الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب السابع والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم نعالج فيها الربع الأخير من الحزب السابع والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} ، إلى قوله عز وجل:{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
ــ
في بداية هذا الربع يعرض القرآن الكريم على أنظار المشركين الذين لا يزالون متمسكين بمعتقدات الجاهلية الأولى ومن ماثلهم نبذة من أحوال الأمم الغابرة، مبينا بعض ما جرى لها من مجريات، ونزل بها من أحداث، وخاصة ما دار في ديارها من صراع عنيف بين دعوة الأنبياء والرسل الذين أرسلوا لهدايتها، ودعاية المتكبرين، والجبارين الضالين، الذين أضلوها وأصروا على التحكم في مصيرها.
وفي نفس الوقت يحض كتاب الله كل باحث عن الحق، متطلع إلى معرفة الحقيقة في أمر النبوات والرسالات، على أن يسير في أرض الله باحثا منقبا لاستكشاف آثار الأمم الغابرة،
ومشاهدة البقية الباقية من حضارتها الذاهبة، ففي ذلك العبرة البالغة، والدليل القاطع، على المصير المظلم الذي ينتظر الضالين، والنهاية المخزية التي تصيب الكافرين، وذلك قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، ففي هذه الآية وما ماثلها بين الحق سبحانه وتعالى ما أصاب الأمم الغابرة، والحضارات القديمة، من التلاشي والزوال، وما نزل بساحتها من الدمار والاضمحلال، ويؤكد كتاب الله أن أكبر سبب للدمار الذي أصابها، والاضمحلال الذي نزل بها، هو أنها سلكت طريقا مضادا من كل الوجوه، للتوجيه الإلهي الرشيد، الذي جاء به الأنبياء والرسل، ولم تتبع سنة الله التي رسمها لصلاح الخلق ورشادهم في هذه الدنيا، فانقلبت قوتها القاهرة، إلى ضعف وفناء، وأصبحت آثارها الباهرة، عبارة عن أطلال وأشلاء، رغم كل ما بذلته في سبيلها من المال والجهد والعناء، {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} .
وتتولى الآيات التالية فيما بعد عرض نموذج حي من الحضارات الزائلة والأمم الغابرة، وذلك بالحديث عن قصة موسى الكليم وفرعون مصر، حديثا يكشف الستار، عما جرى من الصراع بين الحق والباطل في تلك الديار، فها هو موسى
يرسله الله إلى فرعون وهامان وقارون، اللذين هما أقرب المقربين إليه، وهاهو فرعون يحاول أن يقتل موسى للتخلص منه، وهاهو موسى يتحصن بالله ويعتصم به، فيعصمه من عدوان فرعون، وها هو فرعون ورجاله يضعون خطة للقضاء على دعوة موسى، بقتل أبناء الذين آمنوا به، حتى لا يبقى لدعوته أي أثر في الجيل الصاعد، وهاهو فرعون يدلس على قومه، مصرا على تضليلهم، محاولا إقناعهم بوجوب التمسك بما هم عليه من المعتقدات الباطلة، والتقاليد الزائفة، مدعيا أمامهم أنه يخاف عليهم من أن يبدل موسى دين أجدادهم، وأن يظهر الفساد في ديارهم، مثيرا بذلك حميتهم، وموقدا نار التعصب في نفوسهم، بل ها هو فرعون يتحدى قدرة الله ساخرا مستهزئا، فيطلب إلى هامان أن يبني له صرحا شامخا، وبرجا مرتفعا في عنان السماء، عسى أن يطرق بيده أبواب السماوات، و " يطلع إلى إله موسى " على حد تعبيره الذي حكاه عنه كتاب الله، إذ إن فرعون في ذلك الوقت لم يكن يعترف بإله موسى إلها له وللعالمين، فضلا عن أن يعترف بصدق موسى وكونه من المرسلين، وإلى هذه المواقف تشير الآيات التالية:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِ آيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ، فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ} ، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى، وَلْيَدْعُ رَبَّه، إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} ، {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَاد} ، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ
لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ، فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا}.
وجاء تعقيب الآيات على قصة فرعون، وخطته الماكرة للقضاء على موسى والتخلص من دعوته، بما يؤكد فشل خطة فرعون ورجاله بدءا وختاما، وذلك قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ} ، وقوله تعالى من قبل:{وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} .
ويبرز كتاب الله في وسط هذه المعركة القائمة بين الحق والباطل، ما تركته دعوة موسى- رغما من مقاومة فرعون ورجاله- من الأثر العميق والحميد بين آل فرعون أنفسهم وبعض قرابته الأقربين، فالبذرة الصالحة متى وجدت تربة طيبة أسرثت إلى النمو فورا، ذلك أن رجلا من آل فرعون قد شرح الله صدره للإيمان بما جاء به موسى من عند الله، لكنه كتم إيمانه عن فرعون فترة من الزمن، ولم يعلنه لأحد من الناس، وبدافع من إيمانه الخفي المكتوم أخذ على عاتقه الدفاع عن موسى حتى لا يناله أذى فرعون، وبسبب تدخله لم يقدم فرعون على تنفيذ حكم الإعدام في موسى، بل إن هذا المؤمن من آل فرعون مضى في سبيل الدفاع عن عقيدته الإيمانية الجديدة خطوة أبعد، فأخذ يمهد السبيل ويهيئ الجو، حتى يتمكن موسى من أن ينشر دعوته بين الناس وهو آمن على نفسه وعلى دعوته، دون مضايقة ولا متابعة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}.
وينص كتاب الله على أن مؤمن آل فرعون - وإن كان لم يعلن إيمانه بموسى في الحين - فقد تولى بنفسه نشر جزء مهم من دعوة موسى بين أعضاء الحاشية التابعة لفرعون، بصفة أنه مجرد " ناصح لقومه أمين " لا بصفة كونه تابعا من أتباع موسى وصحبه، وذلك ما تحكيه الآيات الكريمة على لسان " مؤمن آل فرعون " نفسه إذ يقول:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} ، {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ، {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} .
ومؤمن آل فرعون باختياره لهذا التعبير بالخصوص وهو: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ، كان يقصد، من بعيد، إبطال ما ادعاه فرعون أمام قومه عندما قال لهم مضللا مزورا:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ، وذلك لنقض ادعائه الباطل، وهكذا أيد الله موسى وهو يصارع فرعون ويقارعه، فلم تذهب دعوته سدى، ورزقته العناية الإلهية من بين آل فرعون أنفسهم سندا ومددا.
ومما يحسن التنبيه إليه من مفردات هذا الربع كلمة " سلطان "، وكلمة " الأحزاب "، وكلمة " التناد "، فقد وردت كلمة " سلطان "، في قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ثم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} ، والمراد بها في كلتا الآيتين: الحجة والبرهان، التي تفرض نفسها على الخصم، ولا يسعه عند سماعها إلا الاقتناع والإذعان، ووردت كلمة " الأحزاب "، في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ، وكما استعملها كتاب الله في " سورة الأحزاب " للتعبير عن المجتمعين الذين تحالفوا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، استعملت في هذا الربع وغيره من بقية السور، للتعبير عن جميع من تحزبوا على أنبياء الله ورسله، وتصدوا لهم بالمعارضة والمقاومة في مختلف الأجيال والعصور، فكان لكل " حزب " منهم يومه الموعود، {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} ووردت كلمة "التناد" في قوله تعالى على لسان مؤمن فرعون:{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} ، وهي مصدر:" تنادى القوم، أي نادى بعضهم بعضا. قال ابن عباس وغيره: " التناد " خفيفة الدال، هي التنادي، والمراد " بيوم التناد " يوم القيامة، وسمي بذلك لما يقع فيه من نداء الناس بعضهم بعضا عند قيام الساعة والتوجه إلى المحشر، وما يقع فيه من مناداة كل قوم بأعمالهم عند الحساب،
ومناداة أهل النار لأهل الجنة: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (50: 7)، ومناداة أهل الجنة لأهل النار:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (44: 7)، ومناداة:" أصحاب الأعراف "، للوافدين عليهم لتمييز أهل الجنة من أهل النار، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (48: 7)، قال ابن كثير:(واختار البغوي أن يوم القيامة سمي " بيوم التناد " لمجموع هذه المعاني، وهو قول حسن جيد، والله أعلم).