المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٥

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الروم

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة لقمان

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة السجدة

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة سبأ

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فاطر

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يس

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌لربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الصافات

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة ص

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزمر

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة غافر

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فصلت

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشورى

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزخرف

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الدخان

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجاثية

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

موعدنا في هذه الحصة مع الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} إلى قوله تعالى في ختام سورة السجدة: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}

ــ

في بداية هذا الربع خاطب الحق سبحانه وتعالى رسوله الأمين، آمرا له أن ينذر الذين كفروا بلقاء الله، بأنهم مهما ترددوا، وعاندوا وتمردوا، فلن يفلتوا من قبضة الله، الذي خلق الموت والحياة، وأنهم في النهاية راجعون إليه، وواقفون وقفة الذلة والضراعة بين يديه، ووقتئذ يُصَدِّقُ الخُبْرُ الخَبَرَ، ولا يبقى مجال لما اعتادوا التفوه به من الهراء والهذر، أما ما يعبرون عنه بعد فوات الوقت من مظاهر الإيمان والندم، فلا عبرة به، لأنه بمنزلة العدم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا

ص: 83

نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}، ومعنى {يَتَوَفَّاكُمْ} سيتوفى روحكم وينتزعها من الجسم، فتنتقل إلى عالم الأرواح، ومعنى {وُكِّلَ بِكُمْ} أن ملك الموت لا يغفل عنكم، فإذا جاء أجلكم لا يؤخركم لحظة واحدة، ومعنى {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} أنهم يكونون مطأطئي الرؤوس من الذل والخزي الذي يلحقهم، والندم والغم الذي يصيبهم، ومعنى {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، أي: عند محاسبة ربهم لهم على كفرهم بلقاء الله، ومعنى قوله:{إِنَّا مُوقِنُونَ} ، أي: زالت عنا الشكوك الآن، وآمنا بالبعث الذي كنا ننكره، وقبض الروح وتوفي الأنفس مرده في الحقيقة إلى الله سبحانه، مصداقا لقوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42)، وقوله تعالى:{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} (الجاثية26)، وقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (الملك: 2)، وينسب (التوفى) مجازا إلى الملائكة عموما، كما في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام: 61)، وإلى ملك الموت خصوصا، كما في آية هذا الربع:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} ، إشارة إلى أن الملائكة يتولون قبض الأرواح بأمر الله.

وجوابا عما قد يدور في الأذهان، أو يجري على اللسان، لماذا وجد الضال إلى جانب المهتدى، والفاجر إلى جانب المتقى، والكافر إلى جانب المؤمن، والشقي إلى جانب السعيد، قال تعالى في نفس السياق:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ، أي لو أراد الله أن يخلق الإنسان على نمط الملائكة

ص: 84

المسخرين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لتمت كلمته، وتحققت إرادته، لكن الله تعالى شاءت حكمته أن يخلق الإنسان حرا مختارا، وأن يجهزه بملكات وطاقات يستطيع أن يستعملها في الخير أو الشر، وتبعا لما آتاه من حرية واختيار وضع على عاتقه أمانة التكليف، وحدد له المنهج الذي يتبعه في حياته دون زيغ ولا تحريف، فكان بذلك مسؤولا عن تصرفاته، لكونه شخصية حرة مدبرة، لا آلة صماء مسخرة، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى:(8: 91): {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ، وقوله تعالى في آية ثانية:{فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17)، وقوله تعالى في آية ثالثة:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 28)، وكما قال تعالى هنا:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ، وقال تعالى فيما سبق في سورة (الأنعام: 35)، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} ، وقال تعالى فيما سبق من سورة (يونس: 99)، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} .

وقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، إشارة إلى مصير الذين اختاروا الضلالة على الهدى والكفر على الإيمان، من عصاة الجن والأنس، وأنهم سيلقون ما يستحقونه من العقاب.

وانتقل كتاب الله إلى مخاطبة المكذبين بلقائه وباليوم الآخر، فأخبرهم أن الله تعالى سيعاملهم في الآخرة بالإهمال، فلا

ص: 85

يمن عليهم بعفوه ورحمته، ولا بدخول جنته، جزاء إهمالهم في الدنيا لعبادته وطاعته، وإصرارهم على متابعة الباطل بدلا من اتباع هدايته، وذلك معنى قوله تعالى هنا (على وجه المقابلة):{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

وكما يستعمل (الذوق) في الإحساس بالمطعوم يستعمل فيما تحس به النفس من مختلف الإحساسات وإن لم يكن شيئا مطعوما، ومن الاستعمال الثاني قوله تعالى هنا: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ

وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ}، وقوله في آية أخرى:{فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} ، و (عذاب الخلد)، هو العذاب الدائم الذي لا ينقطع.

وبعدما تحدث كتاب الله عن الفئة الغافلة المستكبرة، المصرة على التمسك بضلالها وإهمالها، أخذ يتحدث عن الفئة الواعية المؤمنة، الخاشعة لله، التي لا تفارقها خشية الله في جميع اللحظات، فوصفها بأن سماعها لكلام الله يزيدها هدى وإيمانا، فلا تلبث أن تخر ساجدة لجلاله وجماله، وتسبح في تهجدها بحمده وكماله، وإذا نامت فإنها لا تستغرق في النوم، بل تظل قلقة في مضاجعها بين الخوف والرجاء، ويهجم عليها الأرق ما بين فترة وأخرى، فتجد راحتها في التوجه إلى الله بالدعاء وعقد النية على التوجه إلى الخلق بالرفد والعطاء، وذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} على غرار قوله

ص: 86

تعالى فيما سيأتي من سورة الذاريات (17 - 19): {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .

وعقب كتاب الله على ذلك بالكشف عما أعده الله للصالحين من عباده في دار النعيم، فتقربه أعينهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك قوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

ونبه كتاب الله إلى الفرق الشاسع بين الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وأنهما لا يستويان أبدا، ولذلك كان جزاء كل واحد منهما مناقضا للآخر، لا متماثلا ولا متحدا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} و (النزل) ما يهيأ للضيف النازل عند وصوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .

ثم عرفنا كتاب الله بأن عذاب الله الذي يسلطه على الكفار والعصاة من خلقه، لتأديبهم وعقابهم، نوعان: النوع الأول (العذاب الأدنى) وهو الأصغر، والنوع الثاني (العذاب الأبعد) وهو الأكبر، أما (العذاب الأدنى) فهو عذاب الدنيا، ويصدق بالمصائب والأسقام التي يبتلى بها الخلق، تأديبا لهم، حتى يتوبوا إلى الله ويرجعوا

ص: 87

إلى صراطه المستقيم، ومما يندرج في هذا النوع من العذاب حدود الجرائم والقتل، والأسر في الحرب، والقحط والغلاء، واضطراب حبل الأمن في السلم، وأما (العذاب الأبعد) فهو عذاب الآخرة بشدائده وأهواله، على اختلاف أصنافه وأحواله، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} ، وهو العذاب الأصغر {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} ، وهو العذاب الأبعد {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، فإن أفاد الأول في التأديب، لم تبق حاجة إلى ما فوقه من أنواع التعذيب، ومن لطائف التفسير ما نبه إليه فخر الدين الرازي في هذه الآية، من أن وصف عذاب الدنيا بكونه (قريبا) هو الذي يصلح للتخويف والإنذار، لا كونه صغيرا، لأن العذاب العاجل - وإن كان قليلا - يحترز منه الناس أكثر مما يحترزون من العذاب الشديد إذا كان آجلا، ووصف عذاب الآخرة بكونه (كبيرا وعظيما) هو الذي يصلح للتخويف والإنذار، لا كونه بعيدا، فاختار كتاب الله في كلا العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف بهما، بدلا من مقابلهما غير المناسب، ولذلك قال في عذاب الدنيا:{الْعَذَابِ الْأَدْنَى} ، ولم يقل العذاب الأصغر، وقال في عذاب الآخرة:{الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} ، ولم يقل العذاب الأبعد.

وعقَّب كتاب الله على ما ذكره من وصف أحوال الفريقين ووصف مصيرهما في الدار الآخرة، بأنه لا ظالم لنفسه أظلم ممن عرض عليه كتاب الله، الذي فيه أهدى الهدى، وأحكم الحكمة، وشفاء الصدور من الشك والغم ومنتهى الرحمة، وبدلا من أن

ص: 88

يُقبِل عليه إقبال الظمآن على الماء يعرض عن آياته دون خجل ولا استحياء، وذلك، قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} .

وعاد كتاب الله مرة أخرى إلى مخاطبة خاتم أنبيائه ورسله، مذكرا إياه، بأنه كما أنزل على موسى التوراة أنزل عليه الذكر الحكيم، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (48: 5)، وكما لاقى موسى العنت من فرعون وملئه، ومن بني إسرائيل أنفسهم، دون أن يتراجع أو يتقهقر، فإن خاتم الأنبياء والرسل لن يضيق ذرعا بما سيلقاه من عنت المشركين والكافرين، وكما اختار الحق سبحانه من بين ذرية موسى وقومه أئمة يهدونهم بين الفترة والأخرى، فسيختار من الأمة المحمدية أئمة عدولا يحملون هذا الدين، ويبلغونه للعالمين، ويجددون شبابه كلما احتاج للتجديد إلى يوم الدين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، وهذا الصبر نوعان: صبر على حمل الدين وممارسته بكل ثبات ويقين، وصبر على تحمل الأذى في سبيل حمله وتبليغه والدفاع عنه ضد هجمات المدعين والمبتدعين، وبالصبر مع العلم واليقين، تنال الإمامة في الدين.

ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، إشارة إلى أن القول الفصل فيما بين البشر من نزاعات واختلافات حول العقائد والأديان، والحكم العدل فيها

ص: 89

وفي غيرها من شؤون الإنسان، سيصدر عن رب العالمين وأحكم الحاكمين، عندما يجمع الناس ليوم لا ريب فيه وطبقا لقوله الفصل الصادر في شأنهم، وحكمه العدل، المقضي به لهم أوعليهم، يلتحقون بدار الجحيم، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49: 18).

ووجه كتاب الله بعد ذلك أنظار الجاحدين والمكذبين إلى الاعتبار ب آيتين من آياته الكونية البارزة: الأولى آية يتجلى فيها مبلغ غضب الله ونقمته، والثانية آية يتجلى فيها مبلغ إحسانه ونعمته، أما الآية الكونية الأولى فيتضمنها قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} ، وأما الآية الكونية الثانية فيتضمنهما قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} .

وفي الآية الأولى إشارة إلى ما يتعرض له خصوم الرسالات الإلهية من هلاك، وما تتعرض له مساكنهم من تدمير، عندما لا يرجى لهم صلاح، وتذكير بأخبار القرى البائدة والقرون الخالية المتواترة، التي يتناقلها جيل عن جيل، فما بالهم لا يعتبرون بها بعد سماعها ويعودون إلى حظيرة الحق؟.

وفي الآية الثانية إشارة (إلى الماء الذي يسوقه الله إلى الأرض اليابسة التي لا تنبت، من السيول والأمطار، والعيون والأنهار، فلا تلبث أن تهتز وتربو، وتؤتي أكلها لخير الإنسان والحيوان، فما بالهم لا يعتبرون بها وهم يرون رأي العين أثر

ص: 90

رحمة الله، المهداة إلى كافة الخلق؟.

وكما قال تعالى هنا: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} ، بتقديم ذكر الأنعام على الأنفس، قال تعالى فيما سبق من سورة الفرقان (49):{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} ، ولعل في ذلك إشارة إلى أن الإنعام على الأنعام بالسقي من الماء، والأكل من الزرع، هو في الحقيقة إنعام من الله على الإنسان نفسه، لما للإنسان في الأنعام من منافع ومصالح لا تستقيم حياته بدونها.

وعلق أبو حيان على قوله تعالى هنا: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} ، فقال: خص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله بالماء أنواعا كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره، تشريفا للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع (الزرع) موقع النبات، وقدمت الأنعام، لأن ما ينبت تأكله الأنعام أولا بأول، قبل أن يأكل بنو آدم الحب).

ووصف كتاب الله لونا من ألوان السخرية والاستهزاء التي كان يلجأ إليها الجاحدون والمكذبون، متسائلين عن الساعة واليوم الآخر:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، والمراد (بالفتح) هنا الفصل والقضاء، والحكم الأخير الذي يقع يوم القيامة، وهو (يوم الفتح)، ثم رد عليهم كتاب الله قائلا:{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، مؤكدا بذلك أن من لم يؤمن قبل الموت لا يقبل منه يوم القيامة إيمان ولا

ص: 91

عمل، ولا حق له في أي رجاء أو أمل، وسيأتي في سورة سبأ (26) قوله تعالى:{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} ، أي: يقضي بيننا بالحق، {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} .

قال ابن كثير: (ومن زعم أن المراد من هذا الفتح (فتح مكة) فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح قد قبل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام (الطلقاء) وقد كانوا قريبا من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم، لقوله تعالى:{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .

وحرصا على كرامة الرسول الأعظم من سفه السفهاء وجدلهم الفارغ، دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى الإعراض عنهم عندما يقوم بتبليغ الرسالة، ماداموا لا يبحثون عن الحق، وإنما يجادلون من أجل الباطل، كما دعاه إلى ملازمة الصبر، في انتظار النصر. وكما ينتظر الرسول والمؤمنون معه نصر الله، ينتظر الكافرون والجاحدون عذاب الله، وذلك قوله تعالى في ختام سورة السجدة المكية ونهاية هذا الربع، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} .

ص: 92