الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب السابع والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حديث هذا اليوم نخصصه للربع الأول من الحزب السابع والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} ، إلى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
ــ
وأول ما يواجهنا في هذا الربع هو تقريع وتوبيخ يوجهه كتاب الله لخصوم الرسالة وأعداء التوحيد، أولئك الذين يفترون على الله الكذب، فينسبون إليه من الصفات والنعوت والشركاء ما هو منزه عنه سبحانه، ثم لا يكتفون بكذبهم وافترائهم على الله، بل يضيفون إليه تكذيب كتبه ورسله دون حياء ولا خجل، وفي إصرار وعناد، فهؤلاء أجرأ خلق الله على الظلم،: ظلم الحق، وظلم الحقيقة، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13: 31)، وذلك قوله تعالى في صيغة سؤال على وجه التقرير:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} ، بمعنى أنه لا أحد أشد ظلما من هذا الصنف من الخلق، لأنه جمع بين طرفي الباطل، فقد كذب على الله وكذب
رسله، وقال الباطل ورد الحق، وعلى العكس من ذلك أولئك الذين جاءوا بالصدق عن الله، فلم يصفوه سبحانه وتعالى إلا بصفات الكمال، ونعوت الجلال، والذين صدقوهم، فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله دون شك ولا جدال، وذلك قوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ، فالذي {جَاءَ بِالصِّدْقِ} ، إشارة إلى الأنبياء والرسل، والذي {صَدَّقَ بِهِ} ، إشارة لأتباعهم من المؤمنين إلى يوم الدين.
وكما أعلن الحق سبحانه وتعالى في الآية السابقة جزاء الظالمين المكذبين إذ قال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} ، أعلن في الآية التالية جزاء الصادقين والمصدقين، فقال تعالى:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ، وفي هذه الصيغة من دلائل الرضى والإكرام ما يؤكد أن الله سيكرمهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وتعرض آيات أخر، ما حاوله المشركون ومن لف لفهم من تهديد الرسول وتخويفه بأذى الأصنام وسخط الأوثان، لأنه أشهر عليها الحرب العوان، وناوأها العدوان، وفي نفس الوقت ترسم نفس الآية للرسول عليه السلام ولكل من سار على نهجه في مقاومة الباطل وأهله، طريق الغلبة والنصر، وذلك بالاعتماد الكلي على الله، والاعتصام بحبله، والثقة بوعده، فقال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ، وقال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} ، وقال تعالى: {قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.
وينتقل السياق فجأة إلى الحديث عن كتاب الله المنزل وعن الحكمة في نزوله، وعن الرسالة التي يؤديها إلى الناس كافة، مبينا أن شعار هذا الكتاب الإلهي الكريم هو " الحق "، وإن دعوته هي دعوة " الحق "، وأن شريعته هي الدين " الحق "، وأن النهج الذي اختطه للسلوك في جميع مجالات الحياة وجنباتها بالنسبة لجميع الناس هو النهج " الحق "، وذلك ما تضمنه قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} ، وكلمة {لِلنَّاسِ} ، في هذا المقام لها أكثر من معنى، فكتاب الله لم ينزل على رسوله ليصبح تميمة من التمائم أو يكتفى بقراءته على الأموات في القبور، وإنما نزل ليكون حكما بين الناس، حاكما عليهم، ورائدا موجها لهم، حيثما حلوا وارتحلوا، ولاسيما بين المنتمين إلى الإسلام، فإذا اتخذوا القرآن مهجورا كانوا أحق الناس بالخزي والملام، وإلى هذا المعنى ينظر قوله تعالى هنا:{فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} ، في أعقاب قوله تعالى قبله:{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} ، مباشرة، دون فاصل بين الاثنين.
وذكر كتاب الله الناس أجمعين بما يتعرض له كل إنسان من " الوفاة الصغرى " عند النوم، و " الوفاة الكبرى " عند الموت: وأن بيده سبحانه أرواح الخلق، يمسك منها ما يشاء، ويرسل منها ما يشاء، فقال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وسبق هذا المعنى بتفصيل في سورة الأنعام (61: 60).
وفي هذا الربع آية عجيبة هي وحدها كافية لأن تكون إحدى المعجزات إذ إنها وصفت بكل دقة ملامح الشاكين والمترددين، ومشاعر الملحدين الضالين، لا في عهد الجاهلية الأولى وحدها ولكن في جميع العصور، أولئك الذين إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم، وانقبضت نفوسهم، وإذا ذكر الذين من دونه هشوا وبشوا وانطلقت أسارير وجوههم، وذلك قوله تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، والسر فيما عليه هذا الفريق من التنكر للهداية، والتفتح للضلال، هو ما أصابهم من انحراف الفطرة، نتيجة لسوء التربية وفساد التوجيه، فتنكروا لجميع القيم الروحية، واستهانوا بسائر المثل العليا، وأكبرها وأجلها الإيمان بالله، والثقة بتوجيهه، وانشراح الصدر لإشراق نوره، وتلقي مدده، وحيث أن الإسلام دين الإقناع والاقتناع، لا دين الإكراه والاستكراه فقد جاء التعقيب مباشرة على الآية التي وصفت المنحرفين الضالين، بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
ويُختَم هذا الربع الأول من الحزب السابع والأربعين بأرجى آية وردت في كتاب الله، إذ إنها تفتح باب التوبة والإنابة في وجه العصاة اليائسين، والمذنبين القانطين، بعدما أغواهم الشيطان، وأسرفوا في العصيان، وذلك قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، قال ابن عباس:" من أيأس عباد الله من التوبة بعد هذا، فقد جحد كتاب الله عز وجل " وقال ابن كثير في تفسيره: " هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة، من الكفرة وغيرهم، إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا، لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حملها على غير التوبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه، ولا يقنطن عبد من رحمة الله، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} ، وقال عز وجل (110: 4): {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} .