الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول تفسير الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة الروم:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} إلى قوله تعالى في سورة لقمان المكية: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .
ــ
في أواخر الربع الماضي تحدث كتاب الله عن تصريف الرياح وإثارة السحب وإنزال الأمطار، ونبه كل إنسان متبصر إلى آثارها الحميدة في الأرض، مما يستوجب شكر الله والاعتراف بفضله وكرمه، إذ قال تعالى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، وهذه الظواهر الطبيعية كلها من آيات الله في الآفاق.
وفي بداية هذا الربع أورد كتاب الله آية أخرى من آياته في الأنفس، فتحدث عن خلق الإنسان والمراحل التي يتقلب فيها من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف منذ عهد الطفولة إلى عهد
الشيخوخة، مما يمر به النوع الإنساني في حياته الطبيعية، وذلك قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} .
وواضح أن أمام الإنسان في كل مرحلة من تلك المراحل مجالا واسعا للتأمل والاعتبار، وفرصة مناسبة للتعمق فيما يحيط بنشأته وتكوين بنيته، وأجهزة جسمه، من لطائف وأسرار، مما يساعده على اكتشاف أثر رحمة الله وبالغ حكمته، ويحمله على الاقتناع التام بواسع علم خالقه وعظيم قدرته:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} (8: 30)، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21: 51)، وقد شغلت الدراسات والبحوث المتعلقة بالإنسان حيزا كبيرا من العلوم والمعارف، التي تحاول أن تكشف عما في الإنسان من عجائب خلق الله وبدائع صنعه، عضويا ونفسيا، عقليا وروحيا، لكن لا تزال جوانب عديدة من هذا الكائن المعلوم و (المجهول) في آن واحد، الذي هو الإنسان، لغزا من ألغاز الخليقة، وسرا من أسرار الطبيعة، إلى الآن وحتى الآن:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (85: 18).
وكما وصف كتاب الله الإنسان بكونه مخلوقا من عجل عندما قال (37: 21): {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} ، ليلتزم الأناة في مساعيه، والتؤدة في تصرفاته، وصفه هنا بكونه مخلوقا من ضعف:{خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ، رغما عما منحه من قوة فكرية، ولياقة بدنية، تنبيها له على التماس أسباب القوة المادية
والروحية، حتى يعوض النقص الذي يعانيه في كل مرحلة من مراحل حياته المتتالية.
وكما قال تعالى في الربع الماضي في شأن السحاب الذي تثيره الرياح: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} ، قال هنا في هذا الربع، عقب ذكره للمراحل التي يمر بها الإنسان:{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ردا على الجاحدين، وتنبيها للغافلين وتذكيرا للناس أجمعين، بأن إرادة الله {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} مهيمنة على الكون بصفة مستمرة، وأن مشيئة الله التي لا تحدها حدود هي التي تحدد النواميس لتكوين الإنسان، وغيره من بقية الأكوان، فلا شيء من سنن الكون خارج عن إرادته، بل الكل متعلق بتدبيره وجار وفق مشيئته، ولذلك جاء التعقيب بقوله تعالى في نفس السياق:{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ، الذي أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير.
وانتقل كتاب الله إلى وصف حال المعاندين البسطاء، المكذبين بالبعث، عندما يُفاجأون بقيام الساعة، فيحاولون الاعتذار عن كفرهم، زاعمين أنهم لم يتمكنوا من معرفة الحق خلال حياتهم القصيرة:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} ، أي: كما كانوا يمارسون الإفك والكذب في الدنيا ها هم يحاولون أن يمارسوه من جديد في نفس الآخرة، مؤكدين كذبهم بالقسم واليمين، {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى (18: 58): {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، لكن لا يلبث (أولو العلم والإيمان) أن يتصدوا في الآخرة لزعمهم بالرد، ولكذبهم بالرفض، كما تصدوا لذلك في الدنيا:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وبين كتاب الله أنه عندما تقوم الساعة لا يقبل من الظالمين أي اعتذار، لانصرام الآجال المحددة للإعذار، وذلك قوله تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ، إذ لا مجال للتوبة والتلاوم والعتاب، بعد أن حقت عليهم كلمة العذاب.
ثم جدد كتاب الله التعريف برسالة القرآن، مؤكدا أنه جعل هذه الرسالة ميسرة للفهم والإدراك في متناول الناس أجمعين، وأن كتاب الله قد وضح معالمها، بما لا يدع مجالا للشك فيها، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (17: 54)، فلا غموض ولا إبهام في الرسالة، ولا تقصير ولا إهمال من جانب الرسول، واللوم كل اللوم يقع على عاتق المعاندين المبطلين، الذين يجادلون في الله بغير علم، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ، أي: يطبع الله على قلوب الجهلة المعاندين عندما تقسو وتصدأ، ولا يرجى منهم قبول للحق ولا انقياد إليه، وكيف لا وهم يسمون المحقين (مبطلين) متحدين الله
ورسوله والمؤمنين، {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} ، بينما هم في الواقع أعرق الناس في الباطل.
وأخيرا وجه كتاب الله الخطاب إلى الرسول الأعظم، وإلى كل مؤمن بصدق رسالته، آمرا رسوله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، بالصبر على أذى المخالفين، والثبات أمام استفزاز الجاحدين، مؤكدا له ولمن اهتدى بهديه أن وعد الله بالنصر المكين، والفتح المبين، وعد لا يتخلف، لأنه وعد حق، صادر عن الحق، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (6: 30)، وذلك قوله تعالى في ختام سورة الروم المكية:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .
ومن سورة الروم المكية ننتقل إلى سورة لقمان المكية أيضا سائلين من الله الإعانة والمدد، وهذه السورة هي سادس سورة وردت مبدوءة بالحروف الهجائية المقطعة، المتعارفة (بفواتح السور) في نسق واحد وسلسلة واحدة، ابتداء من فاتحة سورة الشعراء {طسم} فسورة النمل {طس} فسورة القصص {طسم} فسورة العنكبوت {الم} فسورة الروم {الم} فسورة لقمان التي نحن بصدد تفسيرها {الم} وقد بينا في عدة مناسبات ما ترمز إليه هذه الحروف، وكونها تأتي متبوعة بالحديث عن الذكر الحكيم، والتعريف به والانتصار له، إما تلويحا وإما تصريحا كما في هذه السورة:{الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} إشارة إلى أن الحروف العادية التي ينطق بها الناس تنقلب إلى وحي سماوي بالغ الحكمة والإعجاز، عندما ينفخ فيها
الحق سبحانه وتعالى من سر علمه وحكمته، وينزل بها على قلب رسوله (الروح الأمين)، ومثل ذلك يجري في العناصر الطبيعية التي هي ملقاة بين أيدي الناس، لكنهم لا يستطيعون أن يخلقوا منها كائنا حيا يضاهون به صنع الله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} .
وإنما سميت هذه السورة (سورة لقمان) لورود اسمه فيها مقرونا بجملة من الوصايا النافعة التي وعظ بها ابنه، حيث قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} الآية، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} الآية.
وكما قال تعالى فيما سبق من (سورة يونس) عقب الافتتاح بالحروف الهجائية: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} قال تعالى هنا في (سورة لقمان): {الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} وسبقهما في سورة آل عمران قوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} .
وإنما وصف الكتاب بكونه (حكيما) أي: ذا حكمة، لأن الحكمة هي إصابة الحق في الاعتقاد والقول والفعل، والسلوك الخاص والعام، للأفراد والجماعات، وما تضمنه كتاب الله في هذه المجالات صادر عن أحكم الحاكمين، العليم الحكيم، الذي لا يضل ولا ينسى، والذي يعلم السر والخفي:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6: 25)، ومن أجل ذلك كان عيارا على ما سواه، ومهيمنا على ما عداه، فما وافقه حق، وما خالفه باطل، سواء كان سابقا أو لاحقا.
ووصف الحق سبحانه وتعالى كتابه بكونه: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} و (المحسنون) هم الذين أحسنوا فهمه، وأحسنوا تطبيقه، وأحسنوا الدفاع عنه، وراقبوا منزل الكتاب، فلم يهجروا الكتاب، وبذلك يكون (هدى لهم) فلا تختلط عليهم السبل، ولا يعمهم الجهل والضلال، ويكون (رحمة لهم) فلا تصيبهم الشرور والآفات، ولا تحل بساحتهم الأزمات تلو الأزمات، وإنما يندرجون في عداد المحسنين، فينعموا بهداية الله ورحمته، إذا أدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وحق الله الأول: هو إقامة الصلاة على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا، والدوام عليها في أوقاتها دون انقطاع، وحق العباد الأول: هو إيتاء الزكاة للمعسرين، وحصولهم على ما يكفي حاجتهم من مال إخوانهم الموسرين، وهذان الحقان متلازمان لا يفترق أحدهما عن الآخر، ولا يغني أحدهما عن الآخر، ولذلك وصف كتاب الله المحسنين بقوله:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} .
ثم قال تعالى: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} على غرار قوله تعالى في فاتحة سورة البقرة: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ، إشارة إلى أن الإيمان لا يكون تاما وكاملا إلا إذا اندرج فيه الإيمان بعالم الشهادة وعالم الغيب، والإيمان بالنشأة الأولى والنشأة الآخرة، لأنهما متلازمان تلازم المقدمة والنتيجة. والإيمان بالآخرة يتضمن الإيمان بجزاء الله، لمن ابتغى بعمله وجه الله، أما الإيمان بالشهادة دون الإيمان بالغيب فلا فضل فيه لأحد، إذ يستوي فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر ثم نوه كتاب الله
بالمؤمنين المحسنين فقال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وبهذه الصيغة نفسها، نوه كتاب الله في بداية سورة البقرة، بالمؤمنين المتقين.
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن المترفين المتكبرين في الأرض، الذين يضلون الناس بغير علم، ووصف تفننهم في أساليب الترف والتمويه والتضليل، وسخاءهم ببذل المال في هذا السبيل، واستعمالهم لمختلف وجوه الإغراء والإغواء، حتى يعودوا الناس على حياة اللهو والعبث وعدم المبالاة، وخلع برقع الحياء، فينصرف الناس عن سماع الحق واستيعابه، ولا يطرقون بعد ذلك بابا من أبوابه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا} ، أي: يتخذ سبيل الله، {هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} ، أي: ثقلا وصمما، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وجزاء الكبر الإهانة، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (178: 3)، إذ الجزاء من جنس العمل، وعلى العكس من ذلك يكون جزاء الصالحين من المؤمنين، الذين يمارسون الصالحات، فينفعون وينتفعون، وذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} ، أي: لا خلف فيه ولا تراجع، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وأعاد كتاب الله في هذا المقام الحديث عن جملة من الظواهر الكونية في السماء والأرض، ليلفت إليها الأنظار، عسى
أن تهتدي بها البصائر والأبصار.
الظاهرة الأولى: قيام السماوات، وثباتها في أماكنها دون استناد إلى عمد.
والظاهرة الثانية: استقرار الأرض، وتوازنها بالجبال الرواسي من فوقها، حتى لا تضطرب بمن عليها من الإنسان والحيوان، وما عليها من معالم الحضارة والعمران.
والظاهرة الثالثة: عمارة الأرض بسلالات الإنسان، وغيره من أصناف الحيوان، على اختلاف الصور والأحجام والألوان.
والظاهرة الرابعة: إنزال المطر من السماء أي: إنزاله من جهتها وسمتها، وإنبات النبات في الأرض بعد موتها.
وذلك قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} ، أي: حتى لا تهتز ولا تضطرب، {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} .
ولا يسع الإنسان العادي أمام كل ظاهرة من هذه الظواهر الكونية، فضلا عن الباحث المتطلع إلى معرفة أسرار الكون، والمعني بالكشف عن نواميس الطبيعة، إلا أن يقف مبهورا أمامها، مأخوذا بعظمة مبدعها وصانعها، هاتفا من أعماق قلبه مع كتاب الله إذ يقول:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (11: 31).
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن لقمان الحكيم ووصاياه الخالدة التي وجهها إلى ابنه وهو يعظه، حتى يسلك مسلكه كل أب رشيد، وقد سجل كتاب الله من بينها خمس وصايا:
الوصية الأولى: أن يؤمن بوجود الله ووحدانيته وربوبيته، ولا يشرك به أحدا، {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
الوصية الثانية: أن يراقب الله في حركاته وسكناته، وخواطره ومتمنياته، لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} .
الوصية الثالثة: أن يقيم الصلاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوطن نفسه على تحمل الأذى في هذا السبيل، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
الوصية الرابعة: أن يتواضع لعباد الله، ويقبل عليهم بوجهه مستأنسا، وأن يبتعد عن مظاهر الكبر والخيلاء في حديثه معهم، ومشيته بينهم، {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} .
الوصية الخامسة: أن لا يجهر بأكثر من الحاجة ولا يرفع صوته على الناس، فضلا عن أن ينهرهم مهددا متوعدا، أو
ساخطا وغاضبا، {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
وبتسجيل هذه الوصايا الخمس من وصايا لقمان (الحكيم)، في آيات الذكر الحكيم، فتح كتاب الله الباب على مصراعيه في وجه (حكمة) الحكماء، وبين أن الحكمة تؤخذ من كل أحد إذا كانت حكمة صحيحة موافقة للدين والأخلاق، وليست مجرد مهاترة أو هراء كما هو الشأن في المتطفلين على الحكمة من الأدعياء.
وتخللت الحديث عن لقمان ووصاياه الخمس عدة آيات كريمة، في طليعتها آية تحدثت عن تلقين الله الحكمة للقمان، ودعوته إلى شكر الله على نعمه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، ثم آيتان في التذكير بحقوق الوالدين والبرور بهما فيما لا معصية فيه، وإبراز الأهمية الخاصة لدور الأم في حياة الأسرة، {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} الآية، ثم آية أخرى توجه فيها الخطاب الإلهي إلى كافة البشر، ممتنا عليهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وتسخير ما في الكون من الطاقات والثروات لمنفعتهم، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} .
وخُتِمَ هذا الربع ب آيتين كريمتين كشف فيهما كتاب الله الستار عن عناد الذين استولى عليهم التقليد الأعمى، فأخذوا
يجادلون في الحق دون حجة ولا برهان، وسندهم الوحيد هو التمسك بالهوى ومتابعة الشيطان، وذلك قوله تعالى في نهاية هذا الربع:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .