الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موعدنا في هذه الحصة مع الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة سبأ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} ، إلى قوله تعالى:{قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
ــ
في بداية هذا الربع بين كتاب الله لمن لا يزالون في شك من أمر النبوة أن الرسول الأعظم ليس بدعا من الرسل، وأن الرسالات الإلهية التي جاءوا بها كما تعنى بالشؤون الروحية للنوع الإنساني تعنى بشؤونه المادية المباشرة، بل تأخذ بيده فتسدد خطواته الأولى في نفس المجال التقني والصناعي، و (الآخرة) التي دعا الرسل والأنبياء إلى الإيمان بها إنما هي المرحلة الأخيرة في مسيرة جهاد الإنسان المتواصل، من أجل صلاح الإنسان، وازدهار العمران، حيث يجني الإنسان ثمرة عمله، ويصل إلى تحقيق رجائه وأمله، إن وفى بما عاهد عليه الله في خلافته، ولم يتنكر لدينه وشريعته، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. (7: 18).
يقول الله تعالى هنا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} ، وهذا الفضل الذي آتاه الله إياه يظهر بشكل بارز في عدة مظاهر روحية ومادية:
المظهر الأول: تسبيح الجبال معه عندما يتلو (الزبور) الذي أنزله الله عليه، وإصغاء الطير أثناء تلاوته إليه، فالجبال تردد صدى صوته القوي العظيم، فيشترك في تمجيد الله في آن واحد الجماد والحيوان والإنسان، وتبرز من خلال تمجيد الله وتوحيده وحدة الأكوان، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44: 17)، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى وهو ينادي الجبال لتسبح الله مع نبيه داوود:{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} ، وسيأتي في سورة (ص) قوله تعالى في شأن داوود عليه السلام (18):{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو يقرأ في الليل، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال:(لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود)، فأجابه أبو موسى قائلا:(لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا) والثوب (المحبر) هو المخطط بالألوان، أي: لجعلته لك أنواعا حسانا. قال القاضي أبو بكر (ابن العربي) تعليقا على نفس الحديث في سياق كلامه على هذه الآية: (فيه دليل على الإعجاب بحسن الصوت، والقلوب تخشع بالصوت الحسن كما تخضع للوجه الحسن، وما تتأثر به القلوب في التقوى أعظم في الأجر، والأصوات الحسنة
نعمة من الله تعالى، وزيادة في الخلق ومنة، وأحق ما لبس هذه الحلة النفسية والموهبة الكريمة كتاب الله، فنعم الله إذا صرفت في الطاعة قضي بها حق النعمة).
المظهر الثاني: من مظاهر الفضل الذي آتاه الله داوود: تمكينه من استعمال معدن الحديد فيما تتوقف عليه سلامة الدولة، وإطلاعه على سر صناعته، وتطويعه في يده، حتى عاد كالطين المبلول والعجين والشمع. وللحديد أهمية خاصة في حياة الشعوب والدول نبه إليها كتاب الله فيما سيأتي من سورة الحديد، إذ قال تعالى (25):{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} .
المظهر الثالث: من مظاهر فضل الله على داوود: تعريفه بالطريقة التقنية المثلى لصنع الدروع، حتى تحمي المحاربين من سهام الأعداء، متى اضطروا لحمل السلاح، وتنبيهه إلى أن الدرع الذي يحمي لابسه يلزم أن يكون على قدر جسمه وقامته، لكي يستره سترا تاما، وإرشاده إلى أن كل حلقة من حلقات الدرع يلزم تقديرها بقدر الحاجة، بحيث تجمع بين الخفة التي لا تضعف من مناعة الدرع، وبين الحصانة التي لا تثقل الجسم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في نفس السياق:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} ، ويقال لصانع الدروع (سراد وزراد) بإبدال السين زايا، يزيد هذا المعنى توكيدا وإيضاحا قوله تعالى فيما سبق من سورة الأنبياء في شأن داوود عليه السلام (80): {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ
الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}.
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عما امتن به على سليمان بن داوود من فضل أشمل وأعظم، هذا الفضل يتجلى في عدة مظاهر:
المظهر الأول: تسخير الريح له في زمان محدود ومكان محدود، وجعلها أداة سريعة في يده ويد أعوانه، للقيام بأسرع ما يمكن من التنقلات والمواصلات، بحيث يكون من المستطاع قطع مسافة شهر في الغدو ومسافة شهر في الرواح، أي قطع مسافة شهرين في يوم واحد، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ، على غرار قوله تعالى فيما سبق في سورة الأنبياء (81):{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} ، وقوله تعالى فيما سيأتي من سورة (ص: 36): {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} .
والمظهر الثاني: تمكينه من استعمال معدن النحاس، وتعريفه بالطريقة التقنية المثلى لتذويبه وإسالته، وإرشاده إلى استعماله في صنع ما يلزم من آلات وأدوات، للنفع الخاص والنفع العام، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي: معدن النحاس، وقوله تعالى في نفس السياق:
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ، و (المحاريب) جمع (محراب)، وهذا اللفظ يطلق على كل بناء مرتفع ممتنع، وعلى أشرف بيوت الدار، كما يطلق على المكان الذي يصلي فيه الإمام، لأنه يجب أن يرفع ويعظم، وهو أرفع مكان في المسجد، و (التماثيل) جمع (تمثال)، وهو اسم للشيء المصنوع باليد، الممثل بغيره أي المشبه به من إنسان أو حيوان أو غيرهما، (والجفان) جمع (جفنة) وهي القصعة الكبيرة، وشبهت في هذه الآية (بالجوابي) جمع (جابية)، لاتساعها وكبرها، ومعنى (الجابية) الحوض العظيم الذي يجمع فيه الماء، (والقدور الراسيات) هي القدور الثوابت التي لا تحمل ولا تحرك لعظمها، ومنها يغرف الطعام في الجفان. قال ابن العربي:(ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعا، ويأكلون جميعا، من غير استئثار أحد منهم على أحد).
وتعليقا على كلمة (تماثيل) الواردة في هذه الآية وما تفيده من إباحة التصوير على عهد سليمان قال (ابن العربي) ما نصه: (ورد على ألسنة أهل الكتاب أنه كان أمرا مأذونا فيه، والذي أوجب النهي عنه في شرعنا - والله أعلم- ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب).
ومن لطائف التفسير ما نبه إليه الرازي أثناء تفسيره لهذه الآيات من أن (كتاب الله ذكر ثلاثة أشياء في حق داوود، وثلاثة
أشياء في حق سليمان عليهما السلام، فتسخير الجبال لداوود هو من جنس تسخير الريح لسليمان، وتسخير الطير للأول هو من جنس تسخير الجن للثاني، إذ الشأن في الطير النفور من الإنس، والشأن في الإنس النفور من الجن، ومع ذلك صار الطير لا ينفر من داوود، بل يستأنس به ويطلبه، وأصبح سليمان لا ينفر من الجن، بل يسخره ويستخدمه، وأما القطر، أي: النحاس والحديد فتجانسهما غير خفي) وذكر كتاب الله في حق داوود اشتغاله بآلة الحرب، بينما ذكر في حق سليمان اشتغاله بمهام السلم؛ لأن ملكه كان موطدا من عهد أبيه.
ثم أننا نجد كتاب الله يدرج في سياق التنويه بفضل الله على نبيه سليمان عليه السلام آيات يدور الحديث فيها حول نوع (الجن) الذي يقابل نوع (الأنس)، والمراد بهم نوع خفي من الكائنات يعمر الكون علاوة على الإنسان، وهو خاضع مثله للتكليف في الدنيا والجزاء في الآخرة، حسبما تدل عليه عدة آيات في سورة الأنعام وسورة الأعراف وسورة فصلت وسورة الذاريات وسورة الرحمن وسورة الجن، غير أن كتاب الله لم يفصل القول في هذا النوع الخفي من الأحياء، واقتصرت على بيان، أن الله خلقه من نار، وترك تفاصيل أمره مستورة ومحجوبة عن الأنظار، {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (27: 15)، {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} (15: 55).
ونظرا إلى أن بعض الأغرار من البشر تكونت عندهم فكرة غامضة وسخيفة عن الجن من نسج الخيال، وأخذوا يعبدونهم،
ظنا منهم أنهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب، واستمر اعتقادهم الباطل، يتناقله جيل عن جيل، إلى حين ظهور الإسلام، فقد تصدى كتاب الله في سياق الحديث عن سليمان لإبطال هذا الاعتقاد الفاسد، مبينا أن الجن ليسوا إلا عبارة عن كائنات خفية، خاضعة لأمر الله، ومسؤولة عما كلفت به أمام الله، فليس للجن في الكون أمر ولا نهي، ولا سطوة ولا تأثير، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى واصفا تسخير سليمان لهم أثناء حياته:{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} ، على غرار قوله تعالى فيما سبق من سورة الأنبياء (82):{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} ، وقوله فيما سيأتي من سورة (ص: 38 - 37)، {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} .
وللدلالة على أن علم الجن علم قاصر ومحدود، وأنهم لا يعلمون من الغيب شيئا، على خلاف ما يعتقده الأغرار البسطاء، أورد كتاب الله شاهدا على ذلك موت سليمان، مبينا أن الجن الذين كانوا يعلمون بين يديه لم يشعروا بموته، واستمروا على أداء الخدمات الشاقة التي عاقبهم بها، ظنا منهم أنه لا يزال حيا يملك ويحكم، ولولا أن (العصا) التي كان يتوكأ عليها أكلتها الأرضة وانكسرت، فسقط جثمانه على الأرض، لما أدرك الجن أنه مات، ولما توقفوا عما كان قد كلفهم به من الخدمات، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في نفس السياق: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ
الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}، والمراد (بدابة الأرض) هنا الأرضة التي تأكل الخشب، والمراد (بالمنساة) العصا.
وتنويها بداوود وآله قال تعالى في نفس المقام: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، إشارة إلى أن الله تعالى يرعى عمل الصالحين من عباده بعين رعايته، ما داموا لا يفترون في عملهم عن خشية الله ومراقبته. وقال تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} ، إشارة إلى أن شكر الله على نعمه متى كان محور الحركات والسكنات، والدافع الأول إلى ما يقوم به العبد من صالح الأعمال وجميل الحسنات، أثمر لصاحبه في الدنيا والآخرة أطيب الثمرات. قال الزمخشري:(فيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدى على طريق الشكر)، وقال أبو بكر (ابن العربي)(حقيقة الشكر) استعمال النعمة في الطاعة، والكفر استعمالها في المعصية).
وقد نوه كتاب الله بشكر سليمان في غير ما آية، كقوله تعالى في سورة النمل (19):{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} ، وقوله تعالى في نفس السورة حكاية عن سليمان وقد رأى عرش ملكة سبأ بين يديه (40):{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .
وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، إشارة إلى أن أكثر من يتقلبون في نعم الله الظاهرة والباطنة لا يؤدون حق شكرها، بل هم في غفلة ساهون، حتى إذا ذهبت النعمة، وحلت النقمة، أفاقوا من غفلتهم، وندموا على سكرتهم، ولات حين مندم، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7: 14) و (الشكور)، هو المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، الذي يشغل به قلبه ولسانه وجوارحه، اعتقادا واعترافا وكدحا، حسبما عرفه جار الله الزمخشري، ومن شاء أن يكون من عباد الله الصالحين فليكن من هذا الفوج القليل.
ومن قصة آل داوود التي يتجلى فيها فضل الله ومقابلة فضله بالشكر، انتقل كتاب الله إلى قصة، (سبأ) التي يتجلى فيها فضل الله، لكن مع مقابلته بالجحود والكفر:
أما فضل الله على سبأ فينطق به قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} ، وقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} .
وأما جحود سبأ وكفرهم بنعمة الله، وما نشأ عنه من تبدل الأحوال، والتعرض للدمار والزوال، فينطق به قوله تعالى:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ، وقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} ، أي: أن ما أكرم الله به قوم سبأ من خصوبة الأرض وجودة التربة، ونقاوة الهواء، واختلاف الزروع والأشجار، وتنوع الثمار، وامتداد الظلال وجريان الأنهار، يعد آية من آيات الله، الناطقة بقدرته وحكمته ورحمته، الباعثة على عبادته وشكره وطاعته:{جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} ، أي: أن مساكنهم تحف بها من جهة اليمين- كما تحف بها من جهة الشمال- بساتين خضراء، ومزارع فيحاء، على مد البصر، حتى كأن ما على اليمين من البساتين والمزارع يكون جنة واحدة، وما على الشمال منها يكون جنة واحدة أيضا، لاتصال تلك البساتين والمزارع بعضها بعض، وتداخل بعضها مع بعض، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} ، أي أن كل ما حولهم كان لسان حاله يوحي إليهم بالإقبال على مائدة الله، والتمتع بالطيبات من الرزق، والشكر لله على نعمه المتواصلة، فقد أتم الله عليهم نعمته من جميع الوجوه، ولا يسعهم إلا أن ينهضوا بشكرها فرحين مبتهجين.
يقول الله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} ، هذا تعقيب مستأنف، أوجز فيه كتاب الله وصف أرض سبأ ووصف أهلها، فالأرض أرض طيبة، وطيبها يصدق بكونها أرضا خصبة لا سبخة، وكون مناخها مناخا صحيا طيب الهواء، لا وخامة فيه ولا وباء،
ولا هوام كالعقرب والحية والحرباء، والناس في هذه الأرض يعبدون الله ويشكرونه، ويذكرون فضله ويستغفرونه، فيغفر لهم ما فرط منهم من السيآت، ويتقبل منهم ما قدموا من الحسنات:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (114: 11).
يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} ، أي: أن الله تعالى أكرم قوم سبأ بعمران مزدهر متصل الحلقات، ترتبط فيه المدن الكبرى بسلسلة من القرى الصغيرة العامرة، المبثوثة في أطراف البادية، وهذه القرى قريب بعضها من بعض، ويتراءى بعضها لبعض، والسير فيما بينها يمكن ليلا ونهارا، بما تتوفر عليه من استقرار وأمان، ناشئين عن ازدهار واتصال العمران، وقد دلت الكشوف الأثرية الحديثة على أن الحضارة العربية في عهد دولة سبأ بلغت غاية النمو والازدهار، لا فرق في ذلك بين الناحية الإدارية، والناحية العمرانية، والناحية الثقافية، والناحية الصناعية، والناحية التجارية، والناحية الزراعية.
ومما يتصل بموضوع الآيات الواردة هنا عن سبأ اتصالا وثيقا، ويلقي الأضواء عليها: أن دولة سبأ بلغ أهلها في العلم بالهندسة وتنظيم الري وحسن الاستفادة من مياه الأمطار درجة عالية، فأنشأوا من السدود والقنوات ما كان مثارا للدهشة والإعجاب في أطراف العالم إذ ذاك، إذ إن تلك السدود العربية تعتبر أقدم السدود التي عرفها التاريخ، مما كان له أثر كبير فيما وصفه كتاب الله بأنه (آية) من آيات الله، إذ قال تعالى هنا: {لَقَدْ
كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ}، وقال:{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} .
لكن لما أعرض قوم سبأ عن عبادة الله وطاعته، وانصرفوا عن شكره على نعمته، بطرا وطغيانا، وجحودا وكفرانا، بدلهم الله من حال إلى حال، وسلط عليهم الكوارث والأهوال، فتهدم (سد مأرب) الذي كان يعد من أعاجيب العالم القديم، إذ كان أوسع السدود وأشهرها، (وهو يبعد عن مدينة صنعاء بنحو ستين ميلا، ولا تزال بقاياه ماثلة للعيان إلى الآن) وطغى ماء السد وماء السيل على ما كان عندهم من بساتين ومزارع وأبنية، فذهب العمران والازدهار، وحل محله الخراب والدمار، وذلك معنى قوله تعالى:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} ، و (العرم) السيل الذي لا يطاق.
يقول تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} ، ها هنا يبين كتاب الله ما حل بمزارعهم ومعايشهم من ضياع وإهمال، حيث تحولت البساتين والمزارع إلى غابات وأدغال، والمراد " بالخمط " كل شجر ذي شوك فيه مرارة، (والأثل) نوع من الخشب شبيه بالطرفاء لا ثمرة له في الغالب، و (السدر) شجر النبق، وبعدما أصبح السدر أحسن أشجارهم لم يبق منه إلا القليل. وإنما قال تعالى:{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} ، لأجل (المشاكلة) بين النوعين، على غرار قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، إذ مثل هذا النبات الوحشي لا يسمى في
الحقيقة (جنة) ولا بستانا. ثم عقب كتاب الله على ذلك بقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} .
وبعدما تحولت مزارع قوم سبأ وبساتينهم الفيحاء إلى غابات وأدغال، وأصبحت قراهم المزدهرة وعمرانها المتصل في خبر كان، ولم يبق منها إلا الخراب والأطلال، تذكروا الله والتجأوا إليه، لكن كان أمر الله قدرا مقدورا، فاستبدلهم بعيشتهم الراضية، (معيشة ضنكا) كلها متاعب مضنية، تحتاج إلى ركوب أخطار عديدة، والتقلب في أسفار طويلة وبعيدة، لا يكفي فيها زاد ولا راحلة، ولا تنجو من مخاوفها ومفاجأتها أي قافلة، وبذلك جعلهم عبرة للمعتبرين يتحدثون بهم، ويتمثلون بمصيرهم المفجع قائلين، (تفرقوا أيادي سبأ) وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: عقابا على بطرهم وعدم شكرهم: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وبين كتاب الله أن إبليس لا سلطان له على الخلق، وإنما يغزى ويغوي من اختار الغواية والضلال، وذلك قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} ، أي: لنكشف للناس عما سبق في علمنا من أمر المؤمن والكافر، {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} .
ثم خاطب كتاب الله المشركين متحديا لهم، وطالبا منهم أن
يدعوا شركاءهم: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} ، مبينا لهم أن الله تعالى غني عن الشركاء والأعوان:{وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} .
وخُتم هذا الربع بالإشارة إلى أن سبق الإذن من الحق سبحانه وتعالى للشفعاء والمشفوع فيهم أمر ضروري قبل كل شفاعة، وأن الشافعين والمشفوع لهم يكونون أثناء انتظارهم لإذنه سبحانه في حالة جزع وفزع لا يدرون هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، فإذا صدر الإذن بالشفاعة من الرحمن الرحيم، ذي العرش العظيم، تبادلوا البشرى، وذلك قوله تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، أي: زال الفزع وارتفع، بالإذن لهم في الشفاعة، سأل بعضهم بعضا، {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، فليس لملك ولا نبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .