الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، ونهايته قوله جل علاه:{وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
ــ
في بداية هذا الربع يؤكد كتاب الله قاعدة أساسية من القواعد التي قام عليها الإسلام، ألا وهي أن الدين الذي بعث الله به الأنبياء والرسل جيلا بعد جيل إنما هو في جوهره دين واحد، متسم بطابع الوحدة والتسلسل عبر القرون، وذلك لأن منبع الدين ومصدر الوحي واحد أزلا وأبدا، وهو الله تعالى الذي خلق الكون وسن لتسييره السنن والنواميس الطبيعية المناسبة، وخلق الإنسان وسن لسلوكه السنن والنواميس الأخلاقية الملائمة، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (54: 7)، وهذه القاعدة الأساسية من قواعد الإسلام هي التي تفسر ما فرضه الله على المسلم من الإيمان بالله وبجميع رسله وجميع كتبه دون تمييز ولا استثناء، حتى أن من كفر برسول
واحد أرسله الله، أو كتاب منزل من عند الله، يعتبر في دين الإسلام كافرا غير مؤمن، فالمسلم يحترم النبوات والرسالات جميعا، والمسلم يؤمن بالكتب المنزلة كلها ما دامت محتفظة بنصها الأصلي، لا يستثنى من ذلك شيئا إلا ما أدخل على نصوصه (تحريف) أو (تأويل سيئ)، مما قام به الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وبفضل هذه العقيدة الأساسية في الإسلام لا يحس المسلم بأي حقد أو عقدة نفسية نحو بقية الأنبياء والرسل، فضلا عن أن ينظر بعين النقص إلى مقامهم الرفيع عند الله، جملة أو تفصيلا.
وكما أكد كتاب الله في هذا السياق معنى الوحدة الاعتقادية والدينية، القائمة بين جميع الأنبياء والرسل، تبعا لوحدة الواحد الأحد، واهب النبوات والرسالات، الذي نبأهم وأرسلهم إلى خلقه، فإنه حض المؤمنين جميعا على حفظ تلك الوحدة الدينية التي تمسك بها الأنبياء والرسل، وأمرهم بصيانتها من عوامل الفرقة والاختلاف.
وهذا التوجيه القرآني- وإن كان موجها بالأصالة إلى المسلمين- فإنه يمكن أن يمتد أثره حتى إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بل إلى نفس المشركين العرب، ما داموا يدعون أنهم من بقايا ملة إبراهيم، فهؤلاء جميعا إذا أنصفوا وراجعوا أنفسهم، وعادوا إلى المنبع الأول والصافي للدين الحق، يلتقون جميعا في نقطة واحدة، ويجتمعون على كلمة سواء، وهي كلمة الإسلام، وذلك قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
قال ابن كثير في تفسيره: {يقول تعالى لهذه الأمة: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام، وهو نوح عليه السلام، وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر مَنْ بينَ ذلك من أولي العزم، وهم إبراهيم وموسى وعيسى، وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة، كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى (7: 33): {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية. والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) وفي الحديث: (نحن معشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد)، أي: أن القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جل جلاله (48: 5): {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، انتهى ما قاله ابن كثير.
وذكر أبو بكر (ابن العربي) المعافري في كتابه (أحكام القرآن) عند تفسيره لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} نبذة مهمة تلقي كثيرا من الأضواء على هذا الموضوع إذ قال: (إن آدم كان أول نبي بغير إشكال، غير أنه لم يكن معه إلا بنوه، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان
ما عنده تنبيها على بعض الأمور، واقتصار على ضرورات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء)، ثم قال ابن العربي:(واستقر المدى إلى نوح، وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب في الديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء صلوات الله عليهم، واحدا بعد واحد، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملتنا، على لسان أكرم الرسل، نبينا صلى الله عليه وسلم، فكان المعنى -أي معنى الآية- أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي: التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنا، وتحريم الإذاية للخلق كيفما كانت، وتحريم الاعتداء على الحيوان كيفما كانت، وتحريم اقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله شرع دينا واحدا، وملة متحدة، لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، أي: اجعلوه قائما، يريد: دائما مستمرا، محفوظا مستقرا، من غير خلاف فيه، ولا اضطراب عليه، فمن الخلق من وفى بذلك، ومنهم من نكث به، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} (10: 48) وختم (ابن العربي) تحليله لهذا الموضوع) قائلا: (واختلفت الشرائع وراء هذا في معان، حسبما أراده الله، مما
اقتضته المصلحة، وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم، والله أعلم).
ثم مضى كتاب الله يبين السر في موقف العناد الذي يقفه المشركون من الرسول عليه السلام، وأنهم فوجئوا بما اختاره الله له من الرسالة دونهم جميعا:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} .
وبينت الآيات الكريمة أن الفرقة التي آل إليها أمر أهل الملل والأديان إنما جاءت بعد العلم بالدين الواحد والملة المتحدة، وأن سبب الفرقة بين الملل ليس نابعا من أصل الدين الصحيح، وإنما هو ناشئ عن تأثير الأغراض والشهوات، التي سيطرت على أتباع الديانات، فالفرقة من صنع الناس لا من وحي الدين، {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ، كما بينت الآيات الكريمة أن الشك الذي يوجد عند (أهل الكتاب) ممن عاصروا عهد الرسالة المحمدية، والحيرة التي تتجلى في مواقفهم المتناقضة من الإسلام، يعود الأمر فيهما إلى ما ورثوه عن أسلافهم في الدين، من خلافات واختلافات، أدت بهم إلى الشك في نفس الكتب التي أنزلت عليهم، نظرا لما أصابها من التحريف والتأويل والتدليس، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} .
ويخاطب الحق سبحانه وتعالى رسوله، محصنا له من أهواء المشركين، وأهل الكتاب المختلفين المتفرقين، داعيا إياه إلى
التمسك بالدعوة، والقيام بحقها، والاستقامة عليها، مذكرا بجوهر الدعوة وأساسها المتين، ألا وهو الإيمان بالله وبكتبه، وإقامة العدل بين خلقه، {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} ، وهذا الخطاب موجه إلى كل مؤمن ومؤمنة، ولا سيما ولاة المسلمين وعلماءهم، وقوله تعالى في نفس السياق:{لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} معناه أننا برآء من كل ما خالف دعوة الإسلام، على غرار قوله تعالى في آية أخرى (41: 10): {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} .
وانتقلت الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن الساعة وموقف الذين يؤمنون بها، والذين يمارون فيها، {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} ، ووصفت ما ينتظر الظالمين من عذاب مقيم، وما ينتظر الصالحين من عباده من فضل كبير، وأكدت أن الرسول عليه السلام لا يقبل على أداء رسالته أي أجر، وإنما يريد أن تترك له حرية الدعوة إلى الله، حتى لا تتأزم العلاقات بينه وبين ذوي قرباه، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .
روى البخاري في صحيحه وانفرد به، بسنده إلى عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، فقال سعيد بن جبير:(قربى آل محمد)، فقال ابن عباس: (عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من بطون قريش إلا
كان له فيه قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة)، ونبه الحافظ ابن كثير في تفسيره إلى أن هذه الآية مكية لا مدنية، وأن فاطمة الزهراء رضي الله عنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد غزوة بدر، من السنة الثانية من الهجرة، فهذه الآية نزلت قبل زواجها وولادتها، ثم تابع ابن كثير كلامه قائلا بالحرف الواحد:(والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كما رواه عنه البخاري، وختم ابن كثير كلامه قائلا: (ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرا وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية، الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته، رضي الله عنه أجمعين).