الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ، إلى قوله تعالى جل علاه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
ــ
في بداية هذا الربع يتولى كتاب الله وصف دعاة الباطل وقرنائهم، ودعاة الحق وأوليائهم، بما يوضح سماتهم للناس جميعا في جميع العصور:
أما دعاة الباطل فمن شأنهم إغواء الخلق، وإغراؤهم على مقاومة الحق، وهم معتزون بالباطل الذي هم عليه، مصرون على التمسك به، لا يحاولون أن يعيدوا فيه النظر، ولا أن يستبدلوا به غيره أبدا، وبحكم الغواية التي اختاروا طريقها لا يجدون لهم أي أنس أو متعة في الحياة، إلا في معاشرة قرناء السوء ومتابعتهم، والثقة بوساوسهم في جميع الشؤون.
والشأن في (قرناء السوء) تشجيع قرينهم على الاندفاع في
طريق الباطل، وإعانته على إعداد مشاريع السوء بالنسبة للحاضر والمستقبل، وتزيين جميع ما قام به في الماضي من الأعمال والمساعي المنكرة، واستحسانها ولو بلغت أقصى غاية في الانحراف والشذوذ، فهم لا يقدمون لقرينهم أي نصح، ولا ينيرون له أي طريق من طرق الخير، وإنما يزيدونه خبالا في الفكر، وعماءً في البصيرة، إلى أن يسقط في مهاوي الهلاك، وتحق عليه كلمة العذاب، وذلك قوله تعالى:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى (112:6): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} .
وفي نفس هذا السياق جاء كتاب الله بنموذج حي يوضح طريقة دعاة الباطل وقرناء السوء الملازمين لهم، ونوع الدعوات الضالة التي يقومون بها، وينشرونها بين الناس، فقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ، فهاهم أولاء يدعون الناس لأن يقفلوا آذانهم عن سماع القرآن، أي يدعونهم لمقابلته بالإعراض والإهمال، والعناد وعدم الانقياد، إذ من شأن الإنسان متى أصغى إلى الحق، واستمع إليه بانتباه وروية، أن يتمعن ويتدبر ويتأثر، فإذا لم يستمع إليه كان بنجوة من تأثير الدعوة، وفي مأمن من مفعولها المنتظر، في أغلب الأحيان.
ثم هاهم أولاء يدعون الناس إذا اخترق القرآن أسماعهم ونفذ إليها بالرغم عنهم، أن يلغوا فيه، ومعنى (اللغو) فيه: افتعال الضجيج والصفير والمكاء والتخليط، ومواجهته بالتعييب، والتشكيك، ومقابلته بالجحود والإنكار.
ولقد كانت هذه الطريقة، التي كشف كتاب الله عنها الستار، ولا تزال هي الطريقة التقليدية التي يتبعها دعاة الباطل وقرناؤهم لمحاربة أهل الحق، ومقاومة دعوتهم في كل زمان ومكان، فهم يأمرون أتباعهم المضللين بالابتعاد عن دعاة الحق، وبتفادي الاحتكاك بهم، وعدم غشيان مجالسهم، فإذا أخذت دعوة أهل الحق في الانتشار، رغما عنهم، تصدوا لها بالنقض والتشكيك والمهاترات، وعملوا بكل الوسائل على خنقها وإغراقها في بحر لجي من أمواج الباطل المتراكمة، لعلهم يغلبون الحق عن طريق الباطل، لكن الحق سبحانه وتعالى يتولى دعاة الباطل وقرناءهم، من الكفار فمن دونهم، بما هم أهل له من الخذلان والعقاب والعذاب، وذلك قوله تعالى في نفس السياق:{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، أي: أنه تعالى سيجزيهم بشر أفعالهم، وسيء أعمالهم. وبعدما يصفهم كتاب الله بأنهم (أعداء الله) يواصل الحديث عن الجزاء الذي ينتظرهم، {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} .
ثم يشير كتاب الله إلى الحيرة والحسرة التي يكون عليها دعاة الباطل، من الكفر فما دونه، في دار العذاب، إذ يتساءلون
في جهنم عن قرنائهم الذين أعانوهم على الضلال، ضارعين إلى الله أن يريهم مكانهم في جهنم، متمنين على الله أن يكون أولئك القرناء أشد منهم عذابا، بل تحت أقدامهم في الدرك الأسفل من النار، لأنهم زينوا لهم أعمالهم، وأضلوهم ولم ينصحوهم، وذلك قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} . ونقل ابن كثير في تفسيره عن علي بن أي طالب رضي الله عنه أن معنى {اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} ، الوارد في هذه الآية بصيغة المثنى: إبليس من جهة، وابن آدم الذي قتل أخاه من جهة أخرى، واسمه قابيل، فإبليس يدعو بدعوته كل صاحب شرك، وابن آدم القاتل لأخيه يدعو بدعوته كل مرتكب كبيرة، وثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل).
وأما دعاة الحق فمن شأنهم الإيمان بالله، والاستقامة على هداه، والثبات على شرائط الإيمان بجملتها، دون الإخلال بأي شيء منها، وضرب المثل الصالح لغيرهم، بممارسة الأعمال الصالحة، والدعوة إلى الله دون انقطاع، وهم لا يعتزون بغير الإسلام، ولا ينتمون إلى ما سواه من المذاهب والأقوام، ولا يلتزمون نحو غيره بأي التزام، وفي سبيل الدعوة التي يقومون بها ويمارسونها يتحملون الأذى بصدر رحب، فلا يقابلون الإساءة بمثلها، وإنما يدفعون الإساءة بالإحسان، وإن كانوا أبعد الناس عن وصف
الضعف والهوان، وبذلك يؤثرون على النفوس الجامحة، فتسلس لهم قيادها، وتعود إلى رشدها، وذلك قوله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية:(أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم)، وقال عمر بن الخطاب:(ما عاقبت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه) ومعنى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن، فإذا أساء إليك أحد كانت (الحسنة) أن تعفو عنه ولا تعامله بالمثل، (والتي هي أحسن): أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، ومعنى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}: أنك إذا فعلت ذلك صافاك عدوي واقترب منك، وأشبه الولي الحميم، وهذا لا يستلزم أن يصير وليا مخلصا بالمرة، ومعنى قوله:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} ما يلقى هذه الخصلة ويقوم بحقها، أو ما يمتثل هذه الوصية ويعمل بها- وهي مقابلة الإساءة بالإحسان- إلا من تعود على الصبر في معاناة الخلق، على غرار قوله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (43: 42) ومعنى {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} : ما يلقاها إلا ذو نصيب وافر من الخير والتوفيق.
وكما تحدث كتاب الله فيما سبق عن قرناء السوء الذين يزينون لدعاة الباطل أعمالهم، والذين يوحون إليهم بمحاربة الحق وأهله، وبين موقف بعضهم من بعض في الدنيا والآخرة، تحدث كتاب الله أيضا عن (أولياء) أهل الحق، الذين يثبتون قلوبهم، ويسددون خطواتهم، ويعينونهم على التزام الحق، والدعوة إليه، وتحمل الأذى في سبيله، حتى لا يحزنوا ولا يخافوا، وبين كتاب الله أن هؤلاء الأولياء الذين يتولون دعاة الحق في الدنيا والآخرة هم من الملائكة المقربين، وأنهم يتنزلون عليهم، ويكونون بجانبهم في مختلف المواقف، ولا سيما في المواقف الحرجة التي قد تزل فيها الأقدام، وذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ، أي: مهما طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم كما اخترتم {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} ، أي: ضيافة وعطاء من غفور لذنوبكم، رحيم بكم، قال زيد بن أسلم في تفسير قوله تعالى:{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ، أنهم يبشرون الداعي إلى الله عند موته، وفي قبره، وحين يبعث. قال ابن كثير:(وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدا).