الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب السادس والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حديثنا في هذا اليوم يتناول الربع الثالث من الحزب السادس والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة (ص) المكية:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ، إلى قوله تعالى في سورة الزمر المكية أيضا:{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
ــ
لا يزال كتاب الله يواصل وصفه " المعجز " لما أعده الله في دار البقاء، من نعيم يسعد به " المتقون "، وعذاب يشقى به " الطاغون ". ومما يستلفت النظر هنا ما أبرزه الاستعمال القرآني في هذا السياق بالخصوص، من المقابلة بين {الْمُتَّقِينَ} والـ {طَاغِينَ} ، حيث قال تعالى:{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} ، ثم قال بعد ذلك {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} ، إذ من شأن " المتقي " أن يكون ملازما للاحتياط والحذر، واقفا عند حدود الله، بينما غير المتقي من شأنه أن يكون متجرئا على الله، منتهكا حرماته، لا يقف أي شيء دون انطلاق أهوائه وطغيان شهواته، فهو لا يعرف الحدود والقيود، ولا يحسب لها أدنى حساب، وبهذه المقابلة بين التقوى والطغيان، التي جاء بها
القرآن، نستطيع أن نفهم روح التقوى، ونميز ملامح المتقين.
ومن المناسب في هذا المقام عقد مقارنة ولو على وجه الإجمال بين الوصف الذي وصف به كتاب الله أهل الجنة من {الْمُتَّقِينَ} ، والوصف الذي وصف به أهل النار من الـ {طَاغِينَ} ، فالآيات القرآنية في ختام الربع الماضي وبداية هذا الربع لم تعرج مطلقا على أي حديث يمكن أن يعتبر حديثا نابيا بين أهل الجنة فيما بينهم، لأنهم جميعا يعيشون عيشة راضية، وقد ألفت بينهم وحدة العقيدة، ووحدة السلوك، ووحدة المصير، {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (47: 15)، بينما الآيات التي تسجل مشاعر الـ {طَاغِينَ} ، وهم في جهنم، وانطباعات بعضهم عن بعض، وردود الفعل للمحاورات والمجادلات التي يتبادلونها وهم يتلقون عذاب الله، كلها تصورهم وهم يتراشقون بالتهم والشتائم واللعنات، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (38: 7)، فعندما يفاجأ بعضهم بقدوم فريق جديد من الطاغين عليهم، ويقال:{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} ، يرد ذلك البعض على هذه المقالة شامتا متشفيا ويقول:{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} ، لكن الفريق الذي يسمع هذه التحية المنكرة، لا يلبث أن يرد على الشامتين تحيتهم، ملقيا عليهم مسؤولية التردي في هوة الشقاء والعذاب، {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} ، من المفارقات في هذا المشهد المفجع أنهم يتجهون إلى الله مهطعين خاشعين، داعين على من أضلهم وأغواهم، وأمسك بمقادتهم إلى النار: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ
قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ}.
ثم يشير كتاب الله إلى الخيبة التي يمنى بها " الطاغون " عندما يستقر بهم المطاف في جهنم، حيث لا يستدبرون مفاجأة إلا ليستقبلوا مفاجأة أدهى وأمر. نعم لقد كانوا في حياتهم يعتبرون {الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} ، عبارة عن منبوذين أشرار، لا يستحقون إلا السخرية والاستهزاء، وهاهم الآن يتساءلون عنهم في لهفة وحسرة: أين يوجد أولئك الرجال الذين كانوا يعدونهم أشرارا، هل هم يرافقونهم في جهنم لكن لا تقع عليهم أعينهم الزائغة؟ أم أنهم ليسوا في جهنم أصلا:{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} .
ويعقب كتاب الله على هذا الوصف الكاشف الذي يبرز حيرة الطاغين الخارجين عن طاعة الله، المكذبين لرسله، ويكشف الستار عما هم عليه من شقاق وخلاف وتضارب في الآراء، ولو في دار الشقاء، قائلا:{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} .
وتنتقل الآيات فيما بعد ذلك إلى قصة خلق آدم وسجود الملائكة له، امتثالا لأمر الله تعالى بتكريمه، وترشيحا لما أعدته له الأقدار من الخلافة في الأرض، وحمل أمانة التكليف التي عجزت عن حملها بقية المخلوقات، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (33: 72)، وتنتهي القصة بالإشارة إلى أخطر سابقة في عالم الكبر والغواية، وهي سابقة إبليس اللعين: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}، ثم حكى كتاب الله تحدي إبليس اللعين:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} .
وختمت سورة (ص) بآية كريمة هي آية إعجاز وتثبيت النبوة، والتنبؤ بما ستلده الأيام من أحداث واكتشافات تزيد المؤمنين إيمانا، وتبهر الشاكين والمكذبين، فلا يسعهم إلا أن يذعنوا لها إذعانا، وذلك قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} ، إشارة إلى أن ما جاء به القرآن، وعلمه للإنسان، ستثبت الأيام أنه حق لا ريب فيه، وصواب لا خطأ فيه، على مر الأزمان، وما من جيل إلا وسيكتشف من لطائفه وأسراره ما لم يصل إلى غيره، فكتاب الله " لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه "، كما جاء في الأثر عن علي كرم الله وجهه، وبمعنى هذه الآية سبق قوله تعالى في سورة الحج (54):{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} ، وسيأتي في سورة فصلت قوله تعالى (53):{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
والآن فلنشرع على بركة الله في تفسير سورة الزمر المكية أيضا، مستعينين بالله، وإنما سميت بهذا الاسم أخذا من آيتين في نفس السورة وردت فيها كلمة (الزمر)، جمع "زمرة" بمعنى
الفوج والجماعة، حيث قال تعالى (71):{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} ، وقال تعالى (73):{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} .
أول موضوع في هذه السورة يطرق الآذان هو موضوع نزول القرآن، حيث قال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ، وثاني موضوع فيها هو إبراز دعوة التوحيد، والإلحاح على التمسك بها والإخلاص فيها، حيث قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ،وثالث الموضوعات يتناول تسفيه أنواع الشرك والكفر التي يدين بها المشركون والكافرون، حيث قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، وقال تعالى:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، وهذا رد على المشركين الذين نسبوا إليه أنه " اتخذ من الملائكة إناثا " وعلى النصارى الذين نسبوا إليه أنه اتخذ من المسيح ولدا، {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، والموضوع الرابع تصدى فيه كتاب الله للرد على المعتقدات الباطلة بالبراهين القطعية، والدلائل الكونية، مما يضطر إلى التسليم به، ويتواطأ على قبوله: الحس والعقل والوجدان، وذلك قوله تعالى مذكرا بآياته الكونية في الآفاق:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} ، وقوله تعالى مذكرا بآياته الطبيعية في الأنفس:
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} ، ثم عقب كتاب الله على الآيات الباهرة التي أبرزها في الأنفس والآفاق، مستخلصا منها نتائجها المنطقية، فقال تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .
وبعد هذه الجولة القرآنية في عالم الملك والملكوت خاطب الحق سبحانه وتعالى عباده جميعا، مبينا لهم أنه سبحانه إنما يريد بهم ولهم خيرا، وأن من اهتدى منهم فلنفسه أحسن، ومن ضل فإنما يضل عليها، وأن كل فرد مسؤول عن نيته وعمله أمام الله، وذلك قوله تعالى في نهاية هذا الربع:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .