الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول تفسير الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، إلى قوله تعالى:{إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .
ــ
في بداية هذا الربع وجه كتاب الله الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، وعن طريقه إلى كافة المؤمنين، يثبت فؤادهم على الدين الحنيف، ويدعوهم إلى التفاني في التمسك به والثبات عليه، دون التفات لما سواه، ويذكرهم بأن الإسلام هو (دين الفطرة) القيم، الذي لا تناقض في عقيدته، ولا اعوجاج في شريعته، فهو الملائم للفطرة المنسجم معها منذ البداية، وهو الموافق للنظر الصحيح، والمطابق للعقل السليم في النهاية، وكيف لا وهو الدين الوحيد الذي يعلن وحدة النوع الإنساني على اختلاف ألسنته وألوانه وأقوامه، ويعلن وحدة الكون على اختلاف أجزائه وتنوع أجرامه، ويعلن وحدة المكون المدبر للكون
والمهيمن على قيامه ووحدة نظامه، وذلك قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ، قال جار الله الزمخشري موضحا لمعنى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ}:(من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه مقبلا عليه) وقال أبو حيان في توضيح معنى (الفطرة): (رجح الحذاق أن الفطرة هي القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله، والاستدلال بها على وجوده، فيؤمن به ويتبع شرائعه، لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك، كتهويد أبويه له وتنصيرهما، وإغواء شياطين الإنس والجن)، ونقل القرطبي عن شيخه أبي العباس قوله في تحليل معنى الفطرة:(إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق).
وقوله تعالى هنا: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} إما أن يكون خبرا بمعنى الطلب، وإما أن يكون خبرا على بابه، فعلى الوجه الأول يكون معناه النهي عن إفساد الفطرة وتغييرها بالتربية الفاسدة، والقدوة السيئة، والاعتقاد الباطل، والإبقاء على الفطرة كما خلقها الله، مع توجيهها في نفس الاتجاه، وعلى الوجه الثاني يكون معناه الإخبار بأنه لا تبديل للقابلية التي توجد في الطفل من قبل الخالق، فقد ساوى بين الناس في الفطرة السليمة وجعلهم فيها سواسية.
ثم أمر الحق سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالإنابة إليه وتقواه، وإقامة الصلاة والاعتصام بحبل الله، وحذرهم مما كان عليه غيرهم من الفرقة والاختلاف، حتى يظلوا في أخوة وائتلاف، وذلك قوله تعالى:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
وانتقل كتاب الله إلى وصف بعض الحالات النفسية التي يكون عليها ضعفاء النفوس وضعفاء الإيمان، عندما تنزل بهم نائبة من النوائب فيضطرهم الخوف والجزع، إلى أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء، حتى إذا تخلصوا من أزماتهم أشركوا بالله غيره، ومن الشرك أن يتخذ الواحد منهم إلهه هواه، وذلك قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} ، و (الضر) هنا الشدة، و (الرحمة) الخلاص منها {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} ، أي ليمعنوا في تجاهل نعمتنا والكفر بإحساننا، {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: هذا إشعار لهم بأن العذاب ينتظرهم، {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} ، أي: كتابا فيه حجة لهم وبرهان، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} .
وكذلك الأمر إذا نالوا حسنة انبسطت لها أسارير وجوههم غبطة وسرورا، وإذا نزلت بهم سيئة أصابهم اليأس والقنوط، واعتبروا ما نزل بساحتهم لعنة وثبورا، وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}.
ثم عقب كتاب الله على ذلك بما يفيد أن سعة الرزق لا تتعلق بإرادة الإنسان وحده، بل تتدخل فيها عدة عوامل، ومردها في النهاية كما في البداية إلى الله، ولذلك وجد بين الناس موسر ومعسر، ووجد في البلدان بلد يزخر بالثروات الطبيعية، وبلد يكاد يكون قاعا صفصفا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
لكن كتاب الله بادر في الحين بالتوجه إلى كل من وسع الله رزقه، فعرفه بأن عليه في ماله حقوقا للغير، وطالبه بأداء تلك الحقوق لأصحابها كفاية لحاجتهم، وذكر على سبيل المثال ذوي القربى، والمساكين، وعابري السبيل، ممن تنقطع بهم الأسباب وهم في سفر، ولا يجدون ما ينفقون، وذلك قوله تعالى في نفس السياق:{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقدم (ذا القربى)، لأن بره فيه صدقة وصلة للرحم.
وقوله تعالى هنا: {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ، إشارة إلى أن الاعتبار بالنية والقصد، لا بمجرد الفعل وحده، ومعنى {وَجْهَ اللَّهِ} أن يكون العطاء خالصا لله، وسعيا في رضاه، نظير قوله تعالى في آية أخرى (20: 92): {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} .
ثم انتقل كتاب الله إلى الموازنة بين الربا والزكاة، وما يحل بساحة المرابين من نقص مادي ونفسي، وما يناله المزكون من نماء مادي وروحي، فقال تعالى مخاطبا للفريق الأول:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} وقال تعالى مخاطبا للفريق الثاني: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} .
وهكذا أنذر الله المرابين الذين يمارسون الربا لتنمو أموالهم على حساب الآخرين، بأن أموالهم لا بد أن تؤول إلى نقصان، وإن كانت في الظاهر تنمو وتزداد باستمرار، والأعمال والأمور بخواتيمها، أما النقصان النفسي الذي يصيبهم فقد تضمنه قول الله تعالى فيما سبق من سورة البقرة (275):{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وعلى العكس من ذلك بشر الله الذين لا يستغلون الخلق، بل يتبادلون النفع معهم، ويزكون أموالهم ابتغاء مرضاته، بنماء أرزاقهم، ومضاعفة ثوابهم، وهذا معنى قوله تعالى هنا:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى (245: 2): {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ، وفي آية ثالثة:(276: 2): {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ، أي ينميها ويضاعفها.
ولتذكير الأشحاء والبخلاء من الأغنياء، المقصرين في أداء حقوق المعوزين والفقراء، بأنهم مدينون لله سبحانه بنعمة الإيجاد
ونعمة الإمداد، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ، فالخلق كله من صنع الله، والرزق كله من عند الله، والحياة والموت بيد الله، وما على الإنسان إذا كان عاقلا إلا أن يتذكر هذه الحقائق البديهية، ويستخلص نتائجها الحتمية، ثم قال تعالى ردا على المشركين:{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وتصدى كتاب الله بعد ذلك للكشف عن حقيقة اجتماعية وأخلاقية بعيدة الأثر، ألا وهي أن الإنسان وحده هو العنصر الأساسي في كل فساد يقع في الأرض، وكل انحراف يصيب المجتمع، وأنه هو المسؤول مباشرة عن نتائج فساده وإفساده ماديا وروحيا، فما عليه إلا أن يتحمل نتائج عمله انحلالا واختلالا، خرابا وزوالا، ولو وقف الإنسان في سلوكه عند حد الصلاح والإصلاح، اللذين من أجلهما توجه الله بالخلافة عنه في عمارة الأرض، لما وقع في الأرض فساد، ولسعدت البلاد والعباد، وذلك ما ينطق به قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} .
ومن مظاهر الفساد في الأرض الإباحية التي تتحدى كل القيم والأخلاق، واحتكار الثروات والأرزاق، والتنكر لدين الحق، وتجاهل الخالق واحتقار الخلق، ومن آثار الفساد زوال الطمأنينة، وانتشار الخوف، وفقدان الثقة بين الأفراد والدول، والتلوث
الساري في مختلف الأجواء والأرجاء، والنقص من الأموال، والأنفس والثمرات. وإلى ما يتعرض له الإنسان من الابتلاء والامتحان، يشير قوله تعالى هنا:{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} .
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، إشارة إلى أن الله تعالى لا يريد الانتقام من عباده، عندما يسلط عليهم آثار أعمالهم، وإنما هي بمنزلة السوط يؤدبهم به، عسى أن يغيروا ما بأنفسهم، ويعودوا إلى صراط الله الحميد، فيبسط لهم من جديد بساط نعمته، ويخلع عليهم رداء رحمته، وبنفس هذا المعنى جاء قوله تعالى في آية أخرى (168: 7): {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وقوله تعالى هنا: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} دليل على أن الذين عاقبهم الله على الفساد والإفساد لم يكونوا كلهم مشركين، بل بعضهم مشرك، وبعضهم ليس بمشرك، ولكنه من عصاة المؤمنين المصرين على المعصية، وإذن فما دون الشرك من المعاصي يؤدي إلى نفس النتيجة، ويكون سببا فيما ينزل بالخلق من الشدائد والأزمات، والنوائب والملمات.
ووجه كتاب الله الخطاب إلى كل إنسان عاقل يريد تحقيق إنسانيته، مع السلامة في الدنيا من الآفات، والنجاة في الآخرة من الأهوال والشدائد، داعيا إلى الإقبال على دين الله الذي هو الدين القيم، والتعلق به، وعدم الالتفات إلى غيره، فقال تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} ، أي: يتفرقون: فريق في الجنة وفريق في السعير، {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، من (المهد والمهاد) بمعنى الفراش، أي: يوطئون لأنفسهم في القبر مضجعا مريحا، وفي الجنة مقرا فسيحا، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
ثم لفت كتاب الله أنظار البشر جميعا إلى ما من عليهم به من تحريك الرياح وتصريفها، طبقا لنواميس كونية محكمة، تسهل عليهم الوصول إلى تحصيل منافعهم، وتحقيق مصالحهم في البر والبحر، فقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} ، أي: مبشرات بالمطر، لأنها تسبقه وتتقدمه، {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، وهي رحمة الغيث والخصب، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} ، أي: عند هبوب الرياح وغيرها من الوسائل الملائمة للملاحة في البحر {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ، والمراد (بالفضل) هنا الحصول على الرزق من طريق الكسب والتجارة ونحوها، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي تتوجهون بالشكر لله على نعمه الظاهرة والباطنة.
وانتقل كتاب الله إلى مخاطبة خاتم أنبيائه ورسله، مذكرا إياه بالمآل الذي يصير إليه المجرمون المكذبون برسالات الله، ومعرفا له بمصير رسله والمؤمنين، وأنه نصر مؤزر من عند الله، وفتح مبين، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى
قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
وعاد كتاب الله مرة أخرى إلى الكشف عن أسرار الرياح التي ينفرد بتحريكها وإرسالها من له الخلق والأمر، والدور الذي تقوم به في إثارة السحب وإنزال الأمطار، وإغاثة للعباد ورفقا بهم، وذلك قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} ، والإشارة هنا إلى السحاب عندما يكون متصلا يملأ أرجاء الأفق:{وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} ، أي: قطعا، والإشارة هنا إلى السحاب عندما يكون متقطعا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} ، أي: المطر، {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، أي: من خلال السحاب، {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، فرحا منهم بنزول الغيث، لحاجتهم إليه، وتوقفهم عليه، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، أي: كانوا قبل نزول المطر في ذهول وحيرة، قانطين من نزوله، لطول عهدهم بالجدب، مكتئبين خوفا من القحط والمجاعة التي تهدد حياتهم، ولهذا كان استبشارهم على قدر إبلاسهم واغتمامهم.
وكون الرياح هي التي تثير السحاب وتلقحه ببخار الماء لكي يمطر، حقيقة علمية كبرى كشف الستار عنها عالم الغيب الذي يعلم السر في السماوات والأرض، منذ أنزل كتابه العزيز قبل أربعة عشر قرنا، عندما قال هنا:{يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} ، وقال في آية أخرى سبقت في سورة الحجر:(22):
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} ، ولم يهتد العلم الحديث لإدراك هذه الحقيقة، ودراسة دورات الرياح العامة والخاصة إلا في العهد الأخير. ثم قال تعالى مذكرا ومعقبا:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ووصف كتاب الله حال الزراع الذين تتعرض مزارعهم أحيانا لريح تجعل زرعهم يابسا مصفرا، وبدلا من الرضى بالقضاء والقدر يظهرون السخط والامتعاض، ناسين ما أنعم الله عليهم به من قبل، وذلك قوله تعالى:{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} ، أي: رأوا زرعهم مصفرا، {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} .
وختم هذا الربع بخطاب إلهي رقيق، موجه إلى الرسول الأعظم حتى لا يضيق صدره ولا يحزن، بعدما بلغ الرسالة وأدى الأمانة:{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (10: 108)، ولا مسؤولية على الرسول بعد ذلك، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (99: 5)، وذلك قوله تعالى مبرئا لرسوله من كل تقصير أو إهمال:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .