الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَعْجَبُ إلَيْك أَوْ مَسْجِدِ الْحَيِّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْكَبِيرُ. وَأَرْخَصَ لِي أَنْ أَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ. قُلْت: فَأَيْنَ تَرَى أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْجَانِبِ، أَوْ فِي ذَاكَ الْجَانِبِ؟ قَالَ: فِي ذَاكَ الْجَانِبِ هُوَ أَصْلَحُ مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ. قُلْت: فَمَنْ اعْتَكَفَ فِي هَذَا الْجَانِبِ تَرَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى الشَّطِّ يَتَهَيَّأُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. قُلْت: يَتَوَضَّأُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ. (2159)
فَصْلٌ: إذَا خَرَجَ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدَّ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ قَلَّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ «صَفِيَّةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ، فَلَمَّا قَامَتْ لِتَنْقَلِبَ خَرَجَ مَعَهَا لِيَقْلِبَهَا» . وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَأَنَّى فِي مَشْيِهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَأَبْطَلَهُ، كَمَا لَوْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، وَأَمَّا خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلًا، فَلَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِ اعْتِكَافِهِ تَطَوُّعًا، لَهُ تَرْكُ جَمِيعِهِ، فَكَانَ لَهُ تَرْكُ بَعْضِهِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَهُ لَمَّا أَرَادَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ. وَأَمَّا الْمَشْيُ فَتَخْتَلِف فِيهِ طِبَاعُ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ فِي تَغْيِيرِ مَشْيِهِ مَشَقَّةٌ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْخُرُوجِ.
[مَسْأَلَة لَا يَعُود الْمُعْتَكِف مَرِيضًا وَلَا يَشْهَد جِنَازَة إلَّا أَنْ يَشْتَرِط ذَلِكَ]
(2160)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ (2161) : أَحَدُهُمَا، فِي الْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيض وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ، مَعَ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْهُ: لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعُرْوَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدَ الْجِنَازَةَ، وَيَعُودَ إلَى مُعْتَكَفِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ؛ لِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ، وَلْيَعُدْ الْمَرِيضَ، وَلْيَحْضُرْ الْجِنَازَةَ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْأَثْرَمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عِنْدِي حُجَّةٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيَعُودُ الْمَرِيضَ، وَلَا يَجْلِسُ، وَيَقْضِي الْحَاجَةَ، وَيَعُودُ إلَى مُعْتَكَفِهِ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهَا رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَعَنْهَا قَالَتْ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ، فَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ مِنْ أَجْلِهِ، كَالْمَشْيِ مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ لِيَقْضِيَهَا لَهُ. وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا. وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ دَفْنُ الْمَيِّتِ، أَوْ تَغْسِيلُهُ، جَازَ أَنْ يَخْرُجَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الِاعْتِكَافِ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ تَطَوُّعًا، وَأَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَطَوُّعٌ، فَلَا يَتَحَتَّمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْمُقَامُ عَلَى اعْتِكَافِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُعَرِّجُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
فَأَمَّا إنْ خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَسَأَلَ عَنْ الْمَرِيضِ فِي طَرِيقِهِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ. (2162) الْفَصْلُ الثَّانِي، إذَا اشْتَرَطَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي اعْتِكَافِهِ، فَلَهُ فِعْلُهُ، وَاجِبًا كَانَ الِاعْتِكَافُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ قُرْبَةً، كَزِيَارَةِ أَهْلِهِ، أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ عَالِمٍ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُبَاحًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، كَالْعَشَاءِ فِي مَنْزِلِهِ، وَالْمَبِيتِ فِيهِ، فَلَهُ فِعْلُهُ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَشْتَرِطُ أَنْ يَأْكُلَ فِي أَهْلِهِ؟ قَالَ: إذَا اشْتَرَطَ فَنَعَمْ. قِيلَ لَهُ: وَتُجِيزُ الشَّرْطَ فِي الِاعْتِكَافِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت لَهُ: فَيَبِيتُ فِي أَهْلِهِ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ تَطَوُّعًا، جَازَ. وَمِمَّنْ أَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَشَاءَ فِي أَهْلِهِ الْحَسَنُ، وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ. وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو مِجْلَزٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطٌ.
وَلَنَا، أَنَّهُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ، فَكَانَ الشَّرْطُ إلَيْهِ فِيهِ كَالْوُقُوفِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ، فَإِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ فَكَأَنَّهُ نَذَرَ الْقَدْرَ الَّذِي أَقَامَهُ. وَإِنْ قَالَ: مَتَى مَرِضْت أَوْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ، خَرَجْت. جَازَ شَرْطُهُ. (2163)
فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْوَطْءَ فِي اعْتِكَافِهِ، أَوْ الْفُرْجَةَ، أَوْ النُّزْهَةَ، أَوْ الْبَيْعَ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ التَّكَسُّبَ بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . فَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ اشْتِرَاطٌ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالصِّنَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ، فَفِي الِاعْتِكَافِ أَوْلَى، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ يُشْبِهُ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَلَا يَعْتَكِفْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الِاعْتِكَافِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَعْمَلُ عَمَلُهُ مِنْ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ؟ قَالَ: