الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نعالج تفسير الربع الثاني من الحزب الخمسين في المصحف الكريم، وبداية قوله تعالى في "سورة الزخرف" المكية:{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ، ونهايته قوله تعالى في "سورة الدخان" المكية أيضا:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} .
ــ
في الآيات الأخيرة من الربع الماضي جرى الحديث عن عيسى بن مريم عليهما السلام، ابتداء من قوله تعالى:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ، وذلك في سياق الرد على المشركين الذين أرادوا أن يساووا بينه وبين معبوداتهم من الأوثان والأصنام، نظرا لأن النصارى يتوجهون إليه بالعبادة كما يتوجهون هم إلى معبوداتهم، وفي بداية هذا الربع جاءت تتمة الرد عليهم، وإبطال قياسهم الفاسد، فقد نقلت كتب السيرة أن مشركي قريش هالهم ما تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامهم من قوله تعالى في خطابه لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (98:21)، إذ إن مضمون هذه الآية يقتضي أن المشركين وجميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله سيكونون في جهنم، فأورد المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم (إشكالا) بما يقوم به النصارى من عبادة لعيسى بن مريم، وسألوه هل سيكون عيسى بن مريم أيضا في جهنم كما تكون فيها أصنام المشركين وأوثانهم التي يعبدونها من دون الله، هذا وهم يعلمون مسبقا أن عيسى بن مريم كان رسولا ولم يكن صنما، لكنهم أرادوا أن ينتقلوا من هذا القياس الفاسد -لأنه قياس مع وجود الفارق- إلى أن آلهتهم ومعبوداتهم لن تكون في النار، ما دام عيسى بن مريم لا يدخل النار، وهو في نظرهم ليس خيرا من آلهتهم، {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} ، فغرضهم في الحقيقة هو الجدل والمشاكسة، لا الوصول إلى جوهر الحق في الموضوع:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، وقد كانوا ينتظرون من رسول الله أن يقول لهم: إن آلهتكم خير (فيكون ذلك إقرارا لهم على عبادتها) أو يقول: (إن عيسى خير من ألهتكم) فيكون إقرارا منه بأن عيسى أهل للعبادة، أو أن ينفي (الخيرية) عنهم جميعا، وذلك طعن في عيسى، فكان فحوى جواب النبي صلى الله عليه وسلم:(إن عيسى خير من آلهتكم، ولكنه لا يستحق أن (يعبد). وذلك قوله تعالى في نفس السياق: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}
وهكذا تولى كتاب الله إبطال قياسهم لعيسى بن مريم على آلهتهم، وبين أن الدعوة التي دعا إليها عيسى النصارى كانت
قاصرة على إفراد الله بالعبادة، والاعتراف له بالعبودية، والتعريف بإلوهيته ووحدانيته المطلقة دون سواه، فهو لم يدع أحدا من أتباعه لا إلى عبادته ولا إلى تأليهه، ولا إلى اعتباره ابنا للإله، كما ادعاه النصارى المبطلون، وذلك قوله تعالى في بداية هذا الربع:{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} على غرار ما جاء في آية أخرى حكاية عن عيسى ابن مريم (117: 5): {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
ثم عقب كتاب الله على هذا الرد المفحم الذي أبطل شبه المشركين، موضحا مصدر العقائد الباطلة التي انتشرت عن المسيح بين فرق النصارى المختلفة، وذلك قوله تعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} إشارة إلى الشيع والمذاهب والفرق التي انقسمت إليها النصرانية بعد عيسى عليه السلام، والتي اخترعت بمحض خيالها عقيدة (المسيح الإله)، أو (المسيح ابن الله)، وما شابههما من المعتقدات الزائفة، التي هي (ظلم في حق الله) - إذ يصدق على معتقديها أنهم ما قدروا الله حق قدره - (وظلم في حق المسيح)، لأنه لم يكن سوى عبد لله، فغالى فيه أتباعه ورفعوه إلى مرتبة الإله، وهذا الظلم الصارخ هو الذي يشير إليه قوله تعالى هنا: {فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} عقب الإشارة لاختلاف الفرق والمذاهب النصرانية، التي تضمنها قوله تعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} .
وأشار كتاب الله في هذا السياق إلى ما يقوم بين أهل الأهواء والضلالات من صداقة مدخولة، وخلة مشبوهة، أساسها التضامن ضد الحق وأهله، والتعاون على الإثم والعدوان، مبينا أن هذه الصداقة مهما طالت فمآلها إلى عداوة صريحة، وكراهة بالغة، بحيث تنفصم عراها لأول احتكاك يقع بينهم من أجل المغانم أو المغارم، فلا يلبث بعضهم أن يتبرأ من بعض، وتتجلى هذه القطيعة بينهم على أشدها يوم القيامة، حيث لا ينفع أحد منهم الآخر، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ، على غرار قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل وهو يخاطب قومه الضالين (25: 29): {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . أما الصحبة في الله من أجل التعاون على البر والتقوى، والتزام الحق والصدق دون مداراة ولا مداهنة، فهي نافعة في الدنيا، وأثرها ممتد إلى الآخرة بفضل الله وكرمه، وذاك ما يشير إليه قوله تعالى هنا بصيغة الاستثناء:{إِلَّا الْمُتَّقِينَ} ، وبشر كتاب الله المتآخين في الله، الذين قامت أخوتهم على تقوى من الله ورضوان، بأنهم سيدعون يوم القيامة بأفضل نداء يدعى به المقربون عند الله، فقال تعالى:{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ، ثم بين السر
فيما أعد الله لهم من نعيم مقيم، إذ قال تعالى في وصفهم:{الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} ، فقد آمنوا بآيات الله حقا وصدقا، وقد أسلموا وجوههم لله رقا وعتقا.
وعرج كتاب الله بعد ذلك على العقيدة الباطلة التي يعتقدها المشركون وبعض اليهود والنصارى، حيث يدعون أن لله ولدا، وهذه العقيدة هي التي أشار إليها كتاب الله في الآية الخامسة عشرة من هذه السورة، حيث قال تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} ، وفي الآية الثلاثين من سورة التوبة حيث قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} ، واتجه الخطاب الإلهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الربع ملقنا إياه ماذا يقوله لمن يعتقد هذه العقيدة الباطلة:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ، أي: فأنا أول من يعظم ذلك الولد، لكن الله واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد.
ومن هنا انتقلت الآيات الكريمة إلى تنزيه الله عن كل صفة من صفات النقص، وإلى تمجيده بكل صفة من صفات الكمال:{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} على غرار قوله تعالى في آية أخرى (3: 6) {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} ، أي: لا إله سواه، لا في الأرض ولا في السماء، ثم قال تعالى:{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
واتجه الخطاب إلى الرسول عليه السلام مرة أخرى يدعوه إلى انتظار وعد الله بشأن مصير المشركين، فقال تعالى:{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} ، وقال تعالى:{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
والآن وقد انتهينا من سورة (الزخرف) المكية ننتقل بعون الله إلى (سورة الدخان) المكية أيضا، وقد أطلق عليها هذا الاسم، أخذا من قوله تعالى، فيها:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، وبمجرد الشروع فيها نجد أنفسنا أمام آيات كريمة تنوه بكتاب الله، وتصف " الليلة المباركة " التي أنزله الله فيها على قلب رسوله الصادق الأمين، وتلفت نظر الإنسانية جمعاء إلى أن كتاب الله إنما هو رحمة مرسلة من عند الله، أنزله لهداية البشر، والأخذ بيدهم لسلوك مسالك الرشاد والسداد، وذلك قوله تعالى:{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . ويتصل بنفس الموضوع قوله تعالى (185: 2): {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ، وقوله تعالى:(1: 97): {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فبمقتضى هذه الآيات الكريمة يتبين أن كتاب الله ابتدأ نزوله في شهر رمضان المبارك، الذي شرع صيامه ذكرى
لنزول القرآن، وأن أول ليلة وقع بدأ نزوله فيها هي إحدى ليالي رمضان، وهي بالذات (ليلة القدر) التي هي عند الله خير من ألف شهر، وهذه الليلة هي التي نوه بها كتاب الله في فاتحة هذه السورة التي نحن بصدد تفسيرها، حيث وصفها بأنها (ليلة مباركة)، لأن القرآن الذي ابتدأ نزوله فيها كان أكبر بركة أنعم الله بها على بني آدم، بما فتح لهم من آفاق جديدة في العلم والمعرفة، وما هداهم إليه من وجوه الإصلاح الروحي والمادي لمختلف مرافق الحياة، وما أتاح لهم من الوسائل الفعالة، لترميم صرح الحضارة المتداعي، وبعث الإنسانية من مرقدها الطويل.
وقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} إشارة إلى ما تولى كتاب الله الكريم بيانه من معالم الدين، وما شرعه من الأوامر والنواهي التي جعلها شرعة خالدة للمسلمين، ومنهاجا دائما للمؤمنين، فما من أمر أو نهي في كتاب الله إلا وهو يتضمن من الحكمة والرشاد، ما يضمن صلاح العباد {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (8: 95).
وقوله تعالى في وصف كتابه: {رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} تعريف لعباده المؤمنين بأبرز خاصة من خواص كتابه الكريم، فلا يعرف في تاريخ البشرية أن كتابا غير القرآن ماثله- فضلا عن أن يفوقه- في الأخذ بيد الإنسان، وتحريره من سيطرة الأوهام ورق الأوثان، ودفع عجلة تقدمه ونهضته إلى أقصى حدود الإمكان، ويكفي لتقدير فضله الواسع، ومعرفة تأثيره العميق، إلقاء نظرة ولو بسيطة
على تاريخ الأمم التي دخلت، بفضله، في عداد الأمم المتحضرة، والتي أصبح لها في ظله كيان وسلطان، والتي في إمكانها إذا عادت إلى حظيرته بعزيمة وإخلاص أن تستعيد مجدها وتفرض وجودها إلى آخر الزمان.