المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٥

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الروم

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة لقمان

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة السجدة

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة سبأ

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فاطر

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يس

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌لربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الصافات

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة ص

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزمر

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة غافر

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فصلت

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشورى

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزخرف

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الدخان

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجاثية

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول تفسير الربع الأول من الحزب الحادي والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة العنكبوت:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى قوله تعالى في سورة الروم: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} .

ــ

لقد سبق في علم الله أن دين الحق الذي هو دين الإسلام، رغما عن ظهوره وانتشاره في أطراف الأرض، وإقبال مختلف السلالات على الدخول فيه أفواجا، سوف لا ينفرد وحده بالبقاء في العالم، مصداقا لقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، بل إنه ستعايشه باستمرار أديان أخرى، وستحاول أن تنافسه وتتحداه، كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولا سيما " الأديان الكتابية " التي ينتمي إليها اليهود والنصارى.

ومعايشة الإسلام لغيره من الأديان، تفرض على أهله أن يدافعوا عنه في وجه الهجمات المضادة بالحجة والبرهان، وحتى

ص: 9

يتم القيام بهذه المهمة على أحسن وجه، وجه كتاب الله في بداية هذا الربع الخطاب لكافة المؤمنين، ولا سيما المسلحين منهم بسلاح العلم والدين، فقال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وبذلك أفهم المسلمين أولا أن الإسلام لا يخشى من مواجهة خصومه، وأنه لا بد للمسلمين من أن يجادلوا عن دينهم، ويبطلوا ما يوجه إليه من الشبه الزائفة والتهم الباطلة، وأفهمهم ثانيا أن مجادلة المسلمين لمخالفيهم في العقيدة والدين لا تكون بأي شكل كان، بل لا بد أن تكون على شكل يؤدي بالخصم إلى الاقتناع والإذعان، وهذا المعنى هو ما عبرت عنه الآية الكريمة إذ قالت:{إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .

و {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وصف للطريقة التي يجب أن يتبعها المجادل عن دينه في الدفاع عنه، حيث يختار لجداله طريقة مطبوعة بطابع الرفق واللين، لا تشم منها رائحة الغلظة والجفاء، و {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هي كذلك وصف للحجة التي ينبغي أن يحتج بها المجادل عن دينه للدفاع عنه، بحيث يختار من بين الحجج التي بين يديه أوضحها وأقواها، وأسرعها إيصالا للمقصود والمطلوب، وبذلك ينصر دينه، ويبر يمينه. قال القاضي أبو بكر (ابن العربي) المعافري:" لكن يكون الجدال بما يحسن من الأدلة ويجمل من الكلام، بأن يكون منك للخصم تمكين، وفي خطابك له لين، وأن تستعمل من الأدلة أظهرها وأنورها، وإذا لم يفهم الخصم أعاد عليه المجادل الحجة وكررها ".

وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} معناه أن من

ص: 10

تصدى للمسلمين بالظلم والعدوان لا يجادل بالرفق واللين، وإنما يعامل معاملة الظالمين، فيحد من ظلمه بما يناسبه من الجدال أو الجلاد، إلى أن يرتدع عن ظلمه ويرجع إلى السداد، ومن الظلم الاعتداء على الحرمات والتهجم على المقدسات، وغدر العهود والالتزامات.

وقوله تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} يتضمن مثالا تطبيقيا لمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، قال ابن كثير: {فإذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه لا نقدم على تكذيبه، لأنه قد يكون حقا، ولا نقدم على تصديقه لأنه قد يكون باطلا، ولكن نؤمن به إيمانا مجملا، شريطة أن يكون أمرا منزلا، لا مبدلا ولا مؤولا، وتفرد البخاري في صحيحه برواية حديث عن أبي هريرة قال:" كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم الآية ".

وقوله تعالى: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} معناه أن الخلق كلهم عيال الله، وأن رب العالمين الذي خلقهم ورزقهم إله واحد، وإن كانت عقيدة التوحيد في الإسلام بالنسبة لغيرها من العقائد هي العقيدة الوحيدة الصحيحة والسليمة من كل الشوائب، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى (109/ 6):{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ، ولذلك قال تعالى هنا:{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} أي على خلاف ما عليه أهل الكتاب.

ص: 11

ثم اتجه الخطاب الإلهي إلى الرسول الأعظم، مذكرا إياه بأنه كما منّ على الأنبياء السابقين بإنزال الكتب إليهم، ها هو يكرمه ويمن عليه بالكتاب الذي أنزل إليه، مؤكدا، لمن لا يزال في شك من أمره، أن منصب النبوة والرسالة وتلقي الوحي الذي رشحته له العناية الإلهية، لم يكن يدور من قبل في خلده، ولم يكن له يد في اكتسابه، ولا تشوف إلى تلقي مدده، وإنما هو هبة من الله منحه إياها، ليثبت صدق رسالته إلى الخلق، حتى يقلعوا عن الباطل ويؤمنوا بالحق، وذلك قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِ آيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} أي الموغلون في الكفر والراسخون فيه، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي: وكان لهم في ارتيابهم متعلق.

ثم قال تعالى في وصف كتابه العزيز: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ، أي: آيات الكتاب العزيز بلغت الغاية في قوة الدلالة ووضوح المعنى وبلاغة القول، بحيث يكفي أن يسمعها الإنسان لينشرح صدره، ويطمئن قلبه، ويقتنع بها فكره ولبه:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} ومن ثم كان لا يجحدها ولا يتنكر لها إلا الإنسان الذي قضى على نفسه بالظلم والحرمان: {وَمَا يَجْحَدُ بِ آيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} .

وقد يسر الله آيات الذكر الحكيم، فجعلها في متناول العقول والأذهان، وحفظها لفظا ومعنى، نصا وروحا، في صدور

ص: 12

الذين آتاهم علم القرآن، فآمنوا بها وقاموا بحقها، حفظا وتلاوة وتفسيرا وتلقينا إلى آخر الزمان، وذلك معنى قوله تعالى هنا:{فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى (3/ 7): {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وقوله تعالى في آية ثانية (9: 15): {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

وانتقل كتاب الله إلى وصف مزاعم المتعنتين، الجاحدين لآياته، الذين ينتحلون لأنفسهم الأعذار، عسى أن لا يقعوا تحت طائلة الإنذار والإعذار، فقال تعالى حكاية عنهم أولا، ومبطلا لمزاعمهم ثانيا:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْ آيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} .

والآيات التي يقصدونها ويطالبون النبي بها هي من نوع (المعجزات المادية) التي رافقت رسالة بعض الرسل السابقين، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، مما كان سندا لهم في دعوى الرسالة، وبرهانا على صدقهم لدى من أرسلوا إليه، لكن كتاب الله رد على أولئك الجاحدين بأن إنزال مثل تلك (الآيات المادية والوقتية) مرده إلى الله وبيده وحده، لا دخل فيه لنبي ولا رسول.

على أن الله تعالى قد وهب خاتم أنبيائه ورسله كتابا معجزا: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} يعدل بجميع تلك المعجزات، ولا يقتصر أثره على فترة محدودة من

ص: 13

الأوقات، بل سيظل إعجازه قائما، وأثره ساريا في كل زمان، وسيزداد إعجاب الإنسان بما فيه من علم وحكمة، وما يدعو إليه من إحسان ورحمة، كلما ارتفع مستوى الإنسان، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

ويشهد لتفسير هذه الآية من الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .

ووصف كتاب الله ما عليه أولئك الجاحدون من عناد وغرور وتحد للقدرة الإلهية وللرسالة المحمدية، فقال تعالى في وصفهم:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، لكن العذاب الذي يستعجلون به، ويتحدون الرسول بطلبه، لا يأذن الله به إلا عند استنفاد جميع الوسائل لهدايتهم، وإصرارهم على ضلالتهم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (107: 21)، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (156: 7)، وفي الحديث القدسي:(رحمتي سبقت غضبي).

ص: 14

واتجه كتاب الله بالخطاب إلى المؤمنين الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، وملأت عليهم أفئدتهم، وعرفهم أن أرضه الواسعة مفتوحة في وجوههم، ميسرة الأسباب من أجلهم:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (29: 2)، كما أن رحمته الواسعة محيطة بهم من كل جانب، فما عليهم إلا أن يعتزوا بإيمانهم ويتمسكوا بدينهم، ولا يضيقوا ذرعا بكيد الكائدين، ومكر الماكرين، وذلك قوله تعالى هنا:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . وهذه الآية كما فتحت الباب أمام المؤمنين للتفكير في الخلاص من أذى المشركين، والهجرة من مكة إلى المدينة، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (97: 4) فتحت الباب أيضا في وجه المسلمين أجمعين، للسير في أرض الله، والتعرف على صنع الله، والقيام بالدعوة إلى الله، وذلك هو ما قام به المسلمون الأولون، عندما جابوا أكناف الأرض، طولها والعرض، فانشئوا (دار الإسلام)، وآخوا في دين الله بين مختلف السلالات والأقوام.

ونظرا لما تؤدي إليه مسيرة (إيمانية) عالمية كبرى من هذا النوع، وما يمكن أن يتعرض له المؤمنون القائمون بها من متاعب وأخطار، عقب كتاب الله على ذلك بما يطمئن نفوسهم، ويؤكد ثقتهم بالله وبحسن جزائه في الدنيا والآخرة، فقال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} .

ص: 15

ثم أشار كتاب الله تعالى إلى أن سر النجاح في هذه المسيرة الإنسانية العظمى يكمن في مواصلة العمل، لا في الجمود والكسل، وفي التزام الصبر، لا في الجزع والملل، وفي التوكل على الله بعد اتخاذ الأسباب، وطرق أبواب رزقه التي ليس عليها أي حجاب، فقال تعالى:{نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

وانتقل كتاب الله إلى وصف طائفة متناقضة مع نفسها كل التناقض، وجدت في القرون الخالية، ويوجد مثلها في العهود الحالية، ألا وهي تلك الطائفة التي تدعي أنها تقر بوجود الله، لكنها لا تؤمن برسله ولا بكتبه ولا باليوم الآخر، ولا تدين لخالقها ورازقها بالعبادة والطاعة لا في قليل ولا كثير، بل تقضي حياتها مستغرقة في المتع والشهوات، ولا تلتفت إلى ما أنزل الله من الآيات البينات، وذلك قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: الحياة الكاملة والدائمة، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

ص: 16

وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، الوارد استطرادا في سياق هذه الآيات، خطاب لرسوله الأعظم، يدعوه إلى حمد الله وشكره، على ما أوضح من الحجج الساطعة، والبراهين القاطعة، وإن عمى عنها الجاحدون، وتنكر لها المعاندون.

وأورد كتاب الله في هذا السياق آية تصف جحود رؤساء الشرك - قبل أن يسلم منهم من أسلم - لنعمة الله التي أنعم بها على سكان مكة كافة، إذ جعل بلدهم - بفضله وكرمه - (حرما آمنا) يتمتع بالقداسة والاحترام، ومأمناً لهم وللوافدين عليهم من كل عدوان وانتقام، وكان من حقهم، بل من واجبهم، أن يشكروا نعمة الله، ويدخلوا في دين الله، وذلك قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} على غرار قوله تعالى في آية أخرى: {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (14: 28).

وحيث إن المعارضين للحق، والمضللين للخلق، لا يخلو الواحد منهم من أحد أمرين: إما أن يكون (كاذبا) يعمل على ترويج الباطل، وإما أن يكون (مكذبا) يعمل على إبطال الحق، وقد يجمع الواحد منهم بين الأمرين فيكون كاذبا ومكذبا، فقد تصدى لهم كتاب الله بما هم أهله، وأشار من طرف خفي إلى أن ما هم عليه من كبر واستعلاء له أثر كبير فيما ينشرونه وينصرونه من الكذب والهراء، فقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} .

ص: 17

لكن من آمنوا بالحق وصدقوا بالرسالة، وجاهدوا في نشرها ونصرتها والدفاع عنها، سيسلك بهم ربهم مسالك النجاة والنجاح، وستصحبهم العناية الإلهية في الغدو والرواح، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في ختام سورة العنكبوت:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .

ومن هنا ننتقل بعون الله وتسديده إلى (سورة الروم) المكية أيضا، وقد جاءت مبدوءة بحروف الهجاء المقطعة، وهي خامس سورة وردت على هذا الشكل على التوالي في نسق واحد، وإنما سميت (سورة الروم) لقوله تعالى في فاتحتها {بسم الله الرحمن الرحيم الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الآية. وورد في سنن الترمذي ما خلاصته: أن الفرس كانوا يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم (أهل الكتاب) وفي ذلك ورد قوله تعالى:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بينما كان مشركو قريش يحبون ظهور فارس، لأنهم وإياهم (ليسوا بأهل الكتاب) ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة:{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} وعندما مضت سبع سنين ظهرت الروم على فارس، فأسلم عند ذلك ناس كثير، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وكان ذلك تصديقا لقول الله تعالى:{وعد الله لا يخلف الله وعده} (30: 6).

ص: 18

ثم نبه كتاب الله إلى أن أكثر الناس يكتفون بالقشر بدل اللباب، وبالظاهر السطحي دون التعمق فيما وراء الحجاب، بينما الواجب يقتضي بذل الطاقة والجهد في التفكير العميق، والبحث الدقيق، حتى يدرك الإنسان حقائق الأمور، ما ظهر منها وما بطن، ويكشف عن جوهرها المكنون والمستور، فيستوي في نظره السر والعلن، وذلك قوله تعالى في ختام هذا الربع:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} .

ص: 19