الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الخامس والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأول من الحزب الخامس والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} ، إلى قوله تعالى:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .
ــ
في بداية هذا الربع أعاد كتاب الله الحديث عن مصرع أصحاب القرية، الذين حكى قصتهم في الربع الماضي؛ ليبين ما تعرضوا له من سوء العاقبة، جزاء شركهم بالله، واعتدائهم على كرامة رسله، وحيث إن الحق سبحانه وتعالى يفعل في ملكه ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، ولا يظلم أحدا، فانه يختار لكل قوم العقاب اللائق بهم، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى (29: 30): {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} ، وقد اختار لعقاب أصحاب القرية الظالم أهلها من أنواع العقاب التي أشارت إليها هذه الآية النوع الثاني منها دون غيره، فقال تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} ، أي: قوم " مؤمن القرية " الذي انفرد
عنهم جميعا بإعلان إيمانه، والثبات عليه، والموت في سبيله، {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، أي: إن كانت الواقعة أو العقوبة إلا صيحة واحدة، {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ، إشارة إلى سرعة هلاكهم، وخمود حركتهم، كما تخمد النار فتصير رمادا.
ونظرا لما اتصف به الحق سبحانه وتعالى من رحمة بعباده، وحرص على هدايتهم والأخذ بيدهم، إنجازا لوعده بتمكينهم من وسائل الهداية حتى لا يبقوا هملا، ولا يتركوا سدى، مصداقا لقوله تعالى في سورة البقرة (38):{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وقوله تعالى في سورة طه (123):{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} ، فان كتاب الله أراد أن يبرز للعالم أجمع مبلغ التعجب والاستغراب والأسى، الذي يوحي به موقف الضالين المعاندين، المعرضين عن هداية الله، والمكذبين برسله ورسالته، رغما عن كونها إنما جاءت لإنقاذهم، وهي منهم " على طرف الثمام "، مبينا لهم أنهم مهما طال عليهم الأمد، فلن يفلتوا من قبضة الله، وأنهم سيساقون جميعا إلى حضرته، ويقفون بين يدي جلاله وعظمته، ويا ويلهم من العقاب والعذاب، عند حلول يوم الحساب، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا بإيجاز وإعجاز:{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} .
وحيث أن كثيرا من الناس تسيطر عليهم الغفلة والنسيان، وتستغرق شهواتهم وملذاتهم كل أوقاتهم، وإن طال عليهم العمر وامتد بهم الزمان، فلا يلتفتون إلى ما حولهم من آيات الله، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ، (12: 105) ها هو كتاب الله يقرع أسماعهم من جديد، ويثير انتباههم إلى جملة من آياته الكونية الكبرى، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم، ويلتفتوا إلى آياته في الآفاق وفي أنفسهم، التفاتة تدبر واعتبار، تنير منهم البصائر والأبصار:
أما الآية الكونية الأولى في هذا السياق فهي: الأرض التي جعلها الله للإنسان موطنا ومرتعا، ومستقرا ومستودعا، وذلك قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} ، أي: ليأكلوا مما خلق الله من الثمر، {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} .
ومن غريب أمر الإنسان انه لا يقدر نعمة الله عليه بالأرض والماء، والنبات والغذاء، إلا عندما ينتشر القحط ويعم الجدب، فيصبح شبح الجوع والعطش أمامه ماثلا، ويصبح ميزان عيشه مختلا وشائلا، ويحس بقلق بالغ لا مزيد عليه، ويا ليته يرجع إلى الله ويدرك أنه لا ملجأ منه إلا إليه.
وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، يتضمن الإشارة إلى معنيين جليلين: المعنى الأول: ما أبدعته القدرة الإلهية في النبات والإنسان،
ومثلهما بقية الحيوان، من أجناس وأنواع وألوان، وما هي عليه من أشكال وصور وأحجام، لا سبيل إلى حصرها ووصفها في هذا المقام، والمعنى الثاني: ما قام عليه الكون من الثنائية والازدواج في التكوين من ذكر وأنثى وسالب وموجب، وتعميم ذلك في النبات والحيوان والإنسان، مما يدل على وحدة التكوين ووحدة المكون سبحانه وتعالى، وسيأتي بهذا المعنى العام، الشامل للثنائية والأزواج، قوله تعالى في سورة الذاريات (49):{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
ولاتساع البحث ودقته في هذا المجال، وفتح باب الاكتشاف فيه أمام الأجيال، قال تعالى في نفس الموضوع:{وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} ، أي: مما لا يعلمه المخاطبون عند نزول القرآن، لكن يمكن أن يكتشفه من يأتي من بعدهم، متى رفع عنه الحجاب في مستقبل الزمان، وذلك على غرار قوله تعالى في آية سابقة (16: 8): {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
وأما الآية الكونية الثانية في نفس السياق فهي آية السماء، وما سخره الله فيها من شمس وقمر، وليل ونهار، لمصلحة الإنسان ومنفعته، وانتظام عيشه وراحته، وتحقيق أكبر حظ من هنائه وسعادته، وذلك قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، فبتنظيم الحياة اليومية للإنسان وتقسيمها إلى وقت
ملائم لليقظة والنشاط والعمل: هو النهار، ووقت ملائم للاستجمام والراحة والنوم هو الليل، وبتعاقب الليل والنهار على الأرض ومن فيها وما فيها، بالحرارة والبرودة الملطفة لها، وبضياء الشمس ونور القمر، استطاع الإنسان أن يتحمل تكاليف العيش فوق سطح الأرض، وأن يكيف حياته فيها التكييف المناسب، وعبر كتاب الله عن إدبار النهار بضيائه، وإقبال الليل بظلامه، ببلاغته المعهودة فقال:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} ، أي: خارجون من ضياء النهار، وداخلون في ظلام الليل في الحين.
وقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ، أي: تسير على ترتيب معلوم، ونظام مرسوم، لا تفاوت فيه ولا اختلاف، وهذا النظام يتجلى في دورانها حول نفسها أولا، وفي جريانها حول مدارها ثانيا، وذلك دون توقف وفي اتجاه واحد، في الفضاء الكوني الواسع، وبفعل دوران الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق تتراءى لنا الشمس أيضا وهي تجري من الشرق إلى الغرب، وهذا المعنى الكوني الرائع يؤكده قوله تعالى في آية أخرى (33: 14)، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} ، أي لا يفتران ولا يقفان {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، أما " مستقر "، الشمس الذي نطقت به الآية الكريمة فيصدق بمستقرها في المكان، وهو مدارها الذي لا تتجاوزه في الفضاء، ويصدق بمستقرها في الزمان، وهو ما تتعرض له في الأخير، من انقلاب وتغيير، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ} (14: 48)، طبقا لقوله تعالى (31: 29)، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ، وقوله تعالى (81: 1): {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} ، الآية.
وقوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ، أي: وآية لهم القمر، معطوف على ما قبله، فيه إشارة إلى أن الله تعالى جعل سير القمر منازل متوالية، بحيث ينزل كل ليلة منها بمنزل، وعدد منازله ثمانية وعشرون منزلا، وسبق في سورة يونس قوله تعالى مبينا حكمته البالغة في ذلك (5):{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} .
وحيث أن القمر يشرع نوره في التناقص والتراجع بعد الليلة الرابعة عشرة، ولا يأتي آخر الشهر حتى يكون قد بلغ غاية النقص، فقد شبهه كتاب الله في هذه الحالة بالعنقود اليابس من الرطب إذا تقوس وانحنى وأصبح عتيقا، وذلك قوله تعالى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، والعرجون من " الانعراج " وهو الانعطاف.
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن النواميس الثابتة والسنن المنتظمة، التي يسير بمقتضاها كل جزء من أجزاء الكون، دون خلل ولا اضطراب، حتى لا يعترض أحدها طريق الآخر، فقال تعالى ممثلا بالشمس والقمر والليل والنهار:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، وسيأتي في سورة الملك ما يؤكد نفس المعنى ويزيده
إشراقا وتألقا، لكن من زاوية أخرى، حيث قال تعالى (4: 3): {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} ، أي: من شقوق وثغرات، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} .
وقوله تعالى: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، ينصب معناه على الآية الكونية الأولى والآية الكونية الثانية، فهو تعقيب على ما سبقه، وتمهيد لما لحقه، إذ المراد به تنبيه كل غافل أو متغافل، وكل جاهل أو متجاهل، إلى أن هذا التنظيم الدقيق للكون، الملائم في كلياته وجزئياته لحياة الإنسان، والمنسجم مع فطرته وطبيعته، والضامن لمنفعته ومصلحته، إنما هو من صنع الله وحسن تدبيره، ولولا فضل الله على الإنسان ورحمته به لما تمكن من الانتفاع به، ولعجز عن تسخيره.
وأما الآية الكونية الثالثة التي وردت في نهاية هذا السياق فهي آية البحر وتسخير مياهه لجري السفن وحمل الإنسان، ونقل البضائع والأمتعة على وجه التبادل والتجارة من مكان إلى مكان، بحيث أصبح البحر هو الطريق الممهد والمطروق بين القارات، والفلك التي تمخر فيه أداة الاتصال المباشر بين مختلف الأجناس والسلالات، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} ، أي: لا مغيث يغيثهم، {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} ، وسبق في سورة النحل قوله تعالى (14): {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ
فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وسيأتي في سورة الجاثية، قوله تعالى (12):{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وكلمة " الذرية " هنا تصدق على الأبناء والآباء، لأن من الآباء تذرأ الأبناء، و"الفلك المشحون"، حمله بعض المفسرين على "سفينة نوح" التي كانت أول سفينة من نوعها، وكانت سفينة النجاة لنوح ومن حمل معه من ذرية آدم {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (17: 3)، وطبقا لهذا التفسير يكون وصف "الفلك" بالمشحون، لأن نوحا "شحن" فيه من كل زوجين اثنين، إبقاء على جملة من الكائنات الحية، حتى لا تتعرض للإبادة والفناء بفعل الطوفان، ولفظ " الفلك"، يستعمل في كتاب الله أحيانا بصفته مفردا كما جاء في هذه الآية، وأحيانا بصفته جمعا كما جاء في قوله تعالى (14: 16)، {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} ، الآية.
والمراد بقوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} ما ألهمه الله للبشر من بناء السفن الصغرى والكبرى لركوبهم لجج البحر، انطلاقا من سفينة نوح التي كانت بالنسبة للأوائل سفينة نموذجية، وفي هذه الآية تنبؤ صريح بما سيهتدي إليه الإنسان من بناء البواخر والبوارج التي تمخر البحار، وإيذان من الله بما سيظهر من طائرات الجو وسفن الفضاء، التي يمتطيها الإنسان في الليل والنهار، فهي وما شابهها تندرج كلها تحت قوله تعالى:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} ، والتعبير فيه بصيغة الماضي:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ} ، حق وصدق، لأن الله تعالى يعلم ما كان وما سيكون.
وبعد أن استعرض كتاب الله جملة من آيات الله في الآفاق والأنفس، عسى أن يهتدي بحكمتها الضالون، ويستيقظ بعظمتها الغافلون، عاد كتاب الله إلى وصف حياة هذا النوع من البشر، الذي استولى عليه الشك والخور، والقلق والضجر، فلم يعد يصغي بسمعه إلى أي مقال، وإذا عرض عليه الحق قابله بالإعراض واشتط في الجدال، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، أي: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} ، سواء كانت الآية من الآيات المبثوثة في الكون العظيم، أو من الآيات الواردة في الذكر الحكيم، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، أي: على الفقراء والمحتاجين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، ناسين أن المال الذي بأيديهم هو مال الله، وإنما استخلفهم فيه، وفيه حق معلوم، للسائل والمحروم.
ثم بين كتاب الله ما هم عليه من شك في البعث، واستهزاء بالوعد والوعيد، وأكد الحق سبحانه وتعالى لمن في قلبه أدنى شك أن كل آت قريب وليس ببعيد، فقال تعالى:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ} ، أي: ما ينتظرون، {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} ، أي: يختصمون {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} .
وكشف كتاب الله الستار عن هول المفاجأة التي تبهرهم،
وتهز كيانهم، فقال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} ، أي: من القبور، {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ، وردا على سؤالهم يقال لهم:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} .
وللتذكير بقدرة الله القاهر فوق عباده، قال تعالى:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ، كما قال تعالى في أوائل هذا الربع:{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ، وللتذكير بعدل الله المطلق بالنسبة للعاصي والمطيع والمؤمن والكافر، قوله تعالى:{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وخُتم هذا الربع بالحديث عن أصحاب الجنة المكرمين، وما هم عليه وأزواجهم من نعيم مقيم، فقال تعالى:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} ، أي: مسرورون مغتبطون بتخطي الأهوال، وتجاوز الأخطار، وجواز الصراط، وضيافة الله لهم في الجنة، {فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} ، أي: ما يتمنونه ويطلبونه يأتيهم، {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، أي: يدخل عليهم الملآئكة بالتحية من رب العالمين، بينما المجرمون يذوقون ألوان العذاب الأليم، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .