الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موعدنا في هذه الحصة مع الربع الثاني من الحزب الثالث، والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ، إلى قوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
ــ
تحدث كتاب الله في هذه الآية الأولى من هذا الربع عن إحدى الحالات التي تتعرض لها الحياة الزوجية، وهي حالة من أمضى عقد النكاح، لكن قبل الدخول بمن عقد عليها دعاه داع ملح إلى فراقها، ففي هذه الحالة لا تجب عليها عدة، وتستطيع استيناف الزواج بمجرد الفراق، بينما يجب على مطلقها أن يؤدي لها في الحين نصف الصداق المسمى في العقد، وإذا لم يكن الصداق (مسمى) لأن النكاح (نكاح تفويض)، ووقع الطلاق قبل التراضي على الصداق كان لها الحق في (المتعة) وحدها، وهي ما يقدمه الزوج للزوجة عند طلاقها، لمساعدتها ماديا على تخطي
مرحلة الطلاق، في انتظار المرحلة القادمة من الزواج، وهذه المتعة شبه التعويض بلغة العصر، وليفارقها على وجه جميل، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .
ويلاحظ في هذه الآية وصف الزوجات المعقود عليهن بوصف {الْمُؤْمِنَاتِ} ، فقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، إرشادا من الله لعباده إلى أن أفضل زواج ينبغي أن يختاره المؤمن لنفسه هو الزواج بمؤمنة مثله تدين بدينه، وتشعر بشعوره، وتكون لها نفس النظرة إلى الحياة التي يحياها، ونفس الاحترام للمقدسات التي يقدسها، والقيم التي يحافظ عليها، فينشأ أولاده في بيئة مؤمنة يسودها الانسجام والوئام، نفسيا وروحيا واجتماعيا، أما الزواج (بالكتابيات) فلم يندب إليه الإسلام أصالة، وإنما أباحه بصفة استثنائية، لتحقيق بعض الأغراض الشرعية، بحيث متى أصبح ذلك الزواج عاجزا عن تحقيقها كان البعد عنه أوجب وأولى، لما له من عواقب سيئة محققة، على الأسرة المسلمة والمجتمع الإسلامي.
كما يلاحظ في هذه الآية إطلاق (النكاح) على العقد وحده، قال ابن كثير (وليس في القرآن آية أصرح في ذلك من هذه الآية).
ويشهد لما ذكرناه من وجوب أداء نصف الصداق (المسمى) إلى الزوجة المطلقة قبل الدخول قوله تعالى فيما سبق من سورة
البقرة (237): {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} .
أما (المتعة) بالنسبة لمن كان نكاحها نكاح (تفويض) لأنه لم يسم صداقها قبل الطلاق، فيراعى في قدرها حال الزوج المفارق، مصداقا لقوله تعالى في نفس السورة (36: 2): {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} .
وأما الزوجة التي تم العقد عليها ثم مات عنها زوجها قبل الدخول، فلا بد لها من أن تعتد منه أربعة أشهر وعشرا، وهي في ذلك سواء مع الزوجة التي مات عنها زوجها بعد الدخول، مصداقا لقوله تعالى فيما سبق من سورة البقرة (234){وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
والحكمة في ذلك بالنسبة لمن مات عنها زوجها قبل الدخول إشعار الزوجة المتوفي عنها زوجها بأن اختياره لها، وتعلق قلبه بها، وحرصه على تكوين أسرة معها، ومفاجأته بالموت قبل تحقيق أمنيته، كل ذلك يستحق من جانبها تقدير فقده واحترام ذكراه، وعدم التسرع في الزواج بغيره في الحين، فالزواج تحيط به اعتبارات إنسانية وأخلاقية متعددة، وليس عقدا ماديا صرفا.
وخصص كتاب الله الآية الثانية من هذا الربع للحديث عما
أحل الله لرسوله من الزواج، فقال تعالى مخاطبا نبيه:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ، وأطلق لفظ (الأجور) هنا على نفس (المهور) تجوزا وتوسعا، وإن كان الصداق والمهر ليس بأجرة، وعقد الزواج ليس عقد إجارة، وإنما قال تعالى:{اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ، إشارة إلى أن سوق المهر إلى الزوجة عند العقد عليها والدخول بها أفضل من تسميته وتأجيله، فاختار الله لرسوله الأفضل والأولى، قال جار الله الزمخشري:(وكان التعجيل- أي: بالمهر- ديدن السلف وسنتهم، وما يعرف بينهم غيره).
ثم قال تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} ، أي: مما أحل لك من الغنائم، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، أي: اللاتي دخلن في الإسلام وهاجرن معك إلى المدينة، {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ، أي: عرضت نفسها للزواج به دون مهر، {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ، أي إن أراد الزواج بها، وقد كانت إباحة الزواج على هذه الصفة من خصائص الرسول وحده، إذ لا يصح زواج أحد من أمته إلا بمهر، ولبيان الصفة الاستثنائية لهذه الحالة من الزواج قال تعالى هنا في نفس السياق:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، إذ الرسول وأمته سواء في الأحكام، إلا فيما خصه الدليل، لكن الرسول عليه السلام بالرغم من إباحة الزواج بالهبة له خاصة لم يتزوج إلا بمهر، لأن اختيار هذا النوع من الزواج علقته الآية الكريمة على رغبته وإرادته: {إِنْ أَرَادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا}، فلم يكن إذن ملزما بقبول الهبة، وقد روى عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا:(لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة).
وبادر كتاب الله إلى التنبيه في هذا السياق على أن تخصيص الرسول ببعض الأحكام يقتضي قصرها عليه، وعدم السماح بتطبيقها على كافة المؤمنين، فلا بد أن يقفوا عندما حد لهم الشارع من شروط وقيود، سبق علم الله بها، وقضاؤه بحكمها، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في جملة اعتراضية:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} ، أي: على المؤمنين، {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، وعقب كتاب الله على ما خص به نبيه فقال:{لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
ثم عاد سياق الآيات إلى موضوع أزواج الرسول، فتحدث كتاب الله إلى نبيه عن طريق معاملته لأزواجه في نطاق الحياة اليومية، والعشرة الزوجية المثالية، وفوض له في ذلك، انطلاقا مما وصفه الله به من (الخلق العظيم) وأنه (بالمؤمنين رؤوف رحيم)، فقال تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} ، فلكل واحدة منهن حق معلوم في رعاية الرسول ومودته، وحظ مقسوم في التمتع بحسن عشرته، ولذلك قال تعالى مؤكدا هذا المعنى الإنساني الرفيع، وكاشفا عما فيه من سر بديع:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} ، فالله تعالى
يريد لأمهات المؤمنين أن يكن قريرات الأعين في بيت الرسول، وأن يعشن عيشة راضية في جو عائلي مقبول، وما دام الرسول عليه السلام هو خير أسوة لكافة المؤمنين، فمن واجبهم أن يمتعوا أزواجهم بما متع به رسول الله أزواجه أمهات المؤمنين:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} .
ومبالغة في إكرام الله لأزواج رسول الله، إذ اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولم يرضين بفراق رسوله من أجل متاع الدنيا وزينتها، خاطبه الحق سبحانه وتعالى بأنه لا يحل له، من بعد ذلك الاختيار، إلا مقابلته من جانبه باختيار مثله، بحيث لا يزيد عليهن، ولا يبدلهن بغيرهن، ما عدا (ملك اليمين) الذي قد يؤول إليه من غنائم الجهاد، وذلك قوله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ، وعقب على ذلك بقوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} ، وشعور أزواج الرسول عليه السلام برقابة الله عليه وعليهن ضمانة إضافية لهناء عيشهن، وإحسان بالغ من الله إليهن.
وقوله تعالى في نفس السياق: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} ، توكيد لوصف (البشرية) الذي لا يعد وصمة، وإنما يعد كمالا، في حق (الإنسان الكامل) الذي هو الرسول الأعظم، فقد اصطفاه الله لرسالته، واختار أن يكون (بشرا رسولا)، وفيه إشارة إلى أن النظر إلى المخطوبة عند خطبتها جائز، وإلى أن حسن المرأة من جملة الدوافع الطبيعية للزواج بها، وإن اعتبار
هذا العنصر لا حرج فيه في نظر الإسلام، لكن يجب أن يكون مدعما بعنصر (التدين) الذي هو صمام الأمان، من تقلبات القلوب وطوارئ الزمان.
ثم وجه كتاب الله الخطاب إلى المؤمنين من ضيوف الرسول، الذين يدعوهم الرسول لتناول الطعام عنده، ولقنهم آداب الضيافة، وفي طليعتها الميل إلى التخفيف في الجلوس والحديث، والانصراف بمجرد انتهاء المأدبة التي حضروها، حتى يتفرغ الرسول عليه السلام لرعاية أهله، إذ لأهله عليه حق. ونبه كتاب الله في نفس السياق إلى منع دخول بيوت النبي دون إذن منه، إبطالا للعرف الذي كان سائدا في الجاهلية بدخول البيوت من غير إذن أصحابها، ثم استمر في صدر الإسلام. كما نبه إلى منع (التطفل) دون دعوة سابقة، وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} ، وهذا النص هو الذي يمنع الدخول إلى البيت دون إذن صريح، إذ لا بد من الدعوة والإذن في فتح الباب والدخول، وقوله:{إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ، أي: لا تحضروا وتنتظروا وقت نضج الطعام واستوائه دون سابق دعوة، {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} ، ثم قال تعالى:{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ، أي: اذهبوا لحال سبيلكم، {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} ، أي: لا تطيلوا الجلوس والتبسط في الكلام، بعد الانتهاء من تناول الطعام.
وبعد ما ميز كتاب الله ما هو سائغ ومقبول مما هو مرفوض
ومرذول، قال تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} ، و (الإذاية) كل ما تكرهه النفس، وكما كان ذلك يؤذي النبي عليه السلام كان يؤذي أزواجه، لكن لما كان البيت بيت النبي صلى الله عيه وسلم والحق حقه أضيف ذلك إليه:{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} ، وهكذا وجه كتاب الله الخطاب إلى ضيوف الرسول في هذا الشأن، دفعا للأذى والحرج الذي كان يصيبه ويصيب أهله في بعض الأحيان، لكنه لم يكن يفصح عنه، لغلبة الحياء عليه صلى الله عليه وسلم.
وبهذه المناسبة لفت كتاب الله أنظار الذين تدعوهم الحاجة لمخاطبة أزواج الرسول، إلى أن الواجب يقضي عليهم بمخاطبتهن من وراء حجاب، لا وجها لوجه، فقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} ، أي حاجة، {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، أما الحكمة في هذا التدبير المحكم فقد بينها كتاب الله إذ قال:{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ، فطهارة القلوب من خواطر السوء، بالنسبة للرجال والنساء على السواء، مرهونة بالعفاف وغض البصر.
ولما انتهى كتاب الله من تفصيل القول في الحياة العائلية للرسول وهو على قيد الحياة، أعلن كتاب الله حكمه في مصير أزواج الرسول بعد أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، فحرم الزواج بهن من بعده على كافة المؤمنين، إذ هن بمنزلة أمهاتهم في الحرمة والحرمة إلى يوم الدين. يضاف إلى ذلك ما في هذا التدبير من توقير للرسول يتناسب مع عظيم منزلته، وسامي مكانته، وذلك قوله
ورفعا للحرج في العلاقات العائلية المتشابكة التي لا غنى عنها أسقط كتاب الله الحجاب عن النساء، بالنسبة لعدد من أقارب العائلة الأقربين ومن في حكمهم، فقال تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ولم يذكر العم والخال، لأنهما يجريان مجرى الوالدين ويقومان مقامهما، بدليل نزولهما منزلتهما في حرمة النكاح. وقد جاءت تسمية العم أبا في كتاب الله على لسان أبناء يعقوب وهم يخاطبون أباهم، وذلك في قوله تعالى (133: 2): {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، فأطلقوا لفظ (الأب) على إسماعيل الذي هو عم أبيهم يعقوب، كما نبه على ذلك الزمخشري والقرطبي.
وسبق في (سورة النور) ذكر الأقارب الذين لا حرج في رؤيتهم لزينة النساء، ومن بينهم نفس الأقارب المذكورين ومن في حكمهم، إذ قال تعالى (31):{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
وبعد أن أذن كتاب الله للنساء برفع الحجاب عند مقابلة هؤلاء الأقارب ومن في حكمهم ومعاملتهم، أوصاهن الحق سبحانه وتعالى بالتزام تقواه ومراقبته في الخلوات والجلوات، حماية لهن من كل زيغ، وصيانة لهن من كل شبهة، وذلك قوله تعالى:{وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} .
وتزكية للرسول من ربه، وتنويها بقدره لدى أمته ولدى الإنسانية جمعاء، وتعريفا بسامي منزلته في الملأ الأعلى عنده، تفضل الحق سبحانه وتعالى فقال:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ، وصلاة الله على رسوله والصالحين من عباده ترمز إلى ذكره الجميل لهم، وثنائه عليهم، وصلاة الملائكة عليهم دعاؤهم لهم بالرحمة والرضوان، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك النصيب الأوفر، والحظ الأكبر.
ثم لقن كتاب الله كافة المؤمنين والمؤمنات ما يجب عليهم نحو الرسول الكريم، من التعظيم والتكريم، بالصلاة عليه والتسليم، فقال تعالى في نفس السياق:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، قال ابن كثير:(أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين، العلوي والسفلي جميعا).
واستنادا إلى هذه الآية الكريمة ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وأئمة الشريعة إلى أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة في الصلوات الخمس، بحيث لا تصح الصلاة بدونها، خصوصا في التشهد الأخير. ومن أشهر القائلين بوجوبها في الصلوات
الخمس الإمام محمد بن إدريس الشافعي، والفقيه المالكي المشهور محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز، وقال القاضي أبو بكر (ابن العربي) المعافري:(الصلاة على النبي فرض في العمر مرة بلا خلاف، فأما في الصلاة فقال محمد بن المواز والشافعي إنها فرض، فمن تركها بطلت صلاته، وقال سائر العلماء: هي سنة في الصلاة، والصحيح ما قاله محمد بن المواز للحديث الصحيح: (إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك)، فعلم الصلاة ووقتها، فتعينا كيفية ووقتا). وليجمع المصلي بين الصلاة عليه والتسليم، ولا يقتصر على أحدهما دون الآخر، (والصلاة الإبراهيمية) التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أفضل صيغ الصلاة، والصيغة التي رواها الإمام مالك هي أصح صيغها سندا، أما الصلاة على غير الأنبياء، من عامة المؤمنين، فهي مخالفة لما درج عليه السلف الصالح من تخصيصها بمقام النبوة والرسالة.
ونظرا لخطورة الأذى الذي يوجهه أعداء الرسالات الإلهية إلى أنبياء الله ورسله، إذ يصدون الناس عن رسالته، ويقفون في وجه انتشار تعاليمه والعمل بتوجيهاته، وما يلحقه أذاهم البالغ ومكرهم السيء بعدد كبير من البشر، فيما بطن من حياتهم وما ظهر، أعلن كتاب الله غضبه عليهم، ولعنته لهم، وتوعدهم بالعذاب المهين في يوم الدين، وذلك كاف للتنفير من قربهم، والحض على هجرتهم وعدم الثقة بهم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا}، وكما استنكر كتاب الله أذى أعداء الرسالات الإلهية لما فيه على الإنسانية كلها من ضرر كبير، استنكر الأذى الموجه إلى أعراض المؤمنين والمؤمنات دون حق، لما فيه من اعتداء وتزوير، والله تعالى لا يرضى لأمة الإسلام فيما بينها إلا التعامل بالصدق، والوقوف عند حدود العدل والحق، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .
وبعدما تحدث كتاب الله عن خطورة الأذى العام الذي يمتد إلى كافة البشر، والأذى الخاص الذي ينال من عرض المؤمنين والمؤمنات، نبه في ختام هذا الربع إلى نوع أخص من أنواع الأذى قد تتعرض له الأسرة المسلمة في كل وقت، إذا لم تأخذ في علاقاتها مع الغير عند الحاجة، بالحيطة والحذر، ولم تتحصن من عناصر السوء، بالمزيد من التعفف والتصاون، حتى لا تنزلق نحو حافة الخطر، وذلك قوله تعالى مخاطبا لرسوله وملقنا لأمته:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} ، والجلباب هو الثوب الذي يستر جميع البدن:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .