الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب السابع والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
يتناول حديث اليوم تفسير الربع الثاني من الحزب السابع والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} ، إلى قوله تعالى في ختام سورة الزمر المكية:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ــ
في مطلع هذا الربع تتناول الآيات البينات وصف عدة أصناف من أهل الزيغ والضلال، فتسجل ما كانوا عليه من سوء الحال في الدنيا، وتتنبأ بما سيتعللون به من أتفه الأسباب والعلل في الدار الآخرة، فمنهم الساخر المستهزئ الذي كان يتهكم على الوحي والرسالة والإيمان، ويعتبر الحياة التي يقضيها مجرد مهزلة ومسخرة، بحيث لا يلزم التفكير فيما وراءها، ولا الاستعداد لما بعدها. ومنهم الفاسق الغارق في أوحال الفسق، والمتردي في مهاوي الفساد طيلة حياته، دون أن يحاول إصلاح حاله، فضلا عن أن يفكر في مصيره، ومنهم المسيء إلى نفسه وإلى الناس، المتجني على شخصه وعلى المجتمع، دون أن يفكر في اكتساب
حسنة أو إسداء إحسان، حتى إذا فارقوا الدنيا وأتاهم اليقين أخذوا يعضون بنان الندم، ويحاولون أن يبرروا أمام أنفسهم وأمام الله مواقفهم الشاذة، وأعمالهم المنكرة.
فالساخر المتهكم يدرك حينئذ أن الأمر أمر جد لا هزل، ويتيقن أنه قد فرط في حق الله، فتذهب نفسه حسرات، ويقول فيما تحكي عنه الآية:{يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، لكن ماذا تنفعه الحسرة، وماذا يجديه الاعتراف بعد فوات الإبان؟.
والفاسق الذي أحاطت به سيآته من كل جانب يحاول أن يجد له تكأة يتكئ عليها في عقيدة " الجبرية والقدرية " فيقول فيما تحكي عنه الآية: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، وهذه تعلة كافة الفساق والمنحرفين، في جميع العصور والأزمان، كأن الله لم يبعث الرسل، وكأنه لم يمنح للناس جميعا ملكة العقل والتمييز، - وهي الميزان الذي يزنون به حقائق الأشياء-، ووحي الوجدان والضمير، ليختاروا طريق الهدى، ويتجنبوا طريق الضلال، " وهديناه النجدين ".
والمسيء الذي لم يعرف في حياته طريق الحسنة والعمل الصالح، ولم يتمتع أبدا بلذة الإحسان والبر، يتمنى العودة إلى الدنيا ليدارك ما فات، وهيهات هيهات، فيقول فيما تحكي عنه الآية:{لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
وأمنية العودة إلى الدنيا بعد الإقامة في دار العذاب هي
أمنية جميع المسيئين، الذين يظلون طيلة حياتهم سكارى بعبادة أنفسهم وشهواتهم، حتى إذا ما حلوا بدار الجزاء ندموا على ما ضيعوا من الفرص في دار العمل، فالواجب على كل إنسان عاقل أن يبادر لاستثمار وقته- مادام في الحياة الدنيا- استثمارا جديا، يضمن له الأمن والنعيم، عندما ينتقل إلى الدار الآخرة، وذلك بإتباع النهج القويم، الذي رسمه لله لسلوك الصالحين من عباده، وبالتنازل عن مرضاة النفس الأمارة بالسوء، في سبيل مرضاة الله ورسوله، وإلى هذه المعاني وما يتصل بها يشير قوله تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
وردا على أولئك المترددين الضالين، المتعللين بالعلل الفارغة، والمتمنين للأماني الكاذبة، يقول الحق سبحانه وتعالى:{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} ، وهذا خطاب لمن كان يسخر من دين الله، {وَاسْتَكْبَرْتَ} ، وهذا خطاب لمن كان ينتهك حرمات الله ويتعدى حدوده، {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، وهذا خطاب لمن لم يشكر نعمة الله عليه، فاستعملها في السيئات دون الحسنات، وفي الإساءة دون الإحسان.
ثم تنتقل الآيات الكريمة إلى وصف الحالة التي يكون
عليها أهل النار، والحالة التي يكون عليها أهل الجنة، فالذين كذبوا على الله وكفروا به وافتروا عليه بما خيلت لهم أوهامهم الفاسدة، وعقولهم الضالة، سينالهم من عذاب الله وعقابه، ما يجعلهم عبرة لمن اعتبر، وسينالهم من التقريع والتوبيخ في دار العذاب، والاستجواب والحساب، ما ينكس رؤوسهم، ويخجل كبرياءهم.
أما أهل النار فقد جاء وصفهم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} ، وقوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} ، وقوله تعالى:{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
ومما تجب ملاحظته في هذا المقام ما ورد فيه من التأكيد في وصف أهل النار بصفة " التكبر "، فقد وصفوا به في هذا الربع مرتين متتاليتين، المرة الأولى في قوله تعالى:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} ، والمرة الثانية في قوله تعالى:{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . والسر في ذلك أن خصلة " الكبر " وممارسة " التكبر " - مما يعتاده ضعفاء النفوس وسخفاء العقول- هي أكبر سبب في ضلال الضالين، وسخرية الساخرين، وأكبر حافز للكافرين والفاسقين على تحدي الحق المبين، ومن لم تصبه عاهة " الكبر " كان أسرع إلى قبول النصيحة فور سماعها، وإلى اتباع الهداية بمجرد إشراق نورها.
وأما أهل الجنة الفائزون فقد جاء في وصفهم قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وقوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، ثم يصف كتاب الله كيف تكون ارتسامات أهل الجنة وانطباعاتهم، لأول حلولهم بدار النعيم، فيقول حاكيا على لسانهم:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .
وقوله تعالى في هذا السياق: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} ، أي: طابت أعمالكم وأقوالكم، وطاب سعيكم وجزاؤكم، كما في تفسير ابن كثير.
وقوله تعالى على لسان أهل الجنة عند حلولهم بها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} ، ينظر إلى قوله تعالى في آية أخرى حاكيا الدعاء الذي كان يجري على ألسنتهم في الدنيا:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
وقوله تعالى على لسان أهل الجنة: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} ، المراد بالأرض هنا أرض الجنة نفسها، كما فسر ذلك أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وابن زيد، بدليل قول أهل الجنة مباشرة بعد ذلك فيما تحكيه الآية عنهم:{نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ،
أي حيث شئنا حللنا، فنعم الأجر أجرنا، وبمثل هذا المعنى فسر ابن كثير قوله تعالى في الآية الأخرى (105: 2): {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، فالأرض التي يرثها الصالحون من عباده إرثا خالدا مؤبدا هي أرض الجنة، لا هذه الأرض التي يعيش الإنسان على ظهرها إلى الوقت المعلوم، والتي يشير إليها قوله تعالى (25: 30): {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} .
وقوله تعالى بعد فصل القضاء في مصير الكافرين والمتقين: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ، تصوير للحالة التي يكون عليها الملائكة وهم محدقون بالعرش، من الطمأنينة والارتياح، عندما يرون كل فريق قد نال جزاءه العادل، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (7: 42)، فتنطلق ألسنتهم بحمد الله وتقديسه وتنزيهه، إذ هو الحكم العدل الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة.
وقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} ، الضمير هنا إما أن يعود على أقرب مذكور، وهو لفظ {الْمَلَائِكَةَ} ، بمعنى أن الملائكة يتفاضلون أيضا في الثواب، نظرا لتفاضل مراتبهم وتفاضل أعمالهم، وذلك هو القضاء بينهم بالحق، وإما أن يعود الضمير على العباد كلهم والخلائق بأجمعهم، ويكون القضاء بينهم بالحق هو إدخال بعضهم النار، وإدخال بعضهم الجنة.
وختم هذا الربع بقوله تعالى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ}، وقد فسره ابن كثير على وجه طريف يعد من لطائف التفسير فقال: " أي نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، بالحمد لله رب العالمين، في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شهدت لله بالحمد، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .