الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الِاعْتِكَافِ]
ِ الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ: لُزُومُ الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، بِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] . وَقَالَ: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] . قَالَ الْخَلِيلُ: عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى صِفَةٍ نَذْكُرُهَا، وَهُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125] . وَقَالَ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، فِي (سُنَنِهِ) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُعْتَكِفِ: هُوَ يَعْكُفُ الذُّنُوبَ، وَيُجْرَى لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَات كُلِّهَا» . وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.
وَفِي إسْنَادِهِ فَرْقَد السَّبَخِيُّ قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ، رحمه الله: تَعْرِفُ فِي فَضْلِ الِاعْتِكَافِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، إلَّا شَيْئًا ضَعِيفًا. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ مَسْنُونٌ.
[مَسْأَلَة الِاعْتِكَاف سُنَّة]
(2147)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِم رحمه الله: (وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا، فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ) لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا، إلَّا أَنْ يُوجِبَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ الِاعْتِكَافَ نَذْرًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِ، تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبًا لِثَوَابِهِ، وَاعْتِكَافُ أَزْوَاجِهِ مَعَهُ وَبَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمْ يَعْتَكِفُوا، وَلَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ إلَّا مَنْ أَرَادَهُ.
وَقَالَ عليه السلام: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» . وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا عَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ. وَأَمَّا إذَا نَذَرَهُ، فَيَلْزَمُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْفِ بِنَذْرِك» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
[فَصْل نَوَى اعْتِكَاف مُدَّة]
(2148)
فَصْلٌ: وَإِنْ نَوَى اعْتِكَافَ مُدَّةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهَا فَلَهُ إتْمَامُهَا، وَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا مَتَى شَاءَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَلْزَمُهُ بِالنِّيَّةِ مَعَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَإِنْ قَطَعَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَالْقَضَاءُ مُسْتَحَبٌّ.
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَوْجَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -
كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ، فَأَذِنَ لَهَا، فَأَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَعَلَتْ، فَأَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ انْصَرَفَ، فَبَصُرَ بِالْأَبْنِيَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ ، فَقَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْبِرَّ أَرَدْتُنَّ، مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ فَرَجَعَ. فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ.
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ، فَلَزِمَتْ بِالدُّخُولِ فِيهَا، كَالْحَجِّ. وَلَمْ يَصْنَعْ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ شَيْئًا، وَهَذَا لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ عَمَلٍ لَك أَنْ لَا تَدْخُلَ فِيهِ، فَإِذَا دَخَلْت فِيهِ فَخَرَجْت مِنْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْك أَنْ تَقْضِيَ، إلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. وَلَمْ يَقَعْ الْإِجْمَاعُ عَلَى لُزُومِ نَافِلَةٍ بِالشُّرُوعِ فِيهَا سِوَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَمَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْلَى، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ، لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ، فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ.
وَمَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اعْتِكَافَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ، وَأَزْوَاجُهُ تَرَكْنَ الِاعْتِكَافَ بَعْدَ نِيَّتِهِ وَضَرْبِ أَبْنِيَتِهِنَّ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ عُذْرٌ يَمْنَعُ فِعْلَ الْوَاجِبِ، وَلَا أُمِرْنَ بِالْقَضَاءِ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ فِعْلُهُ لِقَضَائِهِ كَفِعْلِهِ لِأَدَائِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، كَمَا قَضَى السُّنَّةَ الَّتِي فَاتَتْهُ بَعْدَ الظُّهْرِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ، فَتَرْكُهُ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لِتَحْرِيمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلُهُ لِلْقَضَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ السُّنَنِ مَشْرُوعٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ تَرْكُهُ، وَلَمْ يُؤْمَرْ تَارِكُهُ مِنْ النِّسَاءِ بِقَضَائِهِ، لِتَرْكِهِنَّ إيَّاهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ. قُلْنَا: فَقَدْ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ؛ لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ الْقَضَاءُ دَلِيلًا عَلَى الْوُجُوبِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى انْتِفَائِهِ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهِمَا لَا يَحْصُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَإِنْفَاقِ مَالٍ كَثِيرٍ، فَفِي إبْطَالِهِمَا تَضْيِيعٌ لِمَالِهِ، وَإِبْطَالٌ لِأَعْمَالِهِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَإِبْطَالِ الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الِاعْتِكَافِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَالٌ يَضِيعُ، وَلَا عَمَلٌ يَبْطُلُ، فَإِنَّ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ، لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ اعْتِكَافِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ النُّسُكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخُصُوص، وَالِاعْتِكَافُ بِخِلَافِهِ.