الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَاب الْحَجّ]
ِّ الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ. وَعَنْ الْخَلِيلِ، قَالَ: الْحَجُّ كَثْرَةُ الْقَصْدِ إلَى مَنْ تُعَظِّمُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُؤُولًا كَثِيرَةً
…
يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
أَيْ يَقْصِدُونَ. وَالسَّبُّ: الْعِمَامَةُ. وَفِي الْحَجِّ لُغَتَانِ: الْحَجُّ وَالْحِجُّ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا. وَالْحَجُّ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لَأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمِنْ كَفَرَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» . وَذَكَرَ فِيهَا الْحَجَّ، وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:«خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» . فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذَيْنِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
[مَسْأَلَة شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ]
(2197)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ: (وَمَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، لَزِمَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ إنَّمَا يَجِبُ بِخَمْسِ شَرَائِطَ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا.
فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَيْسَا بِمُكَلَّفَيْنِ، وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَطُولُ مُدَّتُهَا، وَتَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، وَتُشْتَرَطُ لَهَا
الِاسْتِطَاعَةُ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَيُضَيِّعُ حُقُوقَ سَيِّدِهِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَالْجِهَادِ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَغَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفُرُوعِ الدِّينِ خِطَابًا يُلْزِمُهُ أَدَاءً، وَلَا يُوجِبُ قَضَاءً. وَغَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْمُسْتَطِيعَ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ، فَيَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . (2198)
فَصْلٌ: وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً؛ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَات. وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَالْإِجْزَاءِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلصِّحَّةِ، فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ صَحَّ حَجُّهُمَا، وَلَمْ يُجْزِئْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ فَقَطْ، وَهُوَ الِاسْتِطَاعَةُ، فَلَوْ تَجَشَّمَ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ الْمَشَقَّةَ، وَسَارَ بِغَيْرِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ فَحَجَّ، كَانَ حَجُّهُ صَحِيحًا مُجْزِئًا، كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامَ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ، أَجْزَأَهُ. (2199)
فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطَيْنِ، وَهُمَا؛ تَخْلِيَةُ الطَّرِيق، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَانِعٌ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ. وَإِمْكَانُ الْمَسِيرِ، وَهُوَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ هَذِهِ الشَّرَائِطُ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ. فَرُوِيَ أَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِدُونِهِمَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَلِأَنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ فِعْلُ الْحَجِّ، فَكَانَ شَرْطًا، كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطَانِ لِلُزُومِ السَّعْيِ، فَلَوْ كَمُلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، حُجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ أَعْسَرَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُمَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ . قَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَهَذَا لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ يَمْنَعُ نَفْسَ الْأَدَاءِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْوُجُوبَ كَالْعَضْبِ، وَلِأَنَّ إمْكَانَ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا فِيهِ، وَالِاسْتِطَاعَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ فَقْدِهِمَا الْأَدَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ، وَفَقْدُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجَمِيعُ، فَافْتَرَقَا.
(2200)
فَصْلٌ: وَإِمْكَانُ الْمَسِيرِ مُعْتَبَرٌ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَلَوْ أَمْكَنَهُ الْمَسِيرُ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَسِيرَ سَيْرًا يُجَاوِزُ الْعَادَةَ، أَوْ يَعْجِزَ عَنْ تَحْصِيلِ آلَةِ السَّفَرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ السَّعْيُ. وَتَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ هُوَ أَنْ تَكُونَ مَسْلُوكَةً،