الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} ، إلى قوله تعالى:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} .
ــ
لا يزال كتاب الله يواصل الحديث عن المشركين بالله، والمنكرين للبعث والشاكين في الوقوف بين يديه، مسجلا الأوامر الإلهية الصادرة في شأنهم وشأن رفقائهم، ليلقوا الجزاء المناسب عن جريمة الشرك بالله، وجريمة الشك في البعث، اللتين هما أكبر الجرائم، رافعا الستار عما يدور بين أئمة الكفر الطغاة، وأتباعهم المخدوعين المغلوبين على أمرهم، وهم يتحاورون في جهنم ويتلاومون، لكن بعد فوات الوقت، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} (54:10) وأول أمر صدر في حق هؤلاء الأئمة والأتباع سجله كتاب الله في بداية هذا الربع قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} ، أي: أشياعهم وأتباعهم،
{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ، أي: قفوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار.
وتمهيدا لحكاية الحوار الذي يدور بينهم في هذا المشهد الرهيب قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} .
فمن كلام الأتباع المخدوعين، وهم يخاطبون أئمة الكفر، حكى كتاب الله قولهم:{قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} ، ولفظ {الْيَمِينِ} ، هنا مستعار للقوة والقهر، كما حكى قول نفس الأتباع في التنديد والتشهير بما كان عليه أئمة الكفر من استبداد وطغيان:{بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} .
ومن كلام أئمة الكفر الطغاة وهم يخاطبون الأتباع المخدوعين حكى كتاب الله قولهم: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} ، مقلدين بهذا الأسلوب في التضليل والتلبيس إمامهم الأكبر إبليس، إذ قال في مثل هذا المجال:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (22: 14).
ثم سجل كتاب الله عليهم اعترافهم- بعد اللف والدوران -بجرمهم، واعترافهم بعدل الله في عقابهم على ظلمهم، فقال تعالى على لسانهم بالنسبة للاعتراف الأخير:{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} ، أي: ذائقون عذاب الله لا محالة، وقال
تعالى على لسانهم بالنسبة للاعتراف الأول: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} مخاطبين أتباعهم.
وفي خلال هذا الحوار وصف كتاب الله ما آل إليه أمر المتبوعين والأتباع من تخاذل واستسلام، في هذا المقام، حيث لم ينصر أحد الفريقين الفريق الآخر، للخلاص من العذاب، ولم ينصر كلا الفريقين ما كانوا يعبدونه من دون الله، من الشياطين والأوثان والأصنام، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى بمنتهى الإيجاز:{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} ، أي: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا الآن، {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} .
وسجل كتاب الله القول الفصل، والحكم العدل في هذه القضية وأمثالها، فقال تعالى:{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} ،لكن لكل فريق منهم نصيبه المناسب لجرمه، {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} ، وسبق في سورة الأحزاب موقف قريب من هذا الموقف، يكشف فيه الأتباع المخدوعون زيف القادة الذين خدعوهم، ويلعنوهم لعنا كبيرا، وذلك قوله تعالى حكاية عنهم (67):{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} ، وإنما استحقوا {ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} ، لأنهم ضلوا وأضلوا.
وتثبيتا للحكم الصارم الذي حكم به الحق سبحانه وتعالى في شأنهم جاء كتاب الله بحيثيات الحكم وأسبابه، فقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، أي: إذا قيل لهم
قولوا لا إله إلا الله، {يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، فهم يشركون بالله ولا يرضون به ربا، وهم يطعنون في الرسول ولا يرضون به نبيا، وكفى بإنكار الربوبية وإنكار النبوءة مبررا لاستحقاق العذاب، في نظر أولي الألباب، -ومنذ أبى إبليس من السجود لآدم واستكبر فدخل في عداد الكافرين أصبح الاستكبار عن عبادة الله وطاعته سنة متبعة عند أهل الكفر، وقاسما مشتركا بينهم في كل جيل وعصر، حتى أنه كلما ذكر في القرآن " الكفر والكافرون "، ذكر بجانبه في الغالب " الكبر والمستكبرون ".
وردا على مزاعم المشركين في حق الرسول، وإبطالا لها من الأساس، قال تعالى:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} ، فرسالته عليه الصلاة والسلام تجديد وتكميل لرسالات الرسل جميعا، والذي جاء به من عند الله، هو الحق الذي لا حق سواه، وما خالفه كله باطل، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (81: 17) ورفعا لكل إبهام والتباس فيما جرى على لسان أئمة الكفر، إذ قالوا فيما سبق:{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} ، قال تعالى موضحا ومفصحا:{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وفتح كتاب الله صفحة جديدة في سجل عباد الله المخلصين الذين لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، لوفائهم بعهدهم مع الله، {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (10: 48)، ووصف أنواع الإنعام والإكرام
المخصصة لهم في جنات النعيم، فقال تعالى مستثنيا لهم ممن يذوقون العذاب:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، ومعنى {الْمُخْلَصِينَ} ، بفتح اللام على قراءة نافع المدني وبرواية ورش المتبعة في المغرب:" الذين أخلصهم الله لطاعته، واستخلصهم لولايته " وقرئ بكسر اللام أيضا أخذا من " الإخلاص " بمعنى إفراد الله وحده بالعبادة، وتصفية عبادته من كل الشوائب، {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ} ، أما " الرزق المعلوم " ففي شأنه جاء قوله تعالى في آية أخرى (62: 19): {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ، وأما " الفواكه " ففي شأنها جاء قوله تعالى في آية أخرى (62: 56): {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} ، ثم قال تعالى على وجه التعميم والشمول:{وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، والإكرام بمعناه العام لا يقتصر على ما ورد في هذا السياق وما ماثله، بل يشمله ويشمل غيره، " مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر، على قلب بشر "، حسبما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه أزكى الصلاة وأزكى السلام، وفي طليعة ذلك كله:" رضوان الله " الذي هو غاية الغايات، عند أصفياء الله وأوليائه. قال تعالى (72: 9): {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
ومضى كتاب الله يعدد جملة من نعمه الظاهرة على عباده المخلصين، فبعد أن وصف طعامهم من قبل، ها هو يصف
مجالس أنسهم، ونوع شرابهم، وحلائل أزواجهم، حيث يقول:{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} ، أي: جالسون على سرر متقابلين، وذلك ليأنس بعضهم ببعض، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} ، أي: بكأس لا تحدث لهم مغصا في البطن، ولا صداعا في الرأس، ولا غيبوبة في العقل، وكلمة " الغول " هي التي أبدلت في اللسان الدارج غلطا باسم " الكحول " تقليدا للنطق الأجنبي المحرف، {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} ، أي: عندهم زوجات عفيفات يغضضن أبصارهن، وهن حسان الأعين، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} ، أي: مصون.
ومن المشاهد المثيرة والمؤثرة التي سجلها كتاب الله في هذا السياق مشهد أحد نزلاء الجنة وهو يحكي لرفاقه بعض ذكرياته، ومنها محاولة أحد قرناء السوء لإغرائه بالكفر وإغوائه، وتشكيكه في أمر البعث والحساب، والثواب والعقاب، وعندما ينتهي من قصته يبدي لرفاقه رغبته في البحث عن مصير هذا القرين ومقره الأخير في الدار الآخرة، فإذا به يكتشف أن قرينه الذي كان يخادعه في الدنيا يوجد بين نزلاء جهنم، ويحمد الله على أن قرين السوء الذي كان يستدرجه للكفر لم يبلغ منه ما يريد، وإلا لهلك مثله وكان له نفس المصير، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} ، أي: مجزيون ومحاسبون بعد
الموت، {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} أي: قال لرفاقه: هل تشرفون من مكان عال، وتطلعون معي على المعذبين، لتروا بأعينكم معي هذا القرين، {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} ، أي: رأى قرينه يرتع في بحبوحة جهنم، فلما رآه على تلك الحال، {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} ، أي: قال وكأنه يتحدث إلى ذلك القرين الشقي: إن كدت لتهلكني، وأكد هذا القول بالقسم، ثم استحضر العناية الإلهية، التي حميته من الوقوع في فخ ذلك القرين والسقوط في الهاوية، فقال معترفا بفضل الله عليه:{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} ، أي: لكنت من الذين يساقون إلى جهنم سوق المجرمين.
وتعبيرا عما في ضمائر نزلاء الجنة المنعمين، وتمنيهم للحياة فيها حياة لا يذوقون بعدها الموت، نطق كتاب الله بلسان حالهم قائلا:{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ،وعندما أدركوا أن ما تمنوه من حياة الخلود هو بفضل الله عليهم من باب تحصيل الحاصل، تيقنوا أن ما يشغل الناس في الدنيا ويلهيهم عن الله إنما هو ظل زائل، أما نعيم الآخرة فهو وحده النعيم المقيم، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وليحضوا غيرهم على الاهتداء بهديهم واللحاق بركبهم، قال تعالى على لسانهم:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} .
وحيث أن الأشياء إنما تعرف بأضدادها بادر كتاب الله إلى تصوير حالة الأشقياء المعذبين، الذين ظلموا ربهم، فأشركوا به غيره، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13: 31)، وظلموا عباده،
فاستعبدوهم وأضلوهم، وظلموا أنفسهم، فرفضوا دين الحق الذي لا يقبل الله سواه، وافتتح كتاب الله هذا العرض بسؤال عجيب لا يجد له الأشقياء جوابا، وذلك قوله تعالى:{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} ، أي: أنزل أصحاب الجنة ورزقهم خير، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} ، التي هي نزل أصحاب الجحيم، {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} ، أي: امتحانا لهم واختبارا، {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} ، أي: ثمرها مكروه مستقبح، كما يكره الناس ويستقبحون صورة الشيطان، التي هي في خيالهم أشد الصور تجسيما للبشاعة والقبح. وكما اعتقد الناس في " الملك " أنه خير محض، فشبهوا به أحسن الصور وأجملها، اعتقدوا في " الشيطان " أنه شر محض، فشبهوا به أقبح الصور وأبشعها، ومن ذلك قوله تعالى على لسان صواحب يوسف في التشبيه بالملك:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ، (31: 12)، ثم قال تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} ، أي: من شجرة الزقوم، {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} ، أي: شرابا من الماء الحار، مشوبا ببعض الأخلاط الرديئة، مما يزيدهم عذابا على عذاب، وعقابا على عقاب، {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} ، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى (44: 55)، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ* يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} .
وتنبيها إلى عدل الله في عقابه للظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم وظلموا ربهم، وتمسكوا بالتقليد الأعمى
للآباء والأجداد في ضلالهم، وأصروا على اتباع آثارهم وحمل أوزارهم، قال تعالى تعقيبا على ما سبق:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} ، أي: وجدوهم على ضلال فاقتدوا بهم، {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} ، أي: يسيرون عليها سيرا حثيثا، {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ، ثم قال تعالى:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، استثناء من قوله تعالى:{أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} ، عقب قوله:{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} ، أو استثناء من قوله تعالى:{عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ، عقب قوله {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ} . ويصح أن يكون الاستثناء منهما معا، لأن " عباد الله المخلصين " اهتدوا فلم يكونوا، {مِنَ الضَّالِّينَ} ، وسبقت لهم الحسنى والبشرى فلم يكونوا، {مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .
وبعد ما أشار كتاب الله إلى المنذرين الذين أرسلهم الله لإنذار الضالين وهدايتهم، وإلى المنذرين الذين أصروا على ضلالتهم، تصدى لذكر نماذج فريدة في نوعها من كلا الفريقين، مما فيه عبرة وذكرى لكافة المؤمنين، وترويح وتسلية لخاتم الأنبياء والمرسلين: وأول اسم تصدر في هذا المقام اسم نوح " عليه السلام، فقال تعالى في شأنه:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} ، أي: بعد أن يئس نوح من هداية قومه ولم يؤمن معه إلا قليل، استغاث بنا واستنصر، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (26: 71)، واستجبنا دعاءه ونصرناه عليهم، {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي:
نجيناه ومن آمن معه من الطوفان الذي سلطناه على الكافرين من قومه، {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} ، لأن الكافرين من قومه بادوا مع ذرياتهم وماتوا غرقا، فلم يبق منهم عين ولا أثر، وإنما بقي منهم مجرد العبرة والخبر، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في آية أخرى (48: 11): {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وتنويها برسالة نوح عليه السلام، وإبرازا لمكانته الخاصة عند الله وعند الناس، قال تعالى:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} ، أي: أبقينا له ذكرا جميلا على مر الزمان، وسخرنا للسلام عليه كل لسان، ثم قال تعالى مبينا استحقاق نوح ومن سار على هديه لحسن الجزاء، وكونه أهلا لكل تنويه وثناء:{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} ، فالإيمان والإحسان هما الطريق الموصل إلى رضا الرحمن، ورضا الرحمن هو الوسيلة إلى زرع محبة الإنسان في قلب أخيه الإنسان، أما الذين وقفوا لنوح ورسالته بالمرصاد، فقد انتقم الله منهم شر انتقام، لأنهم طغوا في البلاد، وكانوا من شر العباد:{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ، قال جار الله الزمخشري: " علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية، من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر، بأنه كان محسنا، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا، ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، وليرغبك في تحصيله
والازدياد منه، فاللهم زدنا إيمانا وإحسانا، ولنتل مرة أخرى تلاوة مجردة قوله تعالى في ختام هذا الربع:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} .