 124].

واستمروا على كفرهم وعنادهم وكبريائهم كما قال الله عنهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ

ص: 3314

آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} [الأنفال: 31].

فما أعظم جحود هؤلاء الكفار، وما أشد إثمهم:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)} [الجاثية: 7 - 10].

ويل لكل أفاك أثيم .. أهذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، وفيه الهدى والشفاء، يمكن أن يكون قول ساحر، أو شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو كذاب؟.

ولما بلغ الكفار هذا الحد من الاستهتار والاستخفاف والاستكبار، تعين كسر شوكتهم، ورد باطلهم في أفواههم، ودمغهم بالحق المبين، الذي لا يبقي بعده أي شبهة كما قال سبحانه:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81].

فتحداهم الله أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}

[الإسراء: 88].

ثم تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13].

ثم تحداهم لا بالقرآن كله، ولا بعشر سور مثله، بل بسورة مثله، فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: 38].

ولما يئس الكفار والمشركون عن معارضة القرآن بأي وجه غيروا خطتهم في محاربة الحق، ودفاعهم عن الباطل، فراحوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزات

ص: 3315

المادية الحسية كالتي كانت للأنبياء قبله، كما قال سبحانه:{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)} [طه: 133].

وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} [الإسراء: 90 - 93].

ولما ألحوا في المطالبة، والله سبحانه لم يجبهم رحمة بهم، إذ لو جاءتهم الآيات فلم يؤمنوا هلكوا، والله يعلم أنهم لا يؤمنون ولو رأوا الآيات كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 111].

وقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} [الحجر: 14 - 15].

وليس معنى هذا أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن معه آيات ومعجزات، فقد كان له معجزات، ولكنها ما كانت مقرونة بالتحدي، كراهية أن لا يؤمن بعدها من طلبها فيهلك.

ولما ألح المشركون في طلب الآيات: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: 109].

والكفار لكفرهم والمشركون لشركهم في غفلة عن آيات الله الكبرى، في السموات والأرض والجبال والبحار والنبات والحيوان.

فبين الله لهم أن أكبر آية ومعجزة جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن، وهي آية عقلية باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فتكفيهم كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى

ص: 3316

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أوْحَاهُ الله إِلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (1).

ثم زادوا في التهكم والسخرية من البعث بعد الموت.

{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)} [الإسراء: 49 - 51].

{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}

[السجدة: 10 - 11].

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].

ثم أقروا بالقرآن إلا أن الذي منعهم من اتباعه أن يأتي به بشر كما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94 - 95].

ثم صدهم عنه أنه لم يأت به رجل شريف عظيم ذو جاه وسلطان، بل جاء به رجل بسيط فقير:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 31 - 32].

وسخروا من الرسول ومن طريقة حياته: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4981) واللفظ له، ومسلم برقم (152).

ص: 3317

وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 7 - 8].

ثم تورطوا تورطاً آخر يدل على حمقهم وسفههم، فأقروا بأن القرآن هدى، لكنهم خافوا إن اتبعوه أن يُتخطفوا من أرضهم كما قال سبحانه:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57].

فإذا أَمَّنكم ورزقكم وأنت كافرون، فهل يتخلى عنكم وأنتم مؤمنون؟.

ثم حأولوا بعد عجزهم عما سبق أن يخنقوا دعوة التوحيد لا إله إلا الله بصرف الناس عنها وتنفيرهم منها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 24 - 25].

والإعراض عن القرآن، وصد الناس عنه، واللغو عند سماعه كما قال سبحانه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)}

[فصلت: 26 - 27].

وبعد حرب ضروس ذاق فيها المشركون مرارة الهمّ والغمّ والحزن، ومرارة القتل والأسر والهزيمة على أيدي من استضعفوهم بالأمس ناداهم الله بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}

[البقرة: 21 - 24].

إن الكفار والمشركين لا يدينون لله وحده بالعبادة .. وهم كذلك لا يعترفون

ص: 3318

برسالة رسوله .. ويواجهون بالجحود والكفر خالقهم ورازقهم.

والإسلام وإن كان له مع هؤلاء عهود أمر الله بالوفاء بها فهي عهود مرحلية لمواجهة الواقع، والذي يقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداءً من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه، وأن يوادَع من يريدون موادعته في فترة من الفترات، وأن يعاهَد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل، فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه النهائي، الذي يستهدف ابتداءً أن لا يكون في الأرض شرك بالله، وأن تكون العبودية لله وحده لا شريك له كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}

[البقرة: 193].

كما أنه لا يغفل أن هذه العهود مع المشركين موقوتة من جانب أنفسهم، وأنهم لا بدَّ مهاجموه ومحاربوه ذات يوم.

وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه، ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له، ويستديرون لمواجهته كما قال الله عنهم:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].

والله عز وجل يريد من عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له، وهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وآذوا المسلمين، وفتنوهم عن دينهم:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} [الفتح: 25].

فكيف يكون لهؤلاء المشركين عهد عند الله وعند رسوله؟.

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}

[التوبة: 7].

ص: 3319

وكيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، وهم أيها المسلمون لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم؟

ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينكم وبينهم، وفي غير ذمة يرعونها لكم.

وهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم، ولو أنهم قدروا عليكم مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة، فليس الذي يمنعهم من التنكيل بكم أن بينكم وبينهم عهود، إنما الذي يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم.

فإذا تمكن هؤلاء الكفار منكم، أنزلوا بكم أقسى العقوبات؛ لما في قلوبهم من الحقد عليكم.

وإذا كانوا اليوم وأنتم أقوياء يُرضونكم بأفواههم بالقول اللين، والتظاهر بالوفاء بالعهد، فإن قلوبهم تنغل وتغلي عليكم بالحقد، وتأبى أن تقيم على العهد، فما بهم من وفاء لكم ولا ود، فاحذروهم فقلوبهم مملوءة بالحقد عليكم:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}

[التوبة: 8].

وبسبب فسقهم عن دين الله، وخروجهم عن هداه، آثروا على آيات الله ثمناً قليلاً من عرض هذه الحياة الدنيا يخافون فوته.

وقد كانوا يخافون أن يفوت عليهم الإسلام شيئاً من مصالحهم، أو يكلفهم شيئاً من أموالهم، فصدوا عن سبيل الله:{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)} [التوبة: 9].

وجميع الكفار والمشركين لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم، وإنما يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها، لكل مسلم، لكل مؤمن، للإيمان ذاته كما قال سبحانه:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}

[البروج: 8 - 9].

ص: 3320

فالإيمان هو سبب النقمة، فهم يحقدون على المسلمين ويحسدونهم، ولا يرعون في مؤمن عهداً، ولا يتذممون من منكر:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}

[التوبة: 10].

إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم، ولا يقعد هؤلاء الأعداء من الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك.

لا يقعدهم عهد معقود، ولا ذمة مرعية، ولا تحرج من مذمة، ولا إبقاء على صلة.

هذا منهج الكفار مع المسلمين، وهو معلوم وواقع مشهود' لا ينحرفون عنه إلا لطارئ زائل، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].

وهؤلاء الكفار إن آمنوا بالله وعملوا بأحكام دينه فهم إخواننا، وإن نكثوا لما بايعوا عليه من الإيمان، وطعنوا في دين المسلمين فهم إذن أئمة الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود، وعندئذ يكون القتال لهم لعلهم أن يتوبوا إلى الهدى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}

[التوبة: 12].

إن قوة الجيش الإسلامي ومظهره وغلبته في الجهاد قد تَرُدّ قلوباً كثيرة إلى الصواب، وتريهم الحق الغالب فيعرفونه، ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق، ولأن وراءه قوة الله، فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى، لا كرهاً وقهراً، ولكن اقتناعاً بالقلب، بعد رؤية واضحة للحق الغالب، وقد وقع ذلك وما زال يقع:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4].

فالمعركة طويلة الأمد، ولم تكن بين المسلمين والمشركين بقدر ما كانت بين

ص: 3321

الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى.

وإذا كان الإسلام لم يبدأ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما ختم بهذه الرسالة، فما هو موقف الكفار والمشركين من كل رسول ومن كل رسالة؟.

وماذا فعل الله بهم جزاء كفرهم وعدوانهم للرسل؟ وماذا صنع المشركون مع نوح وهود وصالح، ومع إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم؟.

وماذا فعلوا بالمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع الكفار والمشركون مع محمد صلى الله عليه وسلم؟.

وماذا فعلوا مع المؤمنين به كذلك إلى يومنا هذا؟.

إنهم لم يَرْقُبوا فيهم إلاً ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم.

وماذا صنع المشركون التتار بالمسلمين في بغداد؟.

إنها مأساة دامية اقترفها الوثنيون التتار في حق المسلمين، فقد سفكوا دماء المسلمين حتى صارت الجثث كالتلول، وأنتنت البلد من جيفهم، وتلوث الهواء، فحصل بسببه الوباء، وسرى في الهواء إلى الشام، ومات خلق كثير من تغير الجو، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء، والطعن والطاعون والمذلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وما حصل من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان في الوقت الحاضر، لا يقلّ شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد.

وأهل الكفر والشرك في كل زمان ومكان يرثون العداوة للمسلمين ممن سبقهم، ويحاربون المسلمين بكل ما يقدرون عليه:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].

ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟.

ص: 3322

لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن بضعة وعشرين مليوناً من المسلمين والمسلمات، وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق، وذلك عبر وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان.

وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى حتى الآن في كثير من بلاد الإسلام، وبلاد الكفار، ولولا أن الله تكفل بحفظ دينه وكتابه، والعصبة المؤمنة التي تحمله وتحكمه وتعمل بموجبه، لم تجد أثراً لمسلم ولا مسلمة.

كذلك فعلت يوغوسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها ما تقشعر له الأبدان فقد قتلت وأبادت منهم أكثر من مليون مسلم، ومن أعظم صور الإبادة والتعذيب الوحشي إلقاء المسلمين رجالاً ونساءً أحياء في مفارم اللحوم، ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وكلما ابتعد المسلمون عن دينهم سلط الله عليهم من يذلهم ويؤدبهم حيث كانوا ومن كانوا، كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19].

فهل فوق هذا من عقوبة، وهل رأيت وحشية فوق هذه الوحشية؟.

إنه ليس عند الكفار للمسلمين إلا هذه العداوة، وهذه القسوة، وهذه الإبادة متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وقد بين الله جل جلاله الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين إلى يوم الدين فقال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)}

[النساء: 89].

وقال سبحانه: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102].

وقال سبحانه: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}

[الممتحنة: 2].

ص: 3323

وقال سبحانه: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)} [التوبة: 10].

فهذا وصف الله لهم:

عداوة مستمرة .. وإبادة بلا رحمة .. وطبيعة دائمة في حرب الإسلام والمسلمين بلا هوادة .. لا حالة مؤقتة عارضة .. إنه العداء العنيد .. والكيد الناصب .. والحرب الدائمة التي لم تفتر على مدار التاريخ .. وإنفاق الأموال .. وبذل الطاقات .. لضرب الإسلام في أي مكان وفي أي زمان.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36].

إن الجاهلية بكل ما فيها من أحزاب الكفر لا ترضى عن الإسلام أن يكون له كيان مستقل

ولا تطيق أن يكون له وجود تراه .. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها .. فكما لا يجتمع النور والظلام كذلك لا يجتمع الحق والباطل في مكان، لأن الإسلام إذا تميز بدولة ورجال ونظام أخافها، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية، لذلك لا يطلب الكفار من الرسل مجرد أن يكفوا عن دعوتهم فحسب، بل يطالبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في المجتمع الجاهلي معهم، وأن يذوبوا فيه، فلا يكون لهم كيان مستقل، وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل ويأبونه، فما ينبغي للمسلم أن يعود إلى الظلام بعد النور الذي أكرمه الله به كما قال سبحانه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}

[إبراهيم: 13 - 14].

وهذا دأب الطاغوت إذا أحس بهزيمته أمام العقيدة خرج شاهراً سيفه بالقوة المادية الغليظة، وعندما تسفر القوة المادية الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا مجال لحجة.

ص: 3324

ولا يسلم الله الرسل وأتباعهم إلى الجاهلية، فالتجمع الجاهلي لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته.

والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته، هم ناس يجهلون أن كل فرد في المجتمع يعمل لحساب هذا المجتمع الشاذ.

لذلك لا يرتضي الرسل الكرام العودة في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها كما قال سبحانه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89].

وهنا وبعد هذا التهديد من الكفار .. وبعد الثبات على الدين من المؤمنين .. ينزل عذاب الله .. ويحيط بالكافرين .. بضربة مدمرة قاضية لا تقف لها قوة البشر المهازل وإن كانوا طغاة متجبرين: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم: 13 - 14].

ولا يفصل الله بين المؤمنين والكفار إلا بعد مفاصلة المؤمنين للكفار، ورفضهم أن يعودوا لملة قومهم، وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم .. وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة .. ويتمايز الفريقان عقيدة ومنهجاً .. وبعد أن تبذل القوة المؤمنة كل طاقة تمكنها.

عندئذ يأتي وعد الله بالنصر على الأعداء .. ويدمر الطواغيت الذين كانوا يتهددون المؤمنين .. ويمكَّن للمؤمنين في الأرض .. فتقف القوة الصغيرة الهزيلة .. قوة الطغاة الظالمين في صف .. ويقف المؤمنون المتواضعون ومعهم قوة الله في صف.

فإذا دعا كلاهما بالنصر والفتح كانت العاقبة كما يجب أن تكون: {وَاسْتَفْتَحُوا

ص: 3325

وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}

[إبراهيم: 15 - 17].

ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل كل يوم من جسم التجمع الجاهلي في أول الأمر، وهو في دور التكوين، ثم بعد ذلك لا بدّ له من مواجهة التجمع الجاهلي ليتسلم القيادة منه، وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.

ومن أجل هذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام، إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح، ومواجهة الدفاع عن الربوبية التي اغتصبها العباد، وهي من حق الله وحده.

لذلك واجهت الجاهلية الإسلام في معركة حياة أو موت، ومعركة بقاء أو زوال لا هوادة فيها، وأعداء هذا الدين من الكفار والمشركين يصفون القرآن الذي يعالج النفوس والعقول والقلوب، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس، وعلاقات المجتمع، وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل، ويبين قصص الأولين، وعاقبة المؤمنين والكافرين، يصفونه بأنه أساطير الأولين.

والأساطير: هي الحكايات الوهمية الحافلة بالخرافة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 24 - 25].

إن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان، وهذا سيؤدي بهم إلى حمل ذنوبهم، وشطر من ذنوب الذين يضلونهم بهذا القول، ويصدونهم عن الإيمان والقرآن، ويضاعف العذاب للكفار بما كفروا، وحملوا غيرهم على الكفر، وصدوهم عن سبيل الله كما قال سبحانه:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88].

فالكفر فساد، والحمل عليه إفساد، وهؤلاء قد ارتكبوا جريمة كفرهم، وجريمة

ص: 3326

صد غيرهم عن الهدى، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً، وذلك شأن عام مع جميع الأقوام.

والطغاة المتسلطون يهددون بالعذاب الغليظ، ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح كما قال فرعون للسحرة لما آمنوا:{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} [طه: 71].

إنه الاستعلاء بالقوة الغاشمة، قوة الوحوش في الغابة، القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة، وحيوان يقرع بالناب.

إن كفار مكة يظنون أن الدين كالتجارة، فهم على استعداد للتخلي عن كثير من تصوراتهم في مقابل أن يتخلى النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما يدعوهم إليه، وربه ينهاه عن ذلك بقوله:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}

[القلم: 8 - 9].

فهي المساومة إذاً كما يفعلون في التجارة، وفرق كبير بين العقيدة والتجارة، فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها أبداً، فهم يريدون من النبي (أن يترك سب آلهتهم، وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موقفه من دينه، لا يداهن فيه ولا يلين، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً، وأحسنهم معاملة، وأبرهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير، فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52].

ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو أحرج المواقف في مكة، وهو محاصر في دعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُعذبون ويُؤذَوْن في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة فينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين تأليفاً لقلوبهم، أو دفعاً لأذاهم.

ص: 3327

وساوموه على أن يعبد ما يعبدون، وهم يعبدون ما يعبد، فحسم الله هذه المساومة المضحكة بقوله:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6].

ولقد واجه الملأ من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أذى، بالقول وبالفعل .. وعرضوا عليه عروضاً مغرية لعله أن يقبلها ويترك ما جاء به من الدين .. واتهموه تارة بالسحر .. وتارة بالكذب .. وتارة بالشعر .. وتارة بالكهانة .. وتارة بالجنون، ولكنه لم يبال بالعروض .. وصبر على السب والأذى .. ومضى يدعو إلى الله حتى أظهر الله دينه .. وجاء الحق .. وزهق الباطل.

والله سبحانه يأمر رسوله (بأداء رسالته إلى البشرية .. وينهاه عن طاعة أحد، من هؤلاء الملأ المكذبين بالذات، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة، وهو الوليد بن المغيرة، أحد كبار طغاة قريش، له مواقف مشهورة وكثيرة في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد أصحابه، والوقوف في وجه الدعوة، والصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} [القلم: 10 - 15].

وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين .. استهزاءً بآياته .. وسخرية من رسوله .. واعتداء على دينه .. وكفراً بالله ونعمه.

وما جزاء هذا الصنف العنيد المستكبر الأثيم: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} [القلم: 16].

إنها القاصمة والعلامة المخزية التي يستأهلها عدو الإسلام، وعدو الرسول الكريم، لمثل هذه الهامات الشامخة، والكبرياء المنفوخة.

إنه العزيز الجبار القوي القهار يقول لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم خَلِّ بيني وبين هؤلاء الكفار المكذبين، المغترين بالمال والبنين، والجاه والسلطان، فالحرب معي، لا معك ولا مع المؤمنين، وهذا المخلوق عبدي، وأنا سأتولى أمره، وذرني

ص: 3328

لحربه، فأنا به كفيل، فسأملي لهم، وأجعل هذه النعمة فخهم:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [القلم: 44 - 45].

والله يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وشأن المكذبين وأهل الأرض أجمعين أهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذا التدبير، ولكنه سبحانه يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان، وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم فارون، وإن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوإ مصير، وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].

إن حجج الإسلام ومبادئه بينة عادلة، دافعة تدفع جميع طوائف الكفر، ولذلك فهم لا يملكون إلا الإيذاء والقتل؛ لأن الإنسان حين يفقد حجته يلجأ إلى العنف، وطالما هو يملك الحجة فيستطيع أن يجادل ويخاصم.

ولا يلجأ إلى العنف أبداً ما دام قوياً بحجته وبرهانه، ولا يلجأ إلى العنف إلا ضعيف الحجة، ولذلك قال أصحاب القرية لرسلهم:{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} [يس: 18].

إن مواكب الكفر ورجاله لا تملك أي حجة أمام دين الله، وأمام حملة رسالته، ولكنهم خشية على شهواتهم، وحرصاً على أموالهم، وخوفاً على الجاه والسلطان الذي اغتصبوه ظلماً وعدواناً، وحتى لا يتساووا مع الناس في الحقوق والواجبات، هم يلجؤون دائماً إلى الإيذاء والعنف والقتل في مواجهة مواكب الإيمان، ويحاربونهم بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة، ما دام أنهم قد فقدوا المنطق والبرهان، وضاعت حجتهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ

ص: 3329

الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}

[إبراهيم: 13، 14].

وهؤلاء الكفار ليس لهم قيمة ولا قوة ولا قدرة، وهم أقل من أن يُنزل الله عليهم قوة من السماء لتقضي عليهم، فهم لا يساوون شيئاً.

وهو سبحانه إن تركهم في غيهم في الدنيا فليس معنى ذلك أنه غير قادر عليهم، وليس مرجعه أنهم معجزون في الأرض، أو يساوون شيئاً أمام قدرة الله، بل مرجعه إلى أن الله خلق الإنسان وأعطاه حرية الاختيار في أن يؤمن أو لا يؤمن، ومشيئة الله سبحانه أن يترك الكافر يجادل ويكابر، وينذره ويرسل إليه الرسل ومواكب الإيمان، لا لأنه لا يقدر عليه، ولكن لأن الله جعله مختاراً، وله يوم يأتي فيه أجله، أو ينتهي عمره، فهو لا يساوي عند الله شيئاً، والله قادر أن يسلبه الحياة في أي لحظة كما قال سبحانه عن صاحب يس:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} [يس: 28 - 30].

فالله خلق العباد، وقدر الآجال والأرزاق، وابتلاهم بالأعمال، فمنهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، ولولا هذه الآجال، وهذا الابتلاء لعاجلهم الله بالعقوبة كما قال سبحانه:{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}

[الشورى: 14].

ألا ما أعظم الكفر وأقبحه، ولذلك توعد الله أهله بأشد العقوبات كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161 - 162].

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} [آل عمران: 10].

ص: 3330

وقال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)} [آل عمران: 12].

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}

[آل عمران: 91].

وقال سبحانه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}

[الرعد: 31].

وقال سبحانه: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران: 196 - 197].

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56].

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169].

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}

[المائدة: 36].

وإذا كانت هذه عقوبات الله للكفار، وليس لأحد بها من طاقة، فهل يعود الكافر إلى ربه ويتوب إليه؟.

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)} [الأنفال: 38].

وجميع أعمال الكفار غير مقبولة عند الله؛ لأنها مبنية على الكفر والتكذيب، لكن ما كان لله منها يجازَوْن به في الدنيا بنعمة الصحة والمال ونحو ذلك.

أما في الآخرة فلا نصيب لهم من أعمالهم كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} [إبراهيم: 18].

ص: 3331

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» أخرجه مسلم (1).

وقد أبعد الله الكفار في الدنيا والآخرة من رحمته وكفى بذلك عقاباً: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} [الأحزاب: 64 - 66].

والله سبحانه لا يغفر لمن أشرك به أحداً من خلقه، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب والمعاصي كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].

والكفر ضد الإيمان، وجميع الكفار أعداء للمؤمنين.

والكفر على أربعة أنحاء:

كفر إنكار .. وكفر جحود .. وكفر عناد .. وكفر نفاق.

وكل من لقي ربه بذلك أو بشيء من ذلك فهو كافر لا يغفر الله له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

فأما كفر الإنكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6].

وأما كفر الجحود فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، فهذا كافر جاحد ككفر إبليس كما قال سبحانه:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].

وأما كفر العناد فهو أن يعرف بقلبه، ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل، ككفر أبي طالب.

(1) أخرجه مسلم برقم (2808).

ص: 3332

وأما كفر النفاق فأن يكفر بقلبه، ويقر بلسانه، وهؤلاء أخطر الكفار على الإسلام، وأشدهم عقوبة يوم القيامة كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].

والكفار لغلظ كفرهم، وكفرهم بالله وآياته وشرعه، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالشقاء والنكد والظنك، ويوم القيامة يحشرون على وجوههم إلى جهنم عمياً لا يبصرون، وبكماً لا يتكلمون، وصماً لا يسمعون، كما قال سبحانه عنهم:

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)} [الإسراء: 97 - 98].

وقال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)}

[الرعد: 34].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُّحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «ألَيْسَ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (1).

ألا ما أعظم الكفر والشرك والنفاق.

إن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له، وأشدها مقتاً لديه، ورتب الله عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نَجَسٌ، ومنعهم من قربان حرمه، وجعلهم أعداءه وأعداء ملائكته ورسله والمؤمنين، وأباح لأهل الإسلام أموالهم ونساءهم وأبناءهم.

لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6523)، ومسلم برقم (2806) واللفظ له.

ص: 3333