الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في هذه الحصة نتناول تفسير الربع الثالث، من الحزب الثالث والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة الأحزاب المدنية:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} ، إلى قوله تعالى في سورة سبأ المكية:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} .
ــ
عند بداية هذا الربع وجه كتاب الله إنذارا صريحا إلى العناصر المندسة بين المؤمنين في مدينة الرسول وعاصمة الإسلام الأولى، محذرا تلك العناصر من عواقب نشاطها الهدام، البارز فيما تقوم به من دس جلي أو خفي، وتمسك بالانحراف الخلقي الذي اعتادته في الجاهلية، وبث للبلبلة في صفوف المجتمع الإسلامي الناشئ، عن طريق ترويج الإشاعات الكاذبة، والدعايات الانهزامية المتكررة، كلما قام الرسول والمؤمنون بالدفاع عن كيان الإسلام، الذي لا يزال مهددا من طرف أحزاب الشرك والكفر في الداخل والخارج، وقد أقسم كتاب الله على
هذا الإنذار الإلهي الخطير، وهو يخاطب رسوله الأعظم إذ قال:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ} . و (الارجاف) هو إشاعة الكذب والباطل بقصد التماس الفتنة وتهييج الخواطر، وتثبيط الهمم، وشل العزائم، والمراد بقوله تعالى:{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} ، أي: لنسلطنك عليهم، فتنزل بهم ما هم أهل له من العقاب، و (اللعنة) هي الطرد من رحمة الله، قال جار الله الزمخشري (والمعنى- لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يلفقون من أخبار السوء- لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها) وإنما عطف (بثم)(ثم لا يجاورونك فيها) لأن وقع الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما يصابون به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه.
ومن تسليط الله لنبيه عليهم وإغرائه له بهم، علاوة على النفي والتشريد، تهديدهم إن لم ينتهوا عن موقفهم المريب، ويكفوا عن نشاطهم الهدام، بوضع اليد عليهم حيثما وجدوا متلبسين بالجريمة، وتعريض أنفسهم للاعتقال والقتل أينما ذهبوا، جزاء تعريضهم (سلامة الدولة الإسلامية) الناشئة للخطر، وذلك قوله تعالى في نفس السياق:{أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} ، ثم قال تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، تأكيدا لناموس الحياة الذي عرفته البشرية من
أقدم العصور، في الدفاع عن سلامتها ضد الأخطار المحدقة بها، وقيامها بعزل العناصر الهدامة، وتقليم أظفارها، كلما أصبح نشاطها يشكل خطرا محققا عليها. قال أبو حيان:(والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين، وتستر جميعهم وكفوا، خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه، وهو الإغراء والجلاء، والأخذ والقتل).
غير أنهم لم يمتثلوا للانتهاء امتثالا عاما وشاملا، ولم تزل تبدو منهم نزوات، وتفلت منهم فلتات، فيتعرضون من أجلها لمعاملة استثنائية، دون أن ينفذ عليهم الوعيد الذي هم متوعدون به كاملا، ومن وجوه تلك المعاملة الاستثنائية إخراجهم من المسجد النبوي في بعض الأحيان، وعدم إقامة صلاة الجنازة على موتاهم، مصداقا لقوله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ، وما أنزل من الآيات للكشف عن مواقفهم في عدة وقائع ومواقع، ولا سيما ما نزل في حقهم في سورة التوبة.
ويلاحظ أن رسول الله تفادى عقابهم بالقتل، وإن كان هذا العقاب مسموحا به مبدئيا، بمقتضى قوله تعالى هنا:{أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} ، لأنهم كانوا مندسين في غمار أصحابه وعامتهم، ولو حكم بقتل أحدهم لاختلط الأمر فيه على الناس، ولتحدث المرجفون أن محمدا يقتل أصحابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يترفع عن ذلك.
ونظرا لما عليه خصوم الرسالات الإلهية من الكبر والغرور،
والمماحكة فيما لا يوافق هواهم من الأمور، يلحون في السؤال عن قيام الساعة: إما سؤال استبعاد يتضمن التكذيب والإنكار، وإما سؤال استعجال وتحد يراد منه الامتحان والاختبار، لكن الله تعالى الذي عنده وحده علم الساعة يلقن رسوله الجواب الوحيد عن مثل هذا السؤال، تفاديا من كل مماحكة وجدال، وذلك قوله تعالى:{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} إذ لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا، {وَمَا يُدْرِيكَ} ، أي: ما يعلمك، {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} ، أي: تأتي في وقت قريب، على غرار قوله تعالى في آية ثانية (1: 54): {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، وقوله تعالى في آية ثالثة (1: 21): {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ، وفي إجابة السائلين عن الساعة بقرب موعدها - ولو دون تحديد - نوع من الوعيد والتهديد، وثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار إلى السبابة والوسطي من يده الكريمة، تلميحا إلى أن الرسالة التي جاء بها من عند الله لا يفصل بينها وبين قيام الساعة أي حاجز حصين، وأنها مستمرة دون انقطاع إلى يوم الدين.
وبعدما أكد كتاب الله قيام الساعة وقرب موعدها تولى وصف أحوال المكذبين بها عندما يفاجأون بما لم يكونوا ينتظرونه من الحساب والعقاب، فقال تعالى في شأن أئمة الكفر وقادة الضلال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}، وقال تعالى في شأن أتباعهم المضللين وأنصارهم المخدوعين:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} ، فيتبرأ المرؤوسون من رؤسائهم، والأتباع من سادتهم وكبرائهم، ويصبون عليهم وابل اللعنات، لما أوقعوهم فيه من المتاعب والحسرات، وكما سجل كتاب الله في هذه الآية تبرؤ الأتباع من المتبوعين، سجل كتاب الله في آية أخرى تبرؤ المتبوعين من أتباعهم، فقال تعالى (166: 2): {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} .
وتوكيدا للنهي عن الأذى بسائر أشكاله وأصنافه، مما تحدثت عنه عدة آيات سابقة في هذه السورة، جاء كتاب الله في هذا الربع بنهي عام شامل عن جميع أنواع الأذى، ولا سيما أذى الرسول الأعظم، وأذى الرسول يصدق بانتحال كل ما يخالف عقيدته وشريعته، والنطق بما يناسب مقامه وشخصيته، ونبه كتاب الله إلى أن وجود فئة شريرة وسيئة النية تؤذي الأنبياء والرسل ليس أمرا طارئا ولا غريبا، فقد تعرض موسى الكليم عليه السلام لأذى بني إسرائيل في عدة مناسبات، كما تعرض الرسول الأعظم أحيانا لأذى قومه وأذى مخالفيه ولم يضره ذلك:{وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، لكن الأذى الواقع في حقه يجر صاحبه إلى الهلاك، وإلى هذا النهي العام يشير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} ، ومن هذا الباب حديث الرجل الذي قال في غيبة
الرسول عليه الصلاة والسلام، تعليقا على قسم قسمه:(إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله)، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بلغه الخبر، فقال:(رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) والحديث مروي في صحيح البخاري وصحيح مسلم.
وإذا كان الله تعالى لا يرضى لعباده المؤمنين أن يتورطوا في أي نوع من أنواع الأذى، فإن أفضل ما يتقربون به إليه هو النطق بالكلام الطيب، والإقبال على العمل الصالح، وذلك ما وصى به كتاب الله عندما قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، فقد دعا المؤمنين إلى التمسك بتقوى الله، حذرا من مكايد الشيطان، ودعاهم إلى السداد في القول، بالتزام الحق والصدق وعفة اللسان، ضمانا لحسن المعاملة والبعد عن الشنآن، وتوثيقا لعرى التفاهم بين الإنسان وأخيه الإنسان:(والقول السديد) الوارد في هذه الآية الكريمة مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، يقال سدد السهم نحو الرمية إذا لم يعدل عن سمتها، وفي ذلك تنبيه إلى أن المؤمن لا ينبغي له أن يتكلم بالعبث، ولا أن يلقي الكلام جزافا دون روية ولا تفكير، بل من واجبه أن يتحرى في القول، وأن لا يقول إلا حقا وصدق، ولم يقتصر كتاب الله على الأمر بالتقوى وسداد القول، بل بين في نفس السياق حكمة هذا الأمر الإلهي الحكيم، وما يؤدي إليه امتثاله في الدنيا والآخرة من الفوز العظيم، فمن نتائجه المباشرة توفيق المؤمن وتوجيهه إلى ممارسة العمل الصالح بصورة مستمرة، بحيث تصبح أعماله كلها موجهة
نحو الصلاح والإصلاح، لا بالنسبة لنفسه ولا بالنسبة لغيره، ويصبح شعاره الدائم في الحياة هو شعار شعيب عليه السلام (88: 11)، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وذلك معنى قوله تعالى هنا:{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، ومن نتائجه المنتظرة إكرام المؤمن بمحو السيئات وغفران الذنوب، والإنعام عليه بعيشة راضية لا يمسه فيها نصب ولا لغوب، وذلك قوله تعالى هنا:{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
ثم عقب كتاب الله على ذلك كله قائلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} ، وإنما كان الفوز العظيم في الدنيا والآخرة مرهونا بطاعة الله ورسوله، والخسران المبين معقودا بناصية العصاة الخوارج عن تلك الطاعة، لأن طاعة الله ورسوله تعني التطبيق الدقيق للنواميس الخلقية التي وضعها الله لضبط سلوك الإنسان، حماية له من المزالق والعثرات، وتحصينا له من عواقب النكسات والأزمات، فيخرج سليما منها، منتصرا عليها، ويعيش في وئام وانسجام مع توجيهات خالقه ورازقه، ومدبر أمره، الذي (طبع الطبيعة) و (شرع الشريعة).
وبعدما أبرز كتاب الله الأثر العميق الذي تحدثه طاعة الله ورسوله في حياة الإنسان المؤمن، وهو الفوز العظيم بسعادة الدنيا والآخرة، انتقل كتاب الله مباشرة إلى الحديث عن (الأمانة العظمى) التي انفرد بحملها الإنسان دون بقية الأكوان، أليس الإنسان هو الذي توجه الله في الملأ الأعلى بتاج الخلافة في الأرض؟ أليس
الإنسان هو الذي سخر الله له ما في السماوات والأرض وخلق له ما في الأرض جميعا؟ أليس الإنسان هو الذي كرمه الله فخلقه في أحسن تقويم، وحمله في البر والبحر، وفضله على كثير ممن خلقه تفضيلا؟ لذلك كله أصبح الإنسان يشعر من أعماق قلبه بأنه هو المخلوق الوحيد المؤهل لحمل تبعة الأمانة ومسؤولية التكليف، وأدرك تمام الإدراك أنه لا يكون منطقيا مع نفسه إلا إذا تقدم ورشح نفسه أمام ربه لهذه المهمة السامية وهذا العبء الجسيم، إيمانا منه بأن الحقوق والمزايا التي منحه الله إياها - تفضلا منه وكرما- لا يعقل أن يتمتع بها ويمارسها، دون أن يقوم بواجبات تقابلها، ويتحمل تبعات تستتبعها وتنشأ عنها.
وتمثيلا لعظمة قدر (الأمانة) التي رشح الإنسان نفسه لحملها، وتصويرا لخطورة مسؤوليتها وتبعاتها ضرب كتاب الله المثل بالسماوات والأرض، وخص منها الجبال بالذكر، لكونها أوتاد الأرض الصلبة، ورواسيها الثابتة، التي لها علاقة وثيقة باستقرارها وتوازنها، مبينا أن السماوات والأرض التي التزمت منذ نشأتها بطاعة الله طاعة مطلقة، قائمة على مجرد (التسخير)، لا تريد أن تزج بنفسها في أمر التسيير والتدبير، ومن أجل ذلك أشفقت كل الإشفاق من عرض الأمانة عليها، واستعفت من حملها وتحمل مسؤوليتها، بالرغم مما تتوافر عليه من خصائص الطبيعية الكبرى التي لا نسبة بينها وبين خصائص الإنسان، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (57: 40)، وإلى ذلك المثل يشير قوله تعالى هنا: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}.
وكما ضرب كتاب الله المثل في هذا السياق، بما عليه السماوات والأرض والجبال من إباء وإشفاق، سيضرب المثل في (سورة الحشر) بخشوع الجبل وتصدعه، من شدة التأثر بكتاب الله، والخشية من الله، إذ يقول (21: 59): {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وتشمل (الأمانة) التي حملها الإنسان كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي، وشأن دين ودنيا، ويدخل في ذلك الحفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والنسل، وبالإجمال تشمل الأمانة قيام الإنسان بالواجبات كلها، أصولها وفروعها، على أن يتقبل العقاب إذا تخلى عنها، وينتظر الثواب إذا وفى بها، وكلما كان الشيء المؤتمن عليه مخفيا لا يطلع عليه إلا الله كان أحق بالحفظ وأولى بالرعاية.
وبعد ما نوه كتاب الله بشجاعة الإنسان وترشيح نفسه لحمل الأمانة، وقبوله لعرضها، والتزامه للقيام بحقها، أشار إلى ما يتعرض حياته من ضعف واختلال، يؤديان به إلى الانحراف والانحلال، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (28: 4)، فيظلم نفسه ويظلم غيره، ويتصرف في شؤونه تصرف الجاهل الذي لا يميز الضار من النافع، ولا يفرق بين الصالح والطالح، ذلك قوله تعالى تعقيبا على ما سبق:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ، أما
(ظلمه) البالغ لنفسه وغيره، فلأن الأمانة هي صمام الأمان بالنسبة للفرد والجماعة، ومن خان الأمانة أفلت من يده الزمام، ولم يرع أي ذمام، وتعرض لتقلبات الدهر وعوادي الأيام. وأما " جهله " الفاضح، فلأن أبسط شيء من العلم والتجربة يقود الإنسان إلى الاقتناع بأن الأمانة هي محور الثقة التي يمكن أن يتمتع بها، وأساس السمعة الحسنة التي يحرص عليها، ومفتاح السعادة التي يطمح إليها، ومن خان الأمانة عاش في هم ونكد، وظل منبوذا من أهله وقومه طول الأمد، لكن من حسن حظ الإنسانية ما هي عليه من ازدواج وامتزاج، يعدل مزاجها، ويصلح حالها، فالظالم لا بد أن يجد من يحد من ظلمه، وهو أخوه الإنسان، الذي حمل أمانة العدل، والجاهل لا بد أن يجد من يحد من جهله، وهو أخوه الإنسان، الذي حمل أمانة العلم، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (251: 2)، وبذلك يضيق الخناق على من خان الأمانة من الجهلة والظالمين، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (58: 8).
ومن نتائج حمل الأمانة والوفاء بها، أو حملها وخيانتها، انقسم الناس إلى قسمين، فمن ضيعها بالمرة كان أهلا للعقاب والعذاب، ومن وفى بها كليا، التزاما بعهده ووعده، نال أجزل الثواب، ومن وفى بها جزئيا، فخلط عملا صالحا وآخر سيئا، لم يخب رجاؤه في مغفرة الله إذا تاب وأناب، وذلك ما ينطق به كتاب الله إذ يقول في ختام سورة الأحزاب المدنية:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} ، والمنافقون هم
الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله، ويبطنون الكفر متابعة لأهله، والمشركون هم الذين تواطأ باطنهم وظاهرهم على الشرك بالله ومخالفة رسله، {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
وبعدما من الله علينا بتفسير سورة الأحزاب المدنية ننتقل إلى سورة سبأ المكية، وإنما سميت (سورة سبأ) لقول الله تعالى فيها:{لقد كان لسبأ في مساكنهم آية} ، وتتضمن فاتحة هذه السورة حمد الله في الأولى والآخرة، وتمجيد حكمته وقدرته، والتعريف بعلمه الذي أحاط بكل شيء من مخلوقاته، وذلك قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} ، وقوله تعالى:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ثم جدد كتاب الله الحديث عن قيام الساعة وموقف المكذبين بها، عن جهل، أو عناد، فقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ، ثم قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} .
ووصف مآل الذين استجابوا لله ورسوله فقال في حقهم:
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، وبين السر في وقوفهم هذا الموقف، وهو ما هم عليه من علم وإيمان، فقال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، كما وصف مآل المعاندين الذين يتحدون الله ورسوله فقال في حقهم:{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} ،ثم عقب على ذلك بقوله:{بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} .
وخُتم هذا الربع بدعوة الجاحدين والمعاندين إلى النظر في خلق السماوات والأرض، والتدبر في آيات الله البارزة فيهما، واستخلاص النتائج الحتمية من التدبر العميق في عظمة خلقهما، مع تهديدهم إن لم يتراجعوا عن جحودهم وعنادهم بعذاب مفاجئ، يسلط عليهم من تحت أرجلهم أو من فوق رؤوسهم، وذلك قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} .