المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٥

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الروم

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة لقمان

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة السجدة

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة سبأ

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فاطر

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يس

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌لربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الصافات

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة ص

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزمر

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة غافر

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فصلت

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشورى

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزخرف

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الدخان

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجاثية

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

موعدنا في هذه الحصة مع الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة فاطر المكية:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} ، إلى قوله تعالى في سورة يس المكية أيضا:{قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}

ــ

في بداية هذا الربع خص كتاب الله بالذكر ظاهرة كونية كبرى تحار فيها العقول والأفهام، ألا وهي ظاهرة تماسك الكائنات وتجاذبها بعضها مع بعض في السماء والأرض، دون أن تكون مرتكزة على أي شيء، أو معلقة بأي شيء، وذلك بالنسبة لجميع الكواكب والشموس والأجرام، السابحة في أفلاكها في الفضاء، بنظام وانتظام، على مر الليالي والأيام، والقرون والأعوام، مما لا يحيط به علما وعدا، ولا يقوم به صيانة وحفظا، إلا خالقه بديع السماوات والأرض، وذلك ما ينطق به قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} ، قال الفراء: (أي ولو

ص: 243

زالتا ما أمسكهما من أحد) فبالقوة الماسكة التي أودعها الله في السماوات والأرض حماهما من التصدع والانهيار، وأنعم على الإنسان بنعمة الطمأنينة والاستقرار، وذلك بالرغم مما يقترفه من الذنوب والأوزار:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} .

وسبق في التنبيه إلى هذه الظاهرة الكبرى قوله تعالى في سورة الرعد (2): {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، وقوله تعالى في سورة لقمان (10):{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، قال القشيري:(أمسكهما بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتبهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإفنائهما يساهمه، ولا شريك في وجودهما ونظامهما يقاسمه)، وسبق في سورة الحج قوله تعالى (63):{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

وانتقل كتاب الله مرة أخرى إلى الحديث عن أعداء الرسالات ومواقفهم الملتوية، وتقلباتهم المزرية، ومن بينهم أئمة الكفر وقادة الجاهلية، حيث أنهم اعتادوا أن يقسموا الأيمان الغليظة على استعدادهم لقبول الرسالة إذا جاءتهم، ويعلنوا رغبتهم في أن يكونوا أهدى من بقية الأمم التي سبقتهم، حتى إذا جاءهم الرسول المنتظر نفروا، واستكبروا ومكروا، ولم ينفع فيهم أي إنذار، وأصروا على الكفر أيما إصرار، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} ، ثم قال تعالى تأكيدا

ص: 244

لغلبة الحق على الباطل، وتذكيرا بعذاب الله الذي حل بأئمة الكفر الأوائل:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} ، أي: سنة الله التي أجراها في الأولين.

وأعاد كتاب الله تقرير حقيقة كونية اجتماعية ثابتة، ألا وهي أن لله في خلقه سننا منتظمة ومحكمة، ترتبط فيها الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، ارتباطا وثيقا، وذلك قوله تعالى هنا:{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، على غرار قوله تعالى في سورة الأحزاب (62):{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، وقوله تعالى هنا:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} ، على غرار قوله تعالى في سورة الإسراء (77):{وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} .

و (التبديل) المرفوض هنا بالنسبة لأئمة الكفر هو تبديل العذاب بغيره، فالعذاب قائم بهم، وثابت لهم، و (التحويل) المرفوض بالنسبة لهم هو تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم، فالعذاب واقع على من استحقه، لا يتجاوزه إلى غيره أبدا، ونبه القرطبي إلى أن كلمة (سنة) في هذا السياق تضاف أحيانا إلى الله، وأحيانا إلى غيره، لتعلق الأمر بالجانبين، مثلها في ذلك مثل كلمة (الأجل)، تضاف إلى الله كما في قوله تعالى (5: 29) {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} ، وتضاف إلى غيره كما في قوله تعالى (34: 7): {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} .

ونبه كتاب الله إلى أن الجاحدين والمعاندين الذين أصروا على عتوهم واستكبارهم وتمردهم على الله لو فتحوا أعينهم،

ص: 245

والتفتوا إلى ما حولهم، وساروا في الأرض سير الناظر المتفحص، لأخذوا العبرة من مصارع الشعوب والحضارات التي سبقتهم، بالرغم مما كانت عليه من توسع في العمران، وقوة متنوعة الأشكال والألوان، فالبقاء والفناء، والقوة والضعف، سنن لا تتخلف قديما وحديثا، وذلك ما يقرره قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، على غرار قوله تعالى فيما سبق من سورة الروم (9):{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} ، ونفس المعنى سبق في سورة التوبة عند قوله تعالى (69):{كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} ، كما نص عليه كتاب الله أيضا في سورة غافر مرتين، وذلك قوله تعالى في الآية الواحد والعشرين:{كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} ، وفي الآية الثانية والثمانين:{كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} ، وذلك حتى لا يغتر الأقوياء بقوتهم، مادامت لا تساندها قوة الله، إذ قوة الله القاهرة، لا يعجزها أي شيء من قوة البشر الظاهرة، كيفما كانت وتنوعت، وطغت وتجبرت.

وللتخفيف من غلواء البشر المتبجحين بقوتهم، ومواجهة تحديهم، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، {عَلِيمًا} ، بمبلغ قوتهم المحدودة، {قَدِيرًا} ، على أخذهم وتأديبهم في

ص: 246

ثوان معدودة، وصدق الله العظيم إذ قال في كتابه في سورة فصلت (15):{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، وفي سورة البقرة (165):{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ، قال الرازي: (لو أن قائلا قال: هب أن الأولين كانوا أشد قوة وأطول أعمارا، لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم، ونستعين بأمور أرضية لها خواص، أو كواكب سماوية لها آثار، لقال تعالى أي جوابا على هذا الإشكال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} .

ثم أبرز كتاب الله مبلغ حلم الحق سبحانه وتعالى ورحمته الواسعة بالخلق، حيث يمهل العصاة من عباده، فلا يستعجلهم بالمؤاخذة والعقاب، ويتخولهم من حين لآخر بالموعظة الحسنة واللوم والعتاب، عسى أن يعودوا إلى جادة الصواب، وذلك قوله تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ، فيؤخر كل فرد إلى حلول أجله، وكل أمة إلى حلول ساعتها، والجنس البشري كله إلى حلول الساعة الكبرى، والضمير في:{عَلَى ظَهْرِهَا} ، يعود على الأرض التي فيها مستقر الناس ومعاشهم، وقد سبق ذكر (الأرض)، عطفا على السماوات قبل هذه الآية، والمراد (بالدابة) هنا كل ما دب فوق الأرض ودرج، بما في ذلك الإنسان والحيوان:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} ، بصيرا بأحوالهم، بصيرا بأعمالهم، بصيرا بما يستحقه كل فرد من ثواب

ص: 247

أو عقاب، قال القشيري في (لطائف الإشارات) تعليقا على هذه الآية الكريمة (لو عجل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تف أعمارهم القليلة به، ولم تتسع أيامهم القصيرة له، فأخر ذلك ليوم الحشر، فإنه طويل، والله على كل شيء قدير، وبأمور عباده خبير بصير).

والآن وقد انتهينا بفضل الله وتوفيقه من تفسير سورة فاطر المكية نشرع بحول الله وقوته في تفسير سورة (يس) المكية أيضا، وقد افتتح كتاب الله هذه السورة بحرفين اثنين من حروف الهجاء المقطعة، هما الياء والسين، على غرار ما بدأ به (طه) و (طس) فيما سبق، وعلى غرار (حم) الذي تكون منه مجموعة سور (الحواميم) الآتية.

وقد سبق من هذا النوع المبدوء بحروف الهجاء المقطعة مجموعة أولى مكونة من سورتين متتابعتين لا غير، هما سورة البقرة (ألم)، وسورة آل عمران (ألم) أيضا، ومجموعة ثانية مكونة من ست سور متتالية: أولها سورة يونس (ألر)، وآخرها سورة (الحجر) أيضا (ألر)، ومجموعة ثالثة تشتمل على سورتين متتابعتين لا غير، هما سورة مريم (كهيعص)، سورة (طه): ثم مجموعة رابعة تشتمل على سبع سور يتلو بعضها بعضا، أولها سورة الشعراء (طسم)، وآخرها سورة السجدة (ألم).

ويلاحظ أن سورة (يس) التي نحن بصدد تفسيرها جاءت على انفراد، إذ لم يأت ما يماثلها من هذا النوع، لا قبلها

ص: 248

ولا بعدها، فقد سبقتها سورة (فاطر)، ولحقتها سورة (الصافات)، وبدايتهما معا بحروف التهجي العادية، ونفس الشيء وقع مثله في سورة الأعراف (ألمص)، التي لم يسبقها ولم يلحقها مباشرة ما يماثلها من نفس النوع، حيث سبقتها سورة (الأنعام)، ولحقتها سورة (الأنفال) وبدايتها معا بالحروف العادية أيضا، ولا بد من التنبيه هنا إلى أنه لا علاقة بين حرف الياء وحرف السين الواردين في فاتحة هذه السورة (يس) وبين قوله تعالى في سورة (الصافات) بعدها في ختام قصة "إلياس عليه السلام:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} ، الذي جاء على غرار قوله تعالى قبل ذلك:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} ، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ، {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} ، وقد رواها بعض القراء، {سَلَامٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ} ، بدلا من (آل ياسين)، وإلياسين وإلياس وياسين شيء واحد حسبما نص عليه ابن جنى والنحاس ونقله القرطبي. وإذن ففاتحة هذه السورة يجري عليها ما جرى على فواتح السور الأخرى التي تماثلها في التكوين من حروف الهجاء المقطعة، مما سبق وما سبأتي.

أما قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فهو قسم من الله تعالى يؤكد به للشاكين والكافرين أن محمدا رسول من عند الله حق، وأن دين الإسلام هو دين الحق. وإبرازا لعظمة القرآن الكريم، وتنبيها إلى أنه هو المعجزة الكبرى الباقية والدائمة، الدالة على صدق الرسول وصدق الرسالة في جميع العصور، اختار الحق سبحانه وتعالى أن

ص: 249

يقسم في هذا المقام بالقرآن نفسه، حتى يقتنع كل من في قلبه شك أو ريب بأن أحكم كتاب عرفته الإنسانية - منذ ميلادها إلى فنائها- هو كتاب الله "أحكم الحاكمين"، وكيف لا يكون القرآن "حكيما" وهو:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (11: 1)، وكيف لا يكون القرآن "حكيما"، وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (41: 42).

ومن وجوه حكمته أن مبانيه محكمة لا يلحقها عيب ولا خلل، ولا ينشأ من الإقبال عل تلاوتها وتدبرها أدنى سأم أو ملل.

ومن وجوه حكمته أن معانيه محكمة لا يلحقها تناقض ولا بطلان، ولا تفنى عجائها ولا تبلى جدتها بمرور الزمان.

ومن وجوه حكمته التي أقرتها التجارب المستمرة، الكرة بعد الكرة، أن من اتخذه دليله في حياته من الأفراد والجماعات نال السعادتين، وفاز في الدارين، فهو دليل حي ناطق بالحكمة الإلهية، يهدي من تتبعه وتبعه في كل حين إلى الصراط المستقيم، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (16: 6). وسبق في آيات أخرى وصف القرآن بكونه "حكيما"، مثل قوله تعالى في سورة آل عمران (58):{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} ، وقوله تعالى في سورة يونس (1) وسورة لقمان (2) معا، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .

وقوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} ، إشارة إلى رحمة الله بعباده، وأنهم كلما

ص: 250

طال عليهم الأمد وقست قلوبهم، ونسوا ما ذكروا به، بعث الله إليهم رسولا من عنده مؤيدا بكتابه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويوقظهم من سنة الغفلة ونشوة الغرور، عسى أن ينالوا حظهم من السعادة، وينالوا الحسنى وزيادة، وكما قال تعالى هنا:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} ، قال تعالى في سورة السجدة (3):{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ، وقال تعالى في سورة سبأ (44):{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} .

وكلمة {الْعَزِيزِ} الملاصقة لكلمة {الرَّحِيمِ} في قوله تعالى {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، ترمز إلى معنى الإنذار، لمن رفضوا الهدى وأصروا على الضلال، حيث يعاملهم الحق سبحانه وتعالى بمقتضى وصف "عزته" كما ترمز كلمة {الرَّحِيمِ} إلى معنى البشرى، للذين اهتدوا وآمنوا، حيث يعاملهم الحق سبحانه وتعالى بمقتضى وصف "رحمته".

وانتقل كتاب الله إلى وصف حالة المصممين على الكفر، المصرين على الضلال، السابحين في بحار الخيال والوبال، فضرب بحالتهم أشنع وأفجع الأمثال، لأنهم أقاموا بينهم وبين الحق والحقيقة أعظم سور، حتى لا ينفذ إليهم أي شعاع من النور، فقال تعالى:{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ، مما يدل على أن قلوبهم مقفلة،

ص: 251

وعقولهم معطلة، و"المقمح" هو الرافع رأسه الذي لا يستطيع الإطراق، لأنه قيد نفسه بقيود تحول بينه وبين الحركة والانعتاق، ومعنى "أغشيناهم".جعلنا على أبصارهم غشاوة، وأذن فلا سبيل إلى إقناعهم والأخذ بيدهم، {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

وبين كتاب الله أن الدعوة إلى الحق إنما تعمل عملها، وتحدث أثرها ومفعولها، فيمن فتح بصره وبصيرته للنظر والاعتبار، وكان عنده استعداد خاص للبحث عن الحق والحقيقة، وتقبل الهداية وتلقي الأنوار، وذلك ما يشير إليه قوله تعالي:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} ، أي: راقب الله في سره وإن كان لا يراقبه أحد. ثم قال تعالى مبشرا من وفق في هذه الخطوة، فنال من ربه الرضى والحظوة:{فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} ، و"الأجر الكريم" هنا هو الأجر الكبير الوافر.

وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} ، رد على منكري البعث في القديم والحديث، وقد كان البعث ولا يزال موضوع شك وجدل، عند من أصيبت عقولهم بالكلال والخلل، فتصدى كتاب الله لتقريره بشتى الوجوم حتى يستقر في الأذهان، لأنه عقيدة جوهرية في الدين لها أكبر الأثر في سلوى الإنسان.

وقول تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ، تعريف بمضمون العدل الإلهي المطلق نحو كل إنسان كيفما كان، فالله تعالى لا يضيع عمل

ص: 252

عامل من ذكر أو أنثى ولا ينساه، بل ما من عمل عمله الإنسان - خيرا كان أو شرا - إلا وسجله له أو عليه وأحصاه، لا فرق في ذلك بين عمل الإنسان المباشر وهو على قيد الحياة، وبين الآثار المترتبة على عمله باستمرار بعد الوفاة، سواء كان ذلك الأثر من قبيل الحسنات كعلم نافع علمه، أو رباط للجهاد أسسه، أو كان ذلك الأثر من قبيل السيآت، مثل حان هيأه لتتاول الخمور، أو ناد زخرفه للقمار، أو ماخور أعده للفسق والفجور، فكلما تجددت منفعة الأثر الحسن كتب لصاحبه من الحسنات بقدرها، وكلما تضاعفت مضرة الأثر السيء كتب لصاحبه من السيآت بقدرها، بناء على الأصل الإسلامي الثابت في السنة النبوية الشريفة "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامه". "وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده" والمراد (بالإمام) في قوله تعالى هنا:{فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ، الكتاب المقتدى به، الذي هو حجة للإحصاء ويزيد معنى هذه الآية توضيحا قوله تعالى في سورة الكهف (49):{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .

وليثبت الحق سبحانه وتعالى فؤاد خاتم رسله حتى يتحمل أذى قومه، ويقابل أعراضهم بالصبر والتجمل، وليتأكد عبد الله

ص: 253

ورسوله من أن المكذبين من قومه ليسوا بدعا من الأقوام، بل لهم سلف طالح في العناد والتكذيب، وجه إليه كتاب الله الخطاب، داعيا إياه إلى التدبر في قصة "أصحاب القرية" الذين جاءتهم رسل من عند الله فكذبوهم، ورفضوا دعوتهم، وقابلوهم بالسوء من القول، وهددوهم بالرجم والتعذيب، وذلك قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا} ، أي: قال أصحاب القرية المكذبون، {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا} ، أي: قال رسل الله ردا على أصحاب القرية: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا} ، أي: قال أصحاب القرية المعاندون، {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

ومعنى قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} ، أي: شددنا أزرهما، وقوينا رسالتهما برسول ثالث، وهذه هي القصة الوحيدة التي يتحدث فيها كتاب الله عن تكليف ثلاثة من الرسل في آن واحد، ومكان واحد، بتبليغ رسالة واحدة، وذلك بالإضافة إلى ما هو متعارف عند الجميع، من اشتراك موسى وهارون في تبليغ رسالة واحدة، مما تناولته عدة آيات في عدة سور، من بينها قوله تعالى في سورة "المؤمنون" (45):{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} .

ومعنى قول أصحاب القرية في خطابهم للرسل الثلاثة:

ص: 254

{إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} ، أي: تشاءمنا منم وبكم، تعبيرا عن كراهيتهم للرسل، ونفورهم من الرسالة، مثلهم في ذلك مثل قوم فرعون، الذين وصفهم كتاب الله بنفس الشيء، حيث قال تعالى في شأنهم:(131: 7): {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ، ومثل قوم صالح، الذين واجهوا نبيهم وأخاهم صالحا بالسوء، فقالوا:{اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} (47: 27)، لكن الرسل الكرام الذين أرسلهم الله إلى أصحاب القرية ردوا عليهم ردا مفحما:{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي أن الشؤم الذي تحسون به إنما هو نتيجة لفساد عقيدتكم، وأثر من آثار كفركم.

ومعنى قوله تعالى: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} ، أي: أمن أجل أننا ذكرناكم بالله، ودعوناكم إلى توحيده وعبادته، تطيرتم بنا، وتشاءمتم برسالتنا، وهددتمونا بالرجم والتعذيب، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} من (الإسراف) بمعنى مجاوزة الحد، أي: أنتم قوم مغرقون في الضلال والعصيان، ممعنون في الغي والعدوان.

ولعل سائلا يدفعه حب الاستطلاع إلى أن يتساءل ما هي القرية التي جرت فيها هذه القصة؟ والجواب أن بعض قدماء المفسرين، قد اهتموا بهذا الأمر الجانبي، وبناء على ما تلقفوه من بعض الأخبار صرحوا بأن هذه القرية هي (إنطاكية)، لكن ابن كثير، المفسر والمحدث والمؤرخ، تصدى في تفسيره لإبطال هذا الرأي من عدة وجوه، مستندا إلى حجج تاريخية وواقعية مقنعة، وبذلك بقي اسم هذه القرية مبهما، على ما هو عليه في كتاب الله دون تعيين.

ص: 255

وواضح أن هذه القرية ليست هي القرية الأولى والوحيدة التي وقف أصحابها في وجه الرسل ورسالاتهم، فهذا النوع من المواقف تجدد كما تجددت الرسالات عبر العصور والأجيال، والعبرة في القصة بالمواقف التي سجلتها، لا بالمكان الذي وقعت فيه، إذ ليست للمكان في هذا المقام أدنى خصوصية مميزة.

وانتقل كتاب الله إلى حكاية الشق الثاني من قصة أصحاب القرية، وهو ما يتعلق بمواطن آمن بالله وبرسله، فانطلق يدعو قومه إلى إتباع الرسل واعتناق دينهم، ويعلن أمام الملأ سفاهة ما عليه قومه من الشرك والضلال، فلم يلبثوا أن ضاقوا به وبدعوته ذرعا، وقضوا عليه وعليها قضاء مبرما، لكن الحق سبحانه وتعالى أكرمه بدخول الجنة جزاء إيمانه وصدعه بالحق، وما كان يحل بدار النعيم حتى أخذ يتمنى على الله أن يعرف قومه المنزلة الرفيعة التي أنزله فيها، عسى أن يؤمنوا بمثل ما آمن به، ويفوزوا بمثل ما فاز به من النعيم المقيم، وذلك حرصا منه على نجاتهم وسعادتهم، وقد حقق الله أمنيته عندما سجل قصته في كتابه العزيز من بدايتها إلى نهايتها، ليعرفها السلف والخلف، ويلاحظ في الشق الثاني من هذه القصة ذكر لفظ (المدينة)، بدلا من لفظ (القرية) الوارد في الشق الأول، وليس في هذا الاستعمال أي إشكال، لأن لفظ (القرية) في لسان العرب يستعمل في غير ما موضع مرادفا للفظ (المدينة)، وإلى قصة هذا المؤمن السعيد يشير قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ

ص: 256

وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.

ص: 257