الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب السادس والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب السادس والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} ، إلى قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} .
ــ
في بداية هذا الربع يصف كتاب الله بكل دقة، وفي إيجاز وإعجاز، نفسية ضعفاء الإيمان من بني الإنسان، ومواقفهم المتناقضة في كل زمان ومكان، ولاسيما الموقف الذي يكونون عليه في حالة الضراء، والموقف الذي ينقلبون إليه في حالة السراء، وذلك قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} ، على غرار قوله تعالى في آية ثانية (12: 10): {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} ، وقوله تعالى في الآية ثالثة (67: 17): {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ
أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}، وقوله تعالى في آية رابعة (49: 39): {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
وجميع هذه الآيات تسجل على ضعفاء الإيمان ما هم عليه من تناقض وتذبذب وتردد، وتكشف الستار عن خلجات نفوسهم ونبضات قلوبهم في حالتي اليسر والعسر، والشدة والرخاء، فهم حينما تنزل بساحتهم كارثة من الكوارث، أو داهية من الدواهي، يجزعون ويفزعون، ويحسون من أعماق أعماقهم بما هم عليه من الضعف والعجز والهوان على الله وعلى الناس، ويدركون بغريزتهم الفطرية أنهم لا يستطيعون لما نزل بهم دفعا، وأنه لا خلاص لهم من المحنة، ولا نجاة لهم من الكرب، إلا بالالتجاء إلى الله وحده القاهر فوق عباده، ويجدون أنفسهم مدفوعين بدافع قهري وخفي إلى التمرغ في أعتاب من بيده الملك والملكوت، طارقين بابه بمنتهى الخضوع والخشوع، حتى إذا ما استجاب الله دعاءهم، بواسع رحمته، وجميل لطفه، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولم يعودوا يتذكرون المحنة التي نكست رؤوسهم، وأثقلت ظهورهم، وأقضت مضاجعهم، وزلزلت كيانهم، بل استأنفوا من جديد كل ما كانوا عليه من التظاهر والتجاهر بالفساد والطغيان، ولجوا في العناد والعدوان، وأقبلوا على ممارسة شهواتهم، والانغماس في لذاتهم، والجري وراء أهوائهم، والتسابق إلى الطاعة العمياء، لمن يشركونهم بالله من السادة
والكبراء، وإن كان في رضاهم سخط الله، وفي الاعتماد عليهم شرك بالله، وذلك كله من أجل متعة مؤقتة مآلها إلى زوال، وفي سبيل منفعة عاجلة نهايتها إلى وبال، وإلى هذا الموقف المزري الذي يقفه ضعفاء الإيمان في وقفتهم الخاسرة، ومقابلتهم لطف الله بالجحود بدلا من الشكر، وبالإساءة بدلا من الإحسان، ينظر قوله تعالى في نفس الموضوع:{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} : بينما المتحررون من ربقة الشرك الظاهر والخفي، ومن كل عبودية لغير الله، جاءتهم البشرى من الحق سبحانه وتعالى في قوله:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .
وتعالج آية أخرى من هذا الربع بالوصف والبيان، حالة الإنسان الكامل الذي أكرمه الله بقوة الإيمان بحيث لا تأخذه سنة الغفلة والنسيان، فهو قانت خاشع، معلق قلبه بين الخوف والرجاء، إذا خاف فإنه لا يخاف شيئا إلا عذاب الله، وإذا رجا فإنه لا يرجو أحدا وإنما يرجو رحمة الله، وذلك قوله تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ، وأدرجت الآية {آنَاءَ اللَّيْلِ} ، في هذا المقام بالخصوص وهو مقام الذكر والفكر، لأن ساعات الليل في الواقع هي أصلح الأوقات لسكون النفس، وطمأنينة القلب، وتركيز الفكر في مناجاة الرب، وهي أبرك اللحظات للتأمل في جلال الكون وجماله، وإدراك قدرة المكون وكماله. وكما ذكرت {آنَاءَ
اللَّيْلِ}، في هذه الآية تنويها بقدرها، وإشارة إلى خفي سرها، فقد ذكرت مرة أخرى في قوله تعالى (113: 3): {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} .
وحيث أن أسمى غاية للعلم والمعرفة بالنسبة للإنسان هي الوصول إلى " الحقيقة الأولى " التي هي مصدر النور ومنبع الحياة، وربط الاتصال بها قلبا وقالبا، جاء كتاب الله ينوه بها، ويلفت النظر إليها، معتبرا أن كل علم لا يؤدي إليها، ولا يصل بصاحبه إلى إدراكها، إنما هو نوع من الجهل، بل هو " الجهل المركب الغليظ "، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ، في أعقاب قوله تعالى:{سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ، فمن لا يرجو الله ولا يخافه معدود بين الجهلاء، وإن كان عند نفسه وعند الناس من العلماء.
وتأتي آية خاصة في هذا الربع لتصف مآل الخاسرين، ثم تتلوها آية أخرى لتصف مآل الفائزين، غير أن الربح والخسارة في لغة القرآن لهما ميزان خاص، غير الموازين المتعارفة بين الناس، فالخاسرون في هذا الميدان هم أولئك الذين خرجوا من هذه الدار وقد ضيعوا رأس مالهم، وهو خلاص أنفسهم ونجاتها، وضيعوا الربح الذي كان على مقربة منهم، وهو خلاص أهلهم وذويهم ممن كانوا تحت ولايتهم، فلا هم اهتدوا في أنفسهم، ولا هم أعانوا على الهداية من كانوا إلى نظرهم من الأزواج والأولاد
والخدم، ولم يقوا أنفسهم وأهليهم نارا، وذلك قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} .
أما الفائزون الذين لم تلحقهم خسارة ولا إفلاس فهم على العكس من ذلك: أولئك الذين نجوا بأنفسهم فلم يخسروها، إذ صرفوا حياتهم- وهي رأس مالهم- في الرشد والخير والصلاح، ولم يخسروا أهليهم وذويهم، بل قادوهم إلى طرق الخير والبر، فكان ربحهم مضاعفا، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ، {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} .
وتمضي الآيات الباقية من هذا الربع في تعداد نعم الله على خلقه، ووصف مظاهر لطفه بهم ماديا وروحيا، والمقارنة بين نور الإسلام وظلمة الكفر، وآثار كل منهما في النفوس، حيث قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} ، وقال تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، ثم تمضي في استعراض خصائص القرآن العظيم الذي يجب أن يظل نبراسا للمسلمين إلى يوم الدين، ووصف ما خلع الله عليه من حلل المهابة والجلال، وجعل له من السيطرة على القلوب،
والهيمنة على المشاعر، حيث قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
ومعنى قوله تعالى هنا: {مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} ، حسبما روي عن سفيان بن عيينة، (أن سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد يشبه بعضه بعضا، فهذا من " المتشابه "، وتارة تكون بذكر الشيء وضده، أي في معنيين اثنين، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكوصف الجنة تم وصف النار، وما أشبه هذا، فهذا من " المثاني " مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (14: 82). قال ابن كثير: " وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم عندما يسمعون كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله، ولم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون، والأدب والخشية ما لم يلحقهم فيه أحد، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، وإنما هذا في أهل البدع، وهو من الشيطان ".
ومعنى قوله تعالى هنا في وصف كتابه العزيز: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ، أنه نزل بلسان عربي مبين لا التباس فيه ولا انحراف، ولا تناقض ولا اختلاف، على غرار قوله تعالى في
سورة الكهف (1): {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} ، وقوله تعالى في سورة النساء (82):{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .
وخُتِم هذا الربع بضرب المثل للمشرك التي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، وبأن الموت هو مصير جميع الأحياء، وأن الكفار سيخاصم بعضهم بعضا في الدار الآخرة، وسيحتج عليهم الرسول بأنه بلغهم فكذبوا، ودعاهم فلم يستجيبوا، وذلك معنى قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .