الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الْبُيُوعِ]
الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، تَمْلِيكًا، وَتَمَلُّكًا. وَاشْتِقَاقُهُ: مِنْ الْبَاعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمُدُّ بَاعَهُ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ يُبَايِعُ صَاحِبَهُ، أَيْ يُصَافِحُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْبَيْعُ صَفْقَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، إذَا تَضَمَّنَ عَيْنَيْنِ لِلتَّمْلِيكِ. وَهُوَ حَدٌّ قَاصِرٌ؛ لِخُرُوجِ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ مِنْهُ، وَدُخُولِ عُقُودٍ سِوَى الْبَيْعِ فِيهِ. وَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ، وَمَجَنَّةُ، وَذُو الْمَجَازِ، أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا فِيهِ، فَأُنْزِلَتْ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَعَنْ الزُّبَيْرِ نَحْوُهُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى رِفَاعَةُ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ:«يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ. فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ، فَقَالَ: إنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ
سِوَى هَذِهِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَبْذُلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَفِي شَرْعِ الْبَيْعِ وَتَجْوِيزِهِ شَرْعُ طَرِيقٍ إلَى وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى غَرَضِهِ، وَدَفْعِ حَاجَتِهِ.
[فَصْلٌ الْبَيْعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ]
(2751)
فَصْلٌ: وَالْبَيْعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. فَالْإِيجَابُ، أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك أَوْ مَلَّكْتُك، أَوْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا. وَالْقَبُولُ، أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْت، أَوْ قَبِلْت، وَنَحْوَهُمَا. فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الْمَاضِي، فَقَالَ: ابْتَعْت مِنْك. فَقَالَ: بِعْتُك. صَحَّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وُجِدَ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ مِنْهُ
الدَّلَالَةُ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ.
وَإِنْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ، فَقَالَ: بِعْنِي ثَوْبَك. فَقَالَ: بِعْتُك. فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا، يَصِحُّ كَذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ الْإِيجَابِ، لَمْ يَصِحَّ بِهِ الْبَيْعُ، فَلَمْ يَصِحَّ إذَا تَقَدَّمَ، كَلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَرِيَ عَنْ الْقَبُولِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْلُبْ.
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، رِوَايَتَيْنِ أَيْضًا، فَأَمَّا إنْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَتَبِيعُنِي ثَوْبَك بِكَذَا؟ فَيَقُولُ: بِعْتُك. لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَبُولٍ وَلَا اسْتِدْعَاءٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي، الْمُعَاطَاةُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَعْطِنِي بِهَذَا الدِّينَارِ خُبْزًا. فَيُعْطِيهِ مَا يُرْضِيهِ، أَوْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ. فَيَأْخُذُهُ، فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي مَنْ قَالَ لِخَبَّازٍ: كَيْفَ تَبِيعُ الْخُبْزَ؟ قَالَ: كَذَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ: زِنْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ. فَإِذَا وَزَنَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ نَحْوٌ مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ: يَقَعُ الْبَيْعُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ النَّاسُ بَيْعًا. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَصِحُّ فِي خَسَائِسِ الْأَشْيَاءِ.
وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي مِثْلُ هَذَا، قَالَ: يَصِحُّ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَسِيرَةِ دُونَ الْكَبِيرَةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، رحمه الله، أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى مِثْلِ قَوْلِنَا.
وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا رُجِعَ إلَيْهِ فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَبِيَاعَاتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْجُودًا بَيْنَهُمْ، مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا، وَأَبْقَاهُ عَلَى مَا كَانَ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمْ، اسْتِعْمَالُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَوْ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِي بِيَاعَاتِهِمْ لَنُقِلَ نَقْلًا شَائِعًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا، لَوَجَبَ نَقْلُهُ، وَلَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُمْ إهْمَالُهُ وَالْغَفْلَةُ عَنْ نَقْلِهِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَلَوْ اُشْتُرِطَ لَهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ كَثِيرًا، وَأَكَلِهِمْ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُعَاطَاةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُهُ مِنْ قِبَلِ مُخَالِفِينَا، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فِي الْهِبَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ . فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ. قَالَ