الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تَتَحَفَّظُ وَتَتَلَجَّمُ، لِئَلَّا تُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِيَانَتُهُ مِنْهَا خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ وَخُرُوجٌ لِحِفْظِ الْمَسْجِدِ مِنْ نَجَاسَتِهَا، فَأَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ. (2186)
فَصْلٌ: الْخُرُوجُ الْمُبَاحُ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا، مَا لَا يُوجِبُ قَضَاءً وَلَا كَفَّارَةً، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَشِبْهُهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالثَّانِي: مَا يُوجِبُ قَضَاءً بِلَا كَفَّارَةٍ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِلْحَيْضِ. وَالثَّالِثُ، مَا يُوجِبُ قَضَاءً وَكَفَّارَةً، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِفِتْنَةٍ، وَشِبْهُهُ مِمَّا يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ. وَالرَّابِعُ، مَا يُوجِبُ قَضَاءً وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لَوَاجِبٍ، كَالْخُرُوجِ فِي النَّفِيرِ، أَوْ الْعِدَّةِ. فَفِي قَوْلِ الْقَاضِي، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِلْحَيْضِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وُجُوبُهَا؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ غَيْرَ مُعْتَادٍ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْخُرُوجِ لِفِتْنَةٍ.
[مَسْأَلَة نَذْر أَنْ يَعْتَكِف شَهْرًا بِعَيْنِهِ]
(2187)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ) وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَزُفَرَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَلَا يَلْزَمُ الصَّوْمُ إلَّا مِنْ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ، فَلَمْ يَجُزْ ابْتِدَاؤُهُ قَبْلَ شَرْطِهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ نَذَرَ الشَّهْرَ، وَأَوَّلُهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا تَحِلُّ الدُّيُونُ الْمُعَلَّقَةُ بِهِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُعَلَّقَانِ بِهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لِيَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِذَلِكَ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ مَحَلَّهُ النَّهَارُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ اللَّيْلِ فِي أَثْنَائِهِ وَلَا ابْتِدَائِهِ، إلَّا مَا حَصَلَ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ. عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّطَوُّعِ، فَمَتَى شَاءَ دَخَلَ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا نَذَرَ شَهْرًا، فَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ كَامِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا أَنْ
يَدْخُلَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِهَا مِنْ آخِرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدُّخُولُ فِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ فَجْرِهِ، وَيَخْرُجُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِهِ. (2188)
فَصْلٌ: وَإِنْ أَحَبَّ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِي صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّ الْعَشْرَ بِغَيْرِ هَاءٍ عَدَدُ اللَّيَالِي، فَإِنَّهَا عَدَدُ الْمُؤَنَّثِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] . وَأَوَّلُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَدْخُلُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَ حَنْبَلٌ، قَالَ أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَكِنْ حَدِيثُ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْفَجْرَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ» . وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَوَجْهُهُ مَا رَوَتْ عَمْرَةُ، عَنْ عَائِشَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ، فَفِي وَقْتِ دُخُولِهِ الرِّوَايَتَانِ جَمِيعًا. (2189)
فَصْلٌ: وَمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْعِيدِ فِي مُعْتَكَفِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، ثُمَّ يَغْدُو كَمَا هُوَ إلَى الْعِيدِ، وَكَانَ - يَعْنِي فِي اعْتِكَافِهِ - لَا يُلْقَى لَهُ حَصِيرٌ وَلَا مُصَلًّى يَجْلِسُ عَلَيْهِ، كَانَ يَجْلِسُ كَأَنَّهُ بَعْضُ الْقَوْمِ.
قَالَ: فَأَتَيْته فِي يَوْمِ الْفِطْرِ، فَإِذَا فِي حِجْرِهِ جُوَيْرِيَةٌ مُزَيَّنَةٌ مَا ظَنَنْتهَا إلَّا بَعْضَ بَنَاتِهِ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ لَهُ، فَأَعْتَقَهَا، وَغَدَا كَمَا هُوَ إلَى الْعِيدِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُحِبُّونَ لِمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْمَسْجِدِ.
(2190)
فَصْلٌ: وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ، لَزِمَهُ شَهْرٌ بِالْأَهِلَّةِ، أَوْ ثَلَاثُونَ يَوْمًا. وَهَلْ يَلْزَمُهُ. التَّتَابُعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ. أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَصِحُّ فِيهِ التَّفْرِيقُ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ بِمُطْلَقِ النَّذْرِ، كَالصِّيَامِ. وَالثَّانِي، يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَحْصُلُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِذَا أَطْلَقَهُ اقْتَضَى التَّتَابُعَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا شَهْرًا، وَكَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ وَالْعِدَّةِ. وَبِهَذَا فَارَقَ الصِّيَامَ، فَإِنْ أَتَى بِشَهْرٍ بَيْنَ هِلَالَيْنِ، أَجْزَأْهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا. وَإِنْ اعْتَكَفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ شَهْرَيْنِ، جَازَ، وَتَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا، وَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ أَيَّامَ هَذَا الشَّهْرِ، أَوْ لَيَالِيَ هَذَا الشَّهْرِ. لَزِمَهُ مَا نَذَرَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: شَهْرًا فِي النَّهَارِ، أَوْ فِي اللَّيْلِ. (2191)
فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي مَا تَنَاوَلَهُ، وَالْأَيَّامُ الْمُطْلَقَةُ تُوجَدُ بِدُونِ التَّتَابُعِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي الدَّاخِلَةُ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْذُورَةِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ شَهْرًا. وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ التَّتَابُعَ لَا يَقْتَضِي أَنْ تَدْخُلَ اللَّيَالِي فِيهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. فَإِنْ نَوَى التَّتَابُعَ، أَوْ شَرَطَهُ، لَزِمَهُ، وَدَخَلَ اللَّيْلُ فِيهِ، وَيَلْزَمُهُ مَا بَيْنَ الْأَيَّامِ مِنْ اللَّيَالِي. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ مِنْ اللَّيَالِي بِعَدَدِ الْأَيَّامِ، إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ، يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُهُ مِنْ اللَّيَالِي، وَاللَّيَالِي تَدْخُلُ مَعَهَا الْأَيَّامُ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:{آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] .
وَلَنَا، أَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ تَكْرَارٌ لِلْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلَ اللَّيَالِي تَبَعًا لِوُجُوبِ التَّتَابُعِ ضِمْنًا، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمَا بَيْنَ الْأَيَّامِ خَاصَّةً، فَاكْتُفِيَ بِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى اللَّيْلِ فِي مَوْضِعٍ وَالنَّهَارِ فِي مَوْضِعٍ، فَصَارَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا. فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، لَزِمَهُ يَوْمَانِ وَلَيْلَةٌ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُطْلَقًا، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، هُوَ كَمَا لَوْ نَذَرَهُمَا مُتَتَابِعَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ لَيْلَتَيْنِ، لَزِمَهُ الْيَوْمُ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، وَلَا مَا بَيْنَهُمَا، إلَّا بِلَفْظِهِ أَوْ نِيَّتِهِ.
(2192)
فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، كَقَوْلِنَا فِي الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ النَّهَارَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ مُتَتَابِعًا.
وَلَنَا، أَنَّ اللَّيْلَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْيَوْمِ، وَهِيَ مِنْ الشَّهْرِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْيَوْمُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَإِنَّمَا دَخَلَ اللَّيْلُ فِي الْمُتَتَابِعِ ضِمْنًا، وَلِهَذَا خَصَّصْنَاهُ بِمَا بَيْنَ الْأَيَّامِ.
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ، لَزِمَهُ دُخُولُ مُعْتَكَفِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَيْسَ لَهُ تَفْرِيقُ الِاعْتِكَافِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ تَفْرِيقُهُ. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِهِ، قِيَاسًا عَلَى تَفْرِيقِ الشَّهْرِ.
وَلَنَا، أَنَّ إطْلَاقَ الْيَوْمِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّتَابُعُ، فَيَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: مُتَتَابِعًا. وَفَارَقَ الشَّهْرَ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَاسْمٌ لِثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَاسْمٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْيَوْمُ لَا يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ إلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ قَالَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِي هَذَا. لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى مِثْلِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ؛ لِأَنَّهُ فِي خِلَالِ نَذْرِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ نَذَرَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بَعْضُ يَوْمَيْنِ لِتَعْيِينِهِ ذَلِكَ بِنَذْرِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِدْ يَوْمًا صَحِيحًا. (2193)
فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا، لَزِمَهُ مَا يُسَمَّى بِهِ مُعْتَكِفًا، وَلَوْ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إلَّا عَلَى قَوْلِنَا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ، فَيَلْزَمُهُ يَوْمٌ كَامِلٌ، فَأَمَّا اللَّحْظَةُ، وَمَا لَا يُسَمَّى بِهِ مُعْتَكِفًا، فَلَا يُجْزِئُهُ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا. (2194)
فَصْلٌ: وَلَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْ الْمَسَاجِدِ بِنَذْرِهِ الِاعْتِكَافَ فِيهِ، إلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ، وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَوْ تَعَيَّنَ غَيْرُهَا بِتَعْيِينِهِ، لَزِمَهُ الْمُضِيُّ إلَيْهِ، وَاحْتَاجَ إلَى شَدِّ الرِّحَال لِقَضَاءِ نَذْرِهِ فِيهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ لِعِبَادَتِهِ مَكَانًا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِتَعْيِينِ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا أَفْضَلُ، فَإِذَا عَيَّنَ مَا فِيهِ فَضِيلَةٌ، لَزِمَتْهُ، كَأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَتَعَيَّنُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ، فِيمَا عَدَا هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ. لِأَنَّ الْمَسْجِدَ
الْأَقْصَى لَوْ فُضِّلَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا خُرُوجُهُ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِمَّا كَوْنُ فَضِيلَتِهِ بِأَلْفٍ مُخْتَصًّا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
وَلَنَا، أَنَّهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ الرِّحَال إلَيْهَا، فَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ فِي النَّذْرِ، كَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّهُ إذَا فُضِّلَ الْفَاضِلُ بِأَلْفٍ، فَقَدْ فُضِّلَ الْمَفْضُولُ بِهَا أَيْضًا. (2195)
فَصْلٌ: وَإِنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاعْتِكَافُ فِيمَا سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُهَا، وَلِأَنَّ عُمَرَ «نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا دُفِنَ فِي خَيْرِ الْبِقَاعِ، وَقَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ.
وَلَنَا، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ» . وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَّا إنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ قَرِيبًا مِنْ الْمَقَامِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْت لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ مَكَّةَ، لَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنِّي وَجَدْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ هَاهُنَا فِي قُرَيْشٍ، مُقْبِلًا مَعِي وَمُدْبِرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَاهُنَا فَصَلِّ. فَقَالَ الرَّجُلُ قَوْلَهُ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَاهُنَا فَصَلِّ. ثُمَّ قَالَ الرَّابِعَةَ مَقَالَتَهُ هَذِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ، فَصَلِّ فِيهِ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْت هَاهُنَا لَقَضَى عَنْك ذَلِكَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ» .
وَمَتَى نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، فَانْهَدَمَ مُعْتَكَفُهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْمُقَامُ فِيهِ، لَزِمَهُ إتْمَامُ الِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ.
(2196)
فَصْلٌ: إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ. صَحَّ نَذْرُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، فَإِنْ قَدِمَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، لَزِمَهُ اعْتِكَافُ الْبَاقِي مِنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ مَا فَاتَ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ قَبْلَ شَرْطِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ زَمَنٍ مَاضٍ. لَكِنْ إذَا قُلْنَا: شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ. لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالِاعْتِكَافِ فِي الصَّوْمِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ، وَلَا قَضَاؤُهُ مُتَمَيِّزًا مِمَّا قَبْلَهُ، فَلَزِمَهُ يَوْمٌ كَامِلٌ ضَرُورَةً، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ اعْتِكَافُ مَا بَقِيَ مِنْهُ إذَا كَانَ صَائِمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ اعْتِكَافٌ مَعَ الصَّوْمِ. وَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ لَمْ يُوجَدْ. فَإِنْ كَانَ لِلنَّاذِرِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ الِاعْتِكَافَ عِنْدَ قُدُومِ فُلَانٍ مِنْ حَبْسٍ، أَوْ مَرَضٍ، قَضَى وَكَفَّرَ؛ لِفَوَاتِ النَّذْرِ فِي وَقْتِهِ، وَيَقْضِي بَقِيَّةَ الْيَوْمِ فَقَطْ، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْزَمُ فِي الْأَدَاءِ، فِي الرِّوَايَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَفِي الْأُخْرَى، يَقْضِي يَوْمًا كَامِلًا، بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ.