الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب التاسع والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديثنا اليوم تفسير الربع الأول من الحزب التاسع والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} في سورة فصلت المكية، إلى قوله جل علاه: في سورة الشورى المكية أيضا: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
ــ
والثمن الأول من هذا الربع، وهو خاتمة سورة فصلت المكية، يتناول بالذكر موضوعات أربعة.
الموضوع الأول: ما ينفرد بعلمه علام الغيوب دون خلقه، من المغيبات.
الموضوع الثاني: ما يكون عليه الإنسان من أحوال مختلفة، ومشاعر متباينة، في ظروف الشدة والرخاء.
الموضوع الثالث: ما يكون عليه حال الذين كفروا بكتاب الله العزيز، من الحيرة والتردد.
الموضوع الرابع: ما وعد به الحق سبحانه وتعالى عند نزول
القرآن، من الحقائق الكونية والنفسية المؤيدة للإيمان، التي سيكشف عنها لنبي الإنسان في مستقبل الأزمان.
ففي الموضوع الأول ورد ذكر القرآن للساعة وموعد قيامها، وللثمرات المستورة في أكمامها، وأحمال النساء المستقرة في أرحامها، فالساعة التي يضع الله فيها حدا للحياة على سطح هذا الكوكب الأرضي موكول علمها إلى الله وحده، لا يعلمها أحد سواه، وفي شأن السؤال عنها أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام قائلا:(ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) والشيء الوحيد الذي تناقلته السنة في موضوع الساعة هو التنصيص على بعض (أشرا طها)، ووصف بعض العلامات التي تسبقها، مثل ما رواه البخاري في صحيحه في (باب يقل الرجال ويكثر النساء) عن أنس رضي الله عنه قال:(لأحدثنكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد) قال البخاري: (وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة، يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء).
وكما أن علم الساعة موكول إلى الله دون سواه، فكذلك الثمرات التي هي في باطن النبات قبل أن تخرج وتبرز تعد سرا مكتوما في عالم الغيب لا يستطيع أمهر الزراعيين معرفته على وجه التحقيق قبل أن يبرزه الله.
ومثل ذلك الحمل قبل ظهوره، لا يستطيع أن يعرفه الرجل ولا المرأة، فالله سبحانه هو المنفرد بعلم مآل النطفة، هل يترتب عليها إخصاب وإنجاب، أم يترتب عليها شيء مطلقا، ومثل ذلك الحمل قبل وضعه، هل سيوضع حيا أو ميتا، ذكرا أم أنثى، هل سيوضع ليلا أم نهارا؟ هل سيوضع اليوم أو غدا؟ لا يعلم أمره على وجه القطع إلا الله وحده، وذلك قوله تعالى في شأن الأمور الثلاثة:{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} ، وبمثل هذا المعنى ورد قوله تعالى في سورة الأعراف (187):{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} وقوله تعالى في سورة الأنعام (59): {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وقوله تعالى في سورة الرعد (8):{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} .
وفي الموضوع الثاني ورد وصف القرآن لأنانية الإنسان، وما هو عليه من شدة الإلحاح والمبالغة في طلب الخير لنفسه، فهو لا يسأم ولا يمل من دعاء ربه لطلب (الخير)، والمراد (بالخير) هنا المال والصحة وما ناسبهما من المطالب العديدة المؤدية إلى السعادة حسبما يتخيلها الإنسان، كما ورد وصفه باليأس والقنوط عندما يمسه أدنى شر أو أذى، بحيث ينقلب في الحين متذمرا ساخطا، قلق الفكر، حرج الصدر، ويكثر من الدعاء والابتهال إلى أقصى حد، حتى إذا كشف الله عنه الضر وأذاقه رحمة من عنده أخذ حينئذ يتبجح ويتكبر، مستعليا بنفسه، معتزا بمكانته،
مدعيا أن ما ناله من الخير بعد الشر إنما ناله عن جدارة واستحقاق، وأنه إنما وصل إليه بمقدرته الفائقة، وعبقريته النادرة المثال، وكأن لسان حاله ينفي أن يكون عليه فيما ناله أي فضل لله أو منة منه سبحانه، بل إنه ليبلغ به البله والبطر والغرور إلى حد أن ينسى نعمة الله عليه ويعرض عنه بالمرة، ويتصرف تصرف من لا يؤمن بقيام الساعة ولا ينتظرها مطلقا، وإذا مر بخاطره أن الساعة آتية - على سبيل الفرض عنده والتقدير- فإنه يعلن بكل تبجح وصفاقة وجه أنه حتى في هذه الحالة لن يكون إلا منعما مكرما، وأنه لن يجد عند ربه إلا الحسنى، لأنه عند نفسه وفي نظره القاصر يتمتع بامتيازات وحصانات خاصة من لدن الله، وهو في تقديره الخاص فوق القانون السماوي والعدل الإلهي، اللذين يسري مفعولهما على بقية الناس، وذلك ما ينطق به قوله تعالى:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} ، ويؤكد قوله تعالى في نفس السياق:{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} .
وفي الموضوع الثالث ورد استفسار القرآن الكريم للكافرين به، ماذا يكون عليه موقفهم عندما يتأكد لهم أنه من عند الله، ويجدون أنفسهم قد ضيعوا فرصة لن تعود، إذ كفروا به وأعرضوا عنه، ويدركون أنهم أخسر الناس صفقة، إذ كانوا أشد الناس
ضلالا وخبالا، وذلك قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .
وفي الموضوع الرابع وعد كتاب الله المؤمنين خاصة وبني الإنسان عامة، بأن الحق الذي قامت على أساسه السماوات والأرضون، وقامت على أساسه عقيدة القرآن وشريعته وأخلاقه، سيزداد جلاء وظهورا بمرور الأيام، وأن الله تعالى سيرفع الحجاب عن الفكر الإنساني، وسيلهمه أن يكتشف من خفايا الطبيعة وخبايا النفس ما يكون سندا لذلك الحق، ودعامة للإيمان بخالق الخلق، وذلك قوله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} ، وقد أنجز الله وعده لبني الإنسان، بمقتضى ما وعد به نزول القرآن، فكشف لهم خلال الأربعة عشر قرنا من ظهور الإسلام، ما لم تعرفه البشرية من قبل في عشرات القرون وآلاف السنين، ولا يزال باب الكشف مفتوحا بإذن الله، وفي كل كشف آية جديدة تدل على صدق كتاب الله.
والآن فلنوجز موضوعات الثمن الثاني من هذا الربع، وهو فاتحة (سورة الشورى) المكية:
إن الحديث في فاتحة هذه السورة يتناول بالذكر إثبات الوحي من الله إلى رسوله {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، ويتناول استغفار الملائكة للمؤمنين في الأرض:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، ويتناول بيان الحكمة في نزول القرآن:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} ،
ويتناول ضرورة التحاكم إلى الله، عند ظهور الاختلاف بين الناس:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} .
وفيما بين هذه الموضوعات يزيد كتاب الله معتقدات الشرك تسفيها وتفنيدا، كما يزيد عقائد التوحيد بيانا وتأييدا:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .