الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم تتناول الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة غافر المكية:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، إلى قوله جل علاه في سورة فصلت المكية أيضا:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
ــ
في هذا الربع يتجدد الحديث عن جملة من الحقائق الإيمانية، تثبيتا لها في النفوس، وتركيزا لها في العقول:
من جملتها قصة حياة الإنسان، ووصف نشأته الأولى وتطوره في مختلف الأطوار.
ومن جملتها وصف حالة الأنبياء والرسل، وما يعترض طريقهم من العقبات، وما يلزمهم في سبيل إبلاغ الرسالة الإلهية من العزم والثبات والصبر، وما يؤول إليه أمرهم من الفوز والغلبة والنصر.
ومن جملتها ما يحل بساحة المعاندين الذين يجادلون في آيات الله ويتحدون رسله، من الهلاك والدمار في دار الدنيا، وما
يحاولونه في آخر ساعة من تدارك للإيمان، بعد فوات الأوان، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} .
ومن جملتها ما ينتظر المكذبين بالله وكتبه ورسله من الوعيد الشديد في الدار الآخرة، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} .
وأول آية من هذا الربع هي خطاب من الله تعالى لنبيه يلقن فيها رسوله كيف ينبغي له أن يرد على المشركين، مسفها سعيهم لحمله على مهادنة الشرك وعدم التعرض لعبادة الأصنام والأوثان، وقاطعا لهم كل أمل في الإبقاء على المعتقدات الزائغة التي يدينون بها، والتقاليد الزائفة التي يقدسونها، وهذه الآية تتضمن في نفس الوقت بيان السبب الرئيسي الذي من أجله أشهر الرسول عليه الصلاة والسلام حربا شعواء على الشرك والمشركين، فقد أنزل الله عليه من البينات الصارخة، والحجج القارعة، منذ اختاره رسولا إلى العالمين، ما يهدم صروح الشرك، ويدك قلاع المشركين، وقد أمره الله أن يحرر البشرية كلها من أغلال الشرك بالله، وأن يعيدها إلى فطرتها الأولى، وهي الإسلام والاستسلام لله، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (30: 30)، وذلك قوله تعالى مخاطبا لنبيه وملقنا:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وتأتي آية أخرى تذكر الغافلين من بني الإنسان- وما
أكثرهم- بما لله من أسرار وآثار في نشأتهم الأولى ونشأتهم الآخرة، وما يتقلبون فيه من حالات وأطوار، قبل خروجهم من بطون أمهاتهم وحلولهم بهذه الدار، إذ إنهم على الرغم من مشاهدتهم لقصة الحياة والموت على مر الأيام، وعلى الرغم من عجزهم البالغ أمام هذه القصة السرمدية، المتكررة في كل لحظة وثانية، وعلى الرغم من جهلهم الفاضح بأسرارها وأطوارها، وبدايتها ونهايتها، لا يتذكرون ولا يعتبرون، وفي آيات الله البارزة، وحججه البالغة، لا يزالون يجادلون، وذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} .
وقوله تعالى في نفس هذه الآية: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بعد قوله: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} وقبل قوله: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فيه إشارة صريحة إلى أن الإنسان متى فكر في مراحل نشأته وحياته وموته بعقل يقظ، وبصيرة نافذة، عرف الله حق المعرفة، وآمن به حق الإيمان، وأحس من أعماق قلبه أنه عاجز أمام القوة الإلهية لا يستطيع لتصرفها ردا ولا دفعا، وأنه مدين لها بكل ملكاته وجوارحه، وبجميع النعم التي يتقلب فيها، وأن الله قد أحسن إليه وفيه صنعا.
وفي هذا الربع آية كريمة لا بد من الوقوف عندها وقفة
خاصة، ذلك أن طائفة كبيرة من الناس بلغ بها الكبر والأنانية إلى حد أن تستغرق حياتها في المتع واللذات، وتستنفذ طاقتها في الجري وراء الشهوات، فهي لا تفكر في الليل أو النهار، إلا في قضاء ما لذ وطاب من مختلف الأوطار، ناسية ما وراء ذلك من الواجبات والتبعات، والحقوق التي عليها نحو الله ونحو الناس، حتى إذا ما حان حينها، ووافاها الأجل، أدركت أنها لم تتزود بأي زاد، ووجدت رصيدها في حالة يرثى لها من الخسران والإفلاس، وإلى هذه الطائفة التي بلغت الغاية في الغفلة والتغفيل، ومن شابهها من الأنانيين والمتكبرين، يشير قوله تعالى:{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
وأمامنا آية أخرى تعتبر أكبر عدة لدعاة الحق، الصابرين المصابرين من الأنبياء والرسل وأتباعهم الصادقين، ومضمونها الدعوة إلى الثبات على الحق، وإلى التفاني في نشره ونصره، والدفاع عنه مهما كلف من التضحيات والمتاعب، وهي في آن واحد تجديد لعهد الله القاطع، بنصر من نصره، وتأكيد لوعده الصادق، بغلبة أهل الحق وهزيمة أهل الباطل، وهي في نفس الوقت بشارة من الله لجنده، بأنهم سيجنون بعض ثمرات جهدهم وهم على قيد الحياة، وأنهم سيرون انتصار الحق وزهوق الباطل رأي العين، وذلك قوله تعالى في خطابه لنبيه، ولكل من سار على نهجه القويم في حمل الأمانة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}، وكما حقق الله وعده، ونصر جنده فيما مضى، فدان بدينه العرب والعجم، ودخلت فيه عدة شعوب وأمم، فسيحقق وعده فيما يستقبل من الأيام، وسيظهر الله دينه الحق في مشارق الأرض ومغاربها، وسيحفظ (ذكره الحكيم) إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
أما (سورة فصلت المكية) التي تقع بدايتها في آخر هذا الربع، فقد تحدثت آياتها الأولى أولا عن كتاب الله العزيز ونزوله باللسان العربي المبين، والحكمة في نزوله على رسوله الصادق الأمين، وثانيا عن أول موقف وقفه المشركون من كتاب الله، عندما كانت حجب الشرك الغليظة لا تزال تحول بينهم وبين الاهتداء بنوره، وثالثا عن الجواب (الحليم الحكيم) الذي أجابهم به رسول الله وهو يدعوهم إلى الحق، ويتفانى في سبيل هدايتهم وهداية بقية الخلق، ورابعا عرضت نموذجا من (النذارة) التي وجهها القرآن الكريم إلى المشركين ومن سار على نهجهم، ونموذجا من (البشارة)، التي وجهها إلى المؤمنين الأولين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ففيما يخص النقطة الأولى جاء قوله تعالى: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ويبرز (تفصيل آياته) البينات فيما ورد منها في وصف ذات الله وصفاته وعجائب خلقه في الأنفس والآفاق، وفيما ورد في التكاليف المتعلقة بالقلوب
والجوارح، وحقوق العباد، وفيما ورد منها في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار، وفيما ورد منها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفوس والنصائح والمواعظ، وفيما ورد منها في قصص الأولين وتواريخ الماضين، إلى غير ذلك من الموضوعات والمباحث، قال فخر الدين الرازي:(وبالجملة، فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتنوعة مثل ما في القرآن).
وفيما يخص النقطة الثانية جاء قوله تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} ، وصور كتاب الله أروع تصوير رفض المشركين لقبول الحق واعتناقه، وتقززهم من سماعه، والهوة السحيقة التي تفصل بينهم وبين عقيدة التوحيد التي جاء بها الرسول، فقال حكاية عنهم:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} ، مثل قولهم في آية أخرى (88: 2) {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، و (الأكنة) جمع (كنان) وهو الغطاء، و (الغلف) جمع (غلاف) وهو الغشاء، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} ، أي: صمم {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} .
وفيما يخص النقطة الثالثة حكى كتاب الله جواب رسوله لهم متلطفا ومتعطفا، طبقا لمقتضى الحكمة والموعظة الحسنة، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} .
وفيما يخص النقطة الرابعة قال تعالى في كتابه بصفته
(نذيرا): {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} ، وقال تعالى في كتابه بصفته (بشيرا):{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .