المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ واهتز لموته عرش الرحمن - نزهة الأفكار في شرح قرة الأبصار - جـ ١

[عبد القادر المجلسي]

فهرس الكتاب

- ‌الكلام على البسملة

- ‌«ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء

- ‌ ولنذكر حين تم شرح هذه الأبيات

- ‌ من يعقوب إسرائيل الله

- ‌(وحملت آمنة الزهرية)

- ‌ أصغر كوكب في السماء أكبر من الأرض بمائة وعشرين مرة

- ‌ وسأله أن يبعث له فيله "محمود

- ‌(فغاضت المياه) هذا من عجائب

- ‌(عفا جانب البطحاء من ال هاشم

- ‌ أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(بيان مبعث النبي الهادي

- ‌(فقام يدعو الإنس والجن إلى

- ‌ فكان أول دم أريق فى سبيل الله

- ‌(وكان قادرا على التدمير…لو شاء

- ‌ الجن على ثلاثة أصناف:

- ‌ وفى الجن ملل

- ‌ أول من خط بالقلم

- ‌(بيان هجرة النبى المختار

- ‌ واهتز لموته عرش الرحمن

- ‌ ما أكل منها جائع إلا شبع

- ‌(يا دار خير المرسلين

- ‌(أولها) غزوة ودان

- ‌ هذا كتاب من محمد رسول الله

- ‌أما غزوة بدر فهي أعظم

- ‌ لها سبعة أولاد شهدوا بدرا

- ‌(هنيئا زادك الرحمن فضلا

- ‌ وبعدها "غزوة أحد

- ‌ أنسيتم ما قال لكم رسول الله

- ‌(أنا ابن الذي سالت على الخد عينه

- ‌ غزوة حمراء الأسد

- ‌ غزوة دومة الجندل

- ‌ غزوة الخندق

- ‌ فلم يقم لقريش حرب بعدها

- ‌ اللهم منزل الكتاب

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌ غزوة بني لحيان

- ‌ غزوة ذي قرد

- ‌ لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل

- ‌ قال أهل الإفك في الصديقية الطاهرة

- ‌ غزوة الحديبية

- ‌ وإذا توضأ كادوا يقتتلون علي وضوئه

- ‌ فلما حصل الصلح اختلطوا بالمسلمين

- ‌ ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر

- ‌ثم يلي خيبر فتح واد القرى

- ‌ غزوة القضاء

- ‌غزوة مؤتة

- ‌ثم بعد مؤتة غزوة فتح مكة

- ‌غزوة حنين

- ‌ولما أسلمت ثقيف تكلمت أشرافهم

- ‌ اللهم لا تنسها لأبي سفيان

- ‌غزوة بني سليم

- ‌غزوة بني قينقاع

- ‌ثم غزوة السويق

- ‌غزوة غطفان

- ‌غزوة بحران

- ‌غزوة تبوك

- ‌(طلع البدر علينا

- ‌ولنذكر كلاما مختصراً في البعوث

- ‌ ثم بعد ذلك سرية محمد بن مسلمة

- ‌ثم سرية زيد بن حارثة إلى القردة

- ‌ فأتتهم فقتلت منهم سبعمائة رجل

- ‌ويليه بعث أبي عبيدة بن الجراح

- ‌ أيها الناس إني قد أجرت أبا العاصي

- ‌ثم سرية زيد سادسة إلى واد القرى

الفصل: ‌ واهتز لموته عرش الرحمن

كما فى الزرقاني حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم، وأنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. اهـ. المراد من الإكتفاء.

ولما أتى أهل البيعة الثانية المدينة وأظهر الله الإسلام كتب الأوس والخزرج للنبي صلى الله عليه وسلم أبعث لنا من يقرؤنا القرآن فبعث إليهم مصعب بن عمير فأسلم على يديه خلق كثير من الأنصار وأسلم فى جماعتهم سعد بن معاذ بن النعمان بن أمرئ القيس بن عبد الأشهل الأوسي، سيدهم، وافق حكمه حكم الله‌

‌ واهتز لموته عرش الرحمن

وأسلم معه أسيد بضم الهمزة وفتح المهملة ابن حضير مصغر ابن سماك ابن عتيك الأشهلي أيضا فى يوم واحد وأسيد هو الأول وأسلم بإسلامهما جميع بنى عبد الأشهل وذلك أن سعدا لما أسلم أقبل إلى نادى قومه ومعه أسيد فقال يابني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم فقالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله فما أمسى فيهم امرأة ولا رجل إلا مسلما ومسلمة حاشى الأصيرم وهو عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم يوم أحد واستشهد ولم يسجد لله سجدة، وأخبر صلى الله عليه في سلم أنه من أهل الجنة ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة بل كانوا كلهم مخلصين رضي الله عنهم، ومن المواهب وشرحها وروي أن أهل مكة سمعوا هاتفا يهتف قبل إسلام سعد بن معاذ وهو يقول:

(فإن يسلم السعدان يصبح محمدا

بمكة لا يخشى خلاف المخالف)

فقالت قريش لو علمنا من السعدان! قال عند ذلك:

(فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا

ويا سعد سعد الخزرجين العطارف)

ولما تمت بيعة العقبة الثالثة ليلة ثاني أيام التشريق وكانت سرا عن

ص: 158

كقار قريش وعن كفار الأنصار الذين قدموا حجاجا مع أهل البيعة هم خمسمائة كما قال الحاكم وطابت نفسه صلى الله عليه وسلم ان جعل الله له منعة أهل حرب ونجدة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة إلى المدينة بعد اشتداد الأذى عليهم من الكفار فشكوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فقال قد رأيت دار هجرتكم سبخة ثم مكث أياما ثم خرج مسرور فقال قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن أراد منكم أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا أرسالا وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يؤذن له فى الخروج فكان أول من هاجر من أصحابه أبوسلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزومى البدري أخو المصطفى صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وابن عمته برة وقال فيه أول من يعطي كتابه بيمينه أبوسلمة رواه ابن ابي عاصم ثم عامر بن ربيعة المذحجي أو العنزي بسكون النون من عنز بن وائل أحد السابقين وهاجر إلى الحبشة بزوجته وشهد بدرا وما بعدها وهاجرت معه أيضا إلى المدينة وهي ليلى بنت حثمة بفتح المهملة وسكون المثلثة قال أبو عمر وهي أول ظعينة قدمت المدينة وقال موسى بن عقبة أولهن أم سلمة وجمع بأن ليلى أول ظعينة مع زوجها وأم سلمة وحدها لأن بنى محزوم حبسوها عن زوجها ثم أذنوا لها فى اللحاق به فهاجرت وحدها حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة العبدري وكان يومئذ مشركا فشيعها حتى إذا أوفى على قباء قال لها زوجك فى هذه القرية ثم رجع ثم عبد الله بن جحش بأهله وأخيه أبى أحمد عبد بلا إضافة على الصحيح كما قال السهيلي تبعا لابن عبد البر وقيل اسمه ثمامة ولا يصح كان ضريرا يطوف أعلى مكة وأسفلها بلا قائد فصيحا شاعرا وعنده الفارعة بمهملة بنت أبى سفيان بن حرب قال أبو عمر وهاجر جميع بنى جحش بنسائهم ثم المسلمون أرسالا ومنهم عمار بن ياسر وبلال وسعد بن أبى وقاص ففى الصحيح أنهم هاجروا قبل عمر ثم عمر بن الخطاب وعياش بن أبى ربيعة المخزومي فى عشرين راكبا منهم سعيد بن زيد وواقد بن عبد الله وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن

ص: 159

المعتمر العدوي وخنيس بن حذافة السهمي وبنو البكير الأربعة والزبير وخولى بن أببي مالك بن أبي خولى واسم أبى خولى عمرو بن زهير وغيرهم ثم عثمان بن عفان وتتابع الناس بعده حتى لم يبقى أحد إلا من حبس بمكة أو أفتتن إلا على بن أبي طالب وأبو بكر رضي الله عن جميعهم وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة إلى المدينة فيقول لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو، وعند البخاري فقال صلى الله عليه وسلم على رسلك فإنى أرجو أن يؤذن لى فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبى أنت وأمى؟ قال نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر انتهى. ولما رأت قريش هجرة الصحابة وعرفوا أنه صار له أصحاب من غيرهم حذروا خروجه وعرفوا أنه أجمع لحربهم فاجتمعوا فى دار الندوة بفتح النون والواو مهملة ساكنة ثم هاء تأنيث وهي دار قصيى بن كلاب سميت بذلك لاجتماع الندي فيها يتشاورون والندي الجماعة ينتدون أى يتحدثون وهي أول دار بنيت بمكة كما قال ابن الكلبي وكانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها وكان اجتماعهم فيها يوم السبت ولذا ورد يوم السبت يوم مكر وخديعة يتشاورون فيما يصنعون فى أمره صلى الله عليه وسلم وكانوا مائة كما فى المولد لابن دحية فأتاهم إبليس فوقف على باب الدار فى هيأة شيخ جليل عليه بت بفتح الموحدة وشد الفوقية كساء غليظ أو طيلسان من خز فقالوا من الشيخ قال من أهل نجد سمع بالذى أتعدتم له وحضر ليسمع ما تقولون وعسى ان لا يعدمكم رأيا ونصحا فقالوا ادخل فدخل فقال أبو البختري بفتح الموحدة وسكون المعجمة ابن هشام أحبسوه فى الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء قبله فقال النجدي ما هذا برأي والله لئن حبستموه ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه منه أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي فانظروا

ص: 160

في غيره، وقال ربيعة بن عمر والعامري قال في النور ولا أعلم ماذا جرى له نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلانا فلا نبالي إلى أين ذهب، فقال النجدي لعنه الله، والله ما هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال لما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك حتى يتابعوه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم، ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأيًا غير هذا، فقال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيًا ما أراكم وقعتم فيه، أرى أن تأخذ كل قبيلة شابًا جلدًا نسيبًا وسيطًا، ثم يعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، ويتفرق دمه في القبائل فلا تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا فنعقله لهم، فقال النجدي: القول ما قال لا أرى غيره، فأجمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك، وإنما تمثل لهم في صورة نجدي لأنهم قالوا لا يدخلن معكم أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم مع محمد، ثم أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرقبونه حتى ينام فيثبوا عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم أمر عليًا أن ينام مكانه، وقال: تسبح بردي هذا الأخضر فنم فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم، فكان علي أو من شرى نفسه في الله ووقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول علي رضي الله عنه:

(وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر)

(رسول إله خاف أن يمكروا به

فنجاه ذو الطول الإله من المكر)

(وبات رسول الله في الغار آمنًا

موقى وفي حفظ الإله وفي ستر)

(وبت أراعيهم وما يتهمونني

وقد وطنت نفسي على القتل والأسر)

ويتهمونني بضم التحتية وصوب الزمخرشي أنه لم يقل إلا بيتين لكن في مسلم أنه قال مجيبًا لمرحب اليهودي يوم خيبر:

ص: 161

(أنا الذي سمتني أمي حيدره الخ)

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب، ونثر على رؤوسهم كلهم ترابًا كان في يده وهو يتلو قوله تعالى:{يس} إلى قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، ثم انصرف حيث أراد، وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يره أحد منهم، وروى أحمد بإسناد حسن أنه خرج حتى لحق بالغار أي غار ثور وفي رواية ابن هشام فأفاد أنه توارى فيه حتى أتى أبا بكر منه في نحر الظهيرة، ثم خرج إليه هو وأبو بكر ثانيًا، وفي البيضاوي فبيت عليًا على مضجعه، وخرج مع أبي بكر إلى الغار، انتهى، فأتاهم آت ممن لم يكن معه فقال ماذا تنتظرون ها هنا؟ ، قالوا: محمدًا، قال قد خيبكم الله، والله خرج محمد عليكم ثم ما ترك فيكم رجلاً إلا وضع على رأسه ترابًا، فوضع كل رجل يده على رأسه فإذا عليه تراب، وفي رواية ابن أبي حاكم عن ابن عباس فما أصاب رجلاً منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا، وفي هذا نزل {{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] (الآية)، ثم أذن الله تعالى لنبيه في الهجرة إلى المدينة، قال ابن عباس بقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} [الإسراء: 80]، أي المدينة، مدخل صدق أي إدخالاً مرضيًا لا أرى فيه ما أكره، وأخرجني أي من مكة، مخرج صدق أي إخراجًا لا التفت إليها بقلبي، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا أي قوة تنصرني بها على أعدائك، أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم انتهى من المواهب وشرحها، وبعضه من الكلاعي ثم بين الناظم رحمه الله تعالى سن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر فقال:

(وهاجر المختار لما أن وصل

خمسين مع ثلاثة حتى نزل)

(بطيبة الغراء حيث أمرا

)

يعني أنه صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة زادهما الله تعالى تعظيمًا لما بلغ عمره المبارك ثلاثًا وخمسين سنة، فقوله حتى نزل غاية لهجرته عليه السلام، وطيبة من أسماء المدينة ووصفها بالغراء لإشراقها بنور المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد انتشر منها الدين

ص: 162

الحنيفي في جميع البلاد.

وقوله حيث أمر متعلق بنزل أي نزل بالموضع الذي أمره الله تعالى أن ينزل فيه وكانت مدة إقامته بمكة من حين النبوءة ثلاث عشرة سنة كما رواه البخاري عن ابن عباس وروى مسلم عنه خمس عشرة، قال الحافظ: والأول أصح اهـ، وهو قول الجمهور، قاله الشيخ محمد بن عبد الباقي، وكان خروجه عليه السلام من مكة بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبًا منها، ذكره الحاكم، وجزم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول، فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يومًا؛ لأن البيعة في ذي الحجة ليلة ثاني أيام التشريق، فالباقي من الشهر ثمانية عشر يومًا إن كان تامًا، وإلا فسبعة عشر، وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول على الراجح، وقيل لثمان خلت منه كما في الاستيعاب، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة يوم الاثنين، إلا أن محمدًا ابن موسى الخوارزمي قال إنه خرج من مكة يوم الخميس، ويجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس، وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين لأنه أقام فيه ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين، وقول الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه يوم الاثنين مجاز أطلق اليوم على الليلة، وروى الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل من يهاجر معي، قال أبو بكر الصديق، قال الحاكم صحيح غريب، وأخبر عليًا أنه يريد الخروج وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، وذلك أنه كما قال ابن إسحاق ليس في مكة أحد يكون عنده شيء يخاف عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من أمانته، قالت عائشة رضي الله عنها: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، أتانا في الهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها.

ص: 163

فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا من حدث، فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك، فقال لا عين عليك إنما هما ابنتاي بأبي أنت وأمي، فقال صلى الله عليه وسلم فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والصحبة بالنصب معمول لأريد محذوف أو مرفوع بتقدير مطلوبي، قال صلى الله عليه وسلم نعم، قالت عائشة رضي الله عنها: فرأيت أبا بكر بكى وما كنت أحسب أن أحدًا يبكي من الفرح، فقال أبو بكر فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال صلى الله عليه وسلم إني لا أركب بعيرًا ليس لي، فقال لك، قال لا ولكن الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا، قال قد أخذتها بذلك.

وأفاد الواقدي أن الثمن ثمان مائة درهم وأن التي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم هي القصواء، وكانت من نعم بني قشير وعاشت بعده صلى الله عليه وسلم قليلاً وماتت في خلافة أبي وكانت مرسلة ترعى بالبقيع، وذكر ابن إسحاق أنها الجدعاء وكانت من إبل بني الحريش بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وسكون التحتية وشين معجمة، وفي سيرة عبد الغني أن الثمن أربع مائة درهم وإنما لم يقبلها إلا بالثمن وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله أكثر من ذلك، فقبله كما ذكر السهيلي إنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكماله فضل الهجرة إلى الله تعالى، وأن تكون على أتم الأحوال، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجمع على الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته وهي بفتح المعجمتين بينهما واو ساكنة، وهي الباب الصغير كما في الزرقاني وغيره بعد دخوله عليه في نحر الظهيرة، وكان خروجهما ليلاً فمضيا إلى غار ثور بمثلثة فمكثا فيه ثلاث ليال كما هو لفظ البخاري وثور جبل بمكة وفي الأنوار الغار ثقب في أعلى ثور في يمنى مكة على مسيرة ساعة وقيل على ثلاثة أميال

ص: 164

وقيل على ميلين منها، والبحر يرى من أعلى هذا الجبل، وفيه من كل نبات الحجاز وشجره، وفيه شجر البان، وفي القاموس ثور جبل بمكة فيه الغار المذكور في التنزيل، ويقال له ثور أضحل واسم الجبل أضحل نزله ثور ابن عبد مناة فنسب له.

وروي أنهما لما خرجا لقيهما أبو جهل فأعماه الله عنهما، وفي حديث أنه عليه السلام لما صعد ثبيرا ناداه اهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، وإنما خاف ذلك لأنه لو لم يذكر ذلك مع علمه بأنه لا مكان فيه يستره كان غشًا، فناداه حراء إلي يا رسول الله، وهو مقابل ثبير مما يلي شمال الشمس وبينهما الوادي وهما على يسار السالك إلى منى، ولم يذهب إليه لسبق تعبده فيه فخشي أن يطلبوه فيه، وذهب إلى ثور دون غيره لحبه الفال الحسن، فقد قيل الأرض مستقرة على قرن الثور، فناسب استقراره فيه، وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان به شيء نزل بي قبلك، فدخله فجعل يلتمسه بيده فكلما رأى حجرًا قطع من ثوبه وألقمه الحجر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، فبقي حجر فألقمه عقبه، وفي رواية فأدخل فيه رجله إلى فخذه فجعلت الحيات والأفاعي تلسعنه فجعلت دموعه تتحدر، وفي رواية فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر فنام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك لئلا يوقظ المصطفى صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال مالك يا أبا بكر، فقال لدغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده، ولأب نعيم فلما أصبح قال لأبي بكر أين ثوبك فأخبره بالذي صنع، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال:"اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة"، فأوحى الله إليه قد استجبنا لك، والظاهر أنه كان عليه غيره مما يستر جميع بدنه إذ لم ينقل طلبه لغيره ممن كان يأتيهما كابنه وابن فهيرة، انتهى من الزرقاني، فلما دخل صلى الله عليه وسلم الغار هو وأبو بكر أنبت

ص: 165

الله على بابه الراءة، بالراء المهملة والمد والهمزة، فحجبت أعين الكفار، وهي أم عيلان ضرب من العضاه كما في المصباح، فأمر الله العنكبوت فنسجت على فم الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فعششتا على بابه، ولما فقدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة أثره، والقافة جمع قائف وهو الذي يعرف الأثر، فوجد الذي ذهب قبل ثور أثره، فلم يزل يتبعه حتى انقطع أثره لما انتهى إلى ثور، ولما انتهى قريش إلى فم الغار قال قائل منهم ادخلوا الغار، قال أمية بن خلف وما أربكم إلى الغار إن فيه لعنكبوتًا أقدم من ميلاد محمد، وعند الطبراني وخرجت قريش حين فقدوهما وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر إن هذا الرجل ليرانا، وكان مواجهه، فقال صلى الله عليه وسلم كلا إن ثلاثة من الملائكة يسترنا بأجنحتها، فجلس ذلك الرجل يبول مواجهه في الغار، فقال صلى الله عليه وسلم لو كان يرانا ما فعل هذا، وروي أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا، وفي رواية أن أبا بكر قال أما والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال لا تحزن إن الله معنا بالمعونة والنصر، ولما خرجا إلى الغار أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى، فكان عامر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما فاحتلبا وذبحا، فإذا غدى عبد الله من عندهما تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفر أثرهما، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام بما يصلحهما، ولله در مجلي حلبة المديح النبوي حيث يقول، ولقوله قبول:

(وأغيرتا حين أضحى الغار وهو به

كمثل قلبي معمور ومأهول)

ص: 166

(وجلل الغار نسج العنكبوت على

وهن فيا حبذا نسج وتحليل)

(كأنما المصطفى فيه وصاحبه

الصديق ليثان قد أواهما غيل)

(عناية ضل كيد المشركين بها

وما مكايدهم إلا الأضاليل)

(إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما

كأن أبصارهم من زيغها حول)

الغيل بالكسر الشجر الملتف، وجلل غطى، والعناية بكسر العين وفتحها، والأصاليل جمع إضليلة، وروي أنا أبا بكر قال: نظرت إلى قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تفطرتا دمًا في الغار فاستبكيت، وعلمت أنه لم يكن تعود الحفى، والسين والتاء للمبالغة لا للطب، والحفى المشي بلا خف ولا نعل، وكان من قوله صلى الله عليه وسلم لما وقف على الحزورة بفتح المهملة فزاء ساكنة فواو فراء سوق كانت بمكة أدخلت في المسجد ونظر إلى البيت: والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك، وأقام صلى الله عليه وسلم في الغار هو وأبو بكر ثلاث ليال وخرجا منه ليلة الاثنين، كما مر، ولما أراد الخروج أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ليدلهما على الطريق، وكان استيجارهما له قبل خروجهما من مكة، فدفعا إليه راحلتيهما وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما حين هدأت الأصوات كما قال ابن شهاب، وهو رجل من بني الديل، بكسر الدال وسكون التحتية، وقيل بضم أوله وكسر ثانية مهموزًا كما في الفتح، واسمه عبد الله بن أريقط بالقاف والطاء مصغر، وفي رواية الأموي أريقد بالدال بدل الطاء، والأول أشهر، قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز، أي أسرعه، وصنعنا لهما سفرة من جراب، وفي البخاري سفرة في جراب، قال الحافظ سفرة أي زاد في جراب؛ لأن أصل السفرة الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد، ومثله المزادة للماء، وكذا الرواية، فاستعملت هنا على أصل اللغة، وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة انتهى، وأتتهما بالسفرة أسماء بنت أبي بكر ونسيت أن تجعل لهما عصامًا فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب، بكسر الجيم وفتحها، والكسر أفصح قاله النووي، وفي القاموس أنه لا

ص: 167

يفتح أو لغية، وهو المزود، فسميت بذلك ذات النطاق، وفي رواية الكشميني بالتثنية، والنطاق ما يشد به الوسط، وفي البخاري أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد، واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق، وذات النطاقين، بالإفراد والتثنية لهذين الاعتبارين، وعند ابن سعد شقت نطاقها نصفين فأوكت بقطعة منه الجراب، وشدت فم القربة بالباقي، وسميت ذات النطاقين، وقال الهروي سميت بذلك لأنها كانت تجعل نطاقًا على نطاق، انتهى من الزرقاني.

ولما تجهزا ركبا وانطلق معهما عامر بن فهيرة مولى أبا بكر يخدمهما، يردفه أبو بكر ويعقبه وليس معهما غيره هو وابن الأريقط، ولم يعرف له إسلام كما قال الحافظ عبد الغني وتبعه النووي، وفي الإصابة لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي، وقال السهيلي ولم يكن إذ ذاك مسلمًا، ولا وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد، ولا يعترض بأن الواقدي ذكر أنه أسلم لأنه قيد بصحيح ومعلوم ضعف الواقدي خصوصًا مع الانفراد، وكأنه سلف الذهبي، قاله الشيخ محمد بن عبد الباقي، وعن أسماء قالت لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟ ، قلت لا أدري والله، فرفع أبو جهل يده فكان فاحشًا خبيثًا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي، ثم انصرفوا، ، وفي رواية خرج منها قرطي، وهو بضم القاف، ولما ساروا أخذ بهم الدليل طريق الساحل أسفل عسفان، فمروا بقديد، بضم القاف مصغر موضع معروف على أم معبد الخزاعية واسمها عاتكة بنت خالد بن خليد مصغر، وآخره دال مهملة، وقيل ابن خليف بفاء بدل الدال مصغر، وقيل ابن منقذ بضم الميم وسكون النون وكسر القاف وذال معجمة، وهي صحابية، وكذا أخوها حبيش، وكذا زوجها أبو معبد صحابي له رواية، وكانت أم معبد برزة بفتح الموحدة وسكون المهملة، فزاي معجمة، أي عفيفة جليلة مسنة أو غيرها، وقيل هي المسنة التي برزت فلم تتخدر لسنها وخرجت عن المحجوبات جلدة قوية تحتبي، أي تجلس بفناء القبة، والفناء سعة أمام البيت، ثم تسقي وتطعم من يمر بها، وكان القوم

ص: 168

مرملين مسنتين بكسر النون والفوقية، أي أصابتهم السنة فطلبوا لبنًا ولحمًا، وعند أبي عمر فسألوها لحمًا وتمرًا يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئًا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، بكسر الكاف وفتحها، أي جانبها خلفها بشد اللام الجهد بفتح الجيم وضمها أي الهزال عن الغنم، فسألها صلى الله عليه وسلم هل بها من لبن، فقالت هي أجهد من ذلك، فقال أتأذنين لي أن أحلبها، بضم اللام وكسرها، قالت نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا، بفتح اللام وسكونها، أي لبنًا في الضرع فأحلبها، فدعا بالشاة أي طلبها أن تأتي، فالباء زائدة فيكون معجزة، فاعتقلها أي وضع رجلها بين ساقه وفخذه ليحلبها ومسح ضرعها وظهرها وسمى الله، فتفاجت، بشد الجيم أي فتحت ما بين رجليها ودرت، فدعاء بإناء يربض الرهط، بضم المثناة التحتية وكسر الموحدة، أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا من ربض المكان، فحلب فيه ثجًا، بمثلثة وجيم، أي حلبًا قويًا، فسقى أم معبد حتى رويت ثم سقى القوم حتى رووا، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم آخرهم، وقال ساقي القوم آخرهم شربًا، ثم حلب فيه مرة أخرى فشربوا عللاً بعد نهل، بفتح النون والهاء وتسكن ولام، أي شربا ثانيًا بعد الأول، ثم حلب فيه آخر وغادره عندها، فقال ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك، وفي رواية فحلب ثجًا حتى علاه الثمال، وفي رواية حتى علاه البهاء، والثمال بضم المثلثة واحدة ثمالة وهي الرغوة بتثليث الراء، والبهاء لمعان رغوته ثم ركبوا وذهبوا، وفي بعض الروايات أنها ذبحت لهم شاة وطبختها فأكل هو وأصحابه، وملأت سفرتهم منها ما وسعت، قالت وبقي عندنا لحمها أو أكثر، وبقيت الشاة التي مسح ضرعها إلى زمن عمر، فقل ما لبثت أم معبد حتى جاء زوجها أبو معبد، قال السهيلي لا يعرف اسمه، وقال العسكري اسمه أكثم بفتح الهمزة والمثلثة ابن أبي الجون، ويقال ابن الجون، وهو خزاعي يسوق أعنزًا عجافًا يتساوكن هزلاً بضم الهاء وسكون الزاي، أي يتمايلن من الهزال، فلما رأى اللبن أبو معبد عجب وقال ما هذا يا أم معبد؟ ، أني لك هذا والشاء عازب، أي بعيدة المرعى حيال ولا حلوب بالبيت؟ ، فقالت

ص: 169

ولا الله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، فقال صفيه يا أم معبد، فقالت رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة بفتح الواو، أي الحسن، مليح الوجه، أي مشرقة، حسن الخلق، بضم الخاء واللام، لم تصبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سماه ولاه البهاء، كأن منطقه خرزات نظم طول يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، محفود محشود لا عباس ولا مفند، فقال أبو معبد هذا والله صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته، قوله ثجلة بفتح المثلثة على ما للقسطلاني، وبضمها على ما في النور والسبل، عظم البطن، ويروى بالنون والحاء أي نحول من نحل الجسم إذا قل لحمه والصعلة بفتح الصاد والعين المهملتين، صغر الرأس، وهي أيضًا دقة البدن ونحو له، وفي رواية سقلة بالسين والقاف، وفي أخرى صقلة بالصاد والقاف، أي نحول من صقلت الناقة ضمرتها، والوسيم الحسن، وكذلك القسيم والدعج بالتحريك شدة سواد العين والوطف بالتحريك الطول وفي رواية غطف بغين معجمة ومعناهما واحد، والصحل يفتح الصاد والحاء المهملتين هو كالبحة الموحدة، وأن لا يكون حاد الصوت والحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها، وهو محمود محبوب، ولذا كان أغزل ما قالت العرب قول جرير:

(إن العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لا يحيين قتلانا)

(يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله إنسانًا)

والكحل بفتحتين سواد في أجفان العين خلقة والرجل أكحل وكحيل، والمرأة كحلاء وكحيل، والأزج بفتح الهمزة والزاي وشد الجيم الدقيق طرف الحاجبين، وفي القاموس الزجج محركة دقة الحاجبين في طول، أي

ص: 170

امتداد إلى مؤخر العين، والزجج خلقة، والتزجيج ما كان يصنع، قال:

(إذا ما الغانيات برزن يومًا

وزججن الحواجب والعيوانا)

أي وكحلن العيون، والأقرن المقرون الحاجبين، ومثله في حديث علي وهو مخالف لما في حديث أزج الحواجب، سوابغ من غير قرن، قال ابن الأثير: وهو الصحيح، وقال غيره: أنه المشهور، وأجيب بأن بينهما شعرًا خفيفًا جدًا يظهر إذا وقع عليه الغبار في نحو سفر، وفي عنقه سطع بفتحتين أي ارتفاع وطول، وفي لحيته كثاثة بمثلثتين هي أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وصمت بفتح الميم والوقار بفتح الواو الحلم والرزانة، وإذا تكلم سما أي ارتفع على جلسائه، وقوله وكأن منطقه خرزات نظم الخ، لعل وجه التشبيه التناسب بين كلماته وشدة اتصال بعضها ببعض، فأشبهت الكلمات في تناسقها وفي تواليها الخرزات إذا تتابعت، وقوله حلو المنطق، الحلو في المطعوم مستلذ فاستعير لما يعجب السامع ويستلذ بسماعه، وفصل بفاء فصاد ساكنة، أي فاصل بين الحق والباطل، أو ذو فصل بين أجزائه كقول عائشة ما كان رسول الله صلى الله علي وسلم يسرد سردكم هذا، والنزر بسكون المعجمة، القليل، والهذر الكثير، ضبطه القسطلاني بفتح الذال المعجمة، وفي بعض شراح الشفا ضبطه بسكونها ولا تشنؤه من طول، وفي رواية ولا يشنا من طول، أي لا يبغض لفرط طوله، ولا تقتحمه عين من قصر أي لا تتجاوزه إلى غيره احتقارًا له، وكل شيء ازدريته فقد اقتحمته، قاله ابن الأنباري، ومحفود مخدوم، والحشود الذي عنده حشد بفتح المهملة وسكون المعجمة، وتفتح فدال مهملة، وهم الجماعة، وأجهر الناس أرفعهم صوتًا، وقوله وأحلاه وأحسنه بإفراد الضمير فيهما حملاً على لفظ الناس وربعة بسكون الباء وتحرك، أي متوسط، وقولها غصن أي كغصن بين غصنين تعني الصديق، ومولاه عامر بن فهيرة، ويحفون بضم الحاء يطوفون، والمفند الذي يكثر اللوم، فهو اسم فاعل انتهى وما مر من تفسير الأزج للقسطلاني، وفي الشفا والحاجب الأزج المقوس الطويل الوافر الشعر، وقال ابن سلطان المقوس بفتح الواو المشبه بالقوس في نوع من الإدارة

ص: 171

فلا ينافه قول الطويل، وأزج الحواجب أدقها مع غزارة شعرها وتقوس أصلها، قال ابن سلطان في الجمع بين حديث أم معبد في وصفه بالقرن، وحديث ابن هالة بنفيه، ولعل منشأ الخلاف من جهة قرب الراء وبعده، وقال في الشفاء والأدعج شديد سواد الحدقة، وفي الحديث الآخر أشكل العين، وأسجر العين، وهو أنها في بياضها حمرة، قال شارحها قوله الحديث الآخر أي الذي رواه مسلم أشكل العين وأسجر العين وهما بمعنى، وقوله حمرة أي يسيرة. انتهى.

وقول الشارح فيما تقدم كقول عائشة رصي الله عنها، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، الحديث في الترمذي في الشمائل ولفظه: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه، قال البيجوري في شرحه يسرد بضم الراء ومعناه يأتي بالكلام على الولاء ويتابعه ويستعجل فيه، وقولها كسردكم في نسخة بدون كاف، وقوله هذا أي الذي تفعلونه، فإنه يورث لبسًا على السامعين، وقوله بين فصل أي ظاهر مفصول ممتاز بعضه من بعض بحيث يتبينه من يسمع ويمكنه عده، وهذا أدعى لحفظه ورسوخه في ذهن السامع مع كونه يوضح مراده ويبينه بيانًا تامًا، بحيث لا تبقى فيه شبهة، وقوله من جلس إليه مراده من أصغى إليه وإن لم يجلس إليه. انتهى.

وما مر من تفسير كثاثة اللحية بأن تكون غير دقيقة ولا طويلة هو للقسطلاني، وقال البيجوري في تفسير قول الشمائل كث اللحية أي بفتح الكاف، وفي رواية كثيف اللحية، وفي أخرى عظيم اللحية، وعلى كل فالمعنى أن لحيته صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة، واشتراط جمع من الشراح مع الغلظ القصر متوقف على نقل من كلام أهل اللسان. انتهى كلامه.

وقال ابن سلطان في شرح الشفا: كث اللحية أي غزير شعرها، وكثير أصلها، وفي رواية كثيف اللحية، وفي أخرى عظيم اللحية، كما في شرح الشمائل لابن حجر المكي من قوله غير دقيقها ولا طويلها ينافي

ص: 172

الرواية والدراية؛ لأن الطويل مسكوت عنه، مع أن عظم اللحية بلا طول غير مستحسن عرفًا، فكما أن الطول الزائد على القبضة غير ممدوح شرعًا، ثم هذا لا ينافي ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا من سعادة المرء خفة لحيته كما رواه الأربعة، فإن الكثيف والخفيف من الأمور الإضافية فيحمل على الاعتدال الذي هو الكمال في جميع الأحوال، ولا يبعد أن يحمل الكثيف على أصله، والخفيف على عدم طوله وعرضه، وأما قول الفقهاء اللحية الخفيفة هي التي تظهر في البشرة من تحتها، ومبنى الكلام الأحاديث هذه على المعنى اللغوي تصحيحًا واصطلاحًا. انتهى كلامه.

تنبيه

في الترمذي عن شعبة عن سماك بن حرب من حديث جابر بن سمرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكل العين، قال شعبة قلت لسماك ما أشكل العين؟ قال طويل شق العين. انتهى.

قال البيجوري هذا التفسير خلت منه كتب اللغة المتداولة، ومن ثم جعله القاضي عياض وهمًا من سماك، والصواب ما اتفق عليه العلماء وجميع أصحاب الغريب من أن الشكلة حمرة في بياض العين، وأما الشهلة فهي حمرة في سوادها، والشكلة إحدى علامات النبوءة كما قال الحافظ العراقي، والأشكل محمود محبوب، قال الشاعر:

(ولا عيب فيها غي شكلة عينها

كذاك عتاق الخيل شكل عيونها)

انتهى كلامه.

قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ولما لم ندر أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجل من الجن من مؤمنيهم بعد ثلاث ليال، ولا أعرف اسمه، قاله في النور، وفي رواية أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغني بأبيات شعر غناء العرب وإن الناس يتبعونه يسمعون صوته، ولا يرون شخصه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:

(جزى الله رب الناس خير جزائه

رفيقين حلا خيمتي أم معبد)

ص: 173

(هما زلا بالبر ثم ترحلا

فأفلح من أمسى رفيق محمد)

(فيال قصس ما زوى الله عنكم

به من فعال لا يجاري وسؤدد)

(ليهنأ بني كعب مكان فتاتهم

ومقعدها للمؤمنين بمرصد)

(سلوا أختكم عن شاتها وإنائها

فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد)

(دعاها بشاة حائل فتحلبت

له بصريح ضرة الشاة مزبد)

(فغادرها رهنًا لديها لحالب

يرددها في مصدره ثم مورد)

قوله جزى الله الخ .. في رواية جزى الله خيرًا، والجزاء بكفه ورفيقين مفعول، جزى وحلا من الحلول، وفي رواية قالا من القيلولة، وخيمتي تثنية خيمة، بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر، ومن قديد إلى المشال ثلاثة أميال بينهما خيتما أم معبد، وقوله هما نزلا بالبر الخ .. هو ضد الإثم، وقوله فأفلح الفلاح أجمع اسم لأنواع الخير، وفي رواية هما رحلا بالحق وانتزلا به، وفي أخرى هما نزلاها بالهدى فاهتدت به، فقد فاز وزوى قبض، والفعال، بفتح الفاء وخفة العين الكرم ويجوز أن يكون بكسر الفاء جمعًا، قاله البرهان وتبعه الشامي، وقوله لا يجاري في رواية يجازي بالزاي واليهنأ بفتح اليء وتثليث النون ليسر، وكعب هو ابن عمرو أبو خزاعة، وقوله مكان في رواية مقام بفتح الميم والمرصد بفتح الميم والصاد مقعدها بمكان ترصد أي ترقب فيه المؤمنين لتواسيهم، وقوله سلوا أختكم عن شاتها أي التي حلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارًا في وقت واحد، مع أنها لم يطرقها فحل ولم تستطع الرعي من الهزال، فإنها معجزة باهرة لا تنكر، والصريح بالصاد والحاء المهملتين اللبن الخالص، وضرة الشاة بفتح الضاد المعجمة وشد الراء أصلها ضرعها، وهو فاعل تحلبت، ومزبد بصيغة اسم الفاعل علاه الزبد، نعت الصريح، وقوله فغادرها البيت أي ترك الشاة عندها ذات لبن مستمر، يردد الحالب الحلب عليها مرة بعد مرة لكثرة لبنها. انتهى، هذا التفسير من الزرقاني، قالت أسماء: فلما سمعنا قوله- أي الهاتف- عرفنا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الكلاعي وغيره فلما سمع بذلك حسان بن ثابت قال يجاوب الهاتف، وقال في النور

ص: 174