الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حديث هذا اليوم يتناول تفسير الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في سورة الشورى المكية:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ، ونهايته قوله تعالى في سورة الزخرف المكية أيضا:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .
ــ
يتحدث كتاب الله في مطلع هذا الربع عن مقامات الوحي الذي يتلقاه الأنبياء والرسل عن الله عز وجل، وقد ثبت في كتب السنة النبوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلقى الوحي عن ربه من أربعة طرق:
الطريق الأول: أن يلقي الملك في روعه وقلبه ما يوحى إليه، من غير أن يرى الملك، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).
الطريق الثاني أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، وكان هذا النوع هو أشد أنواع الوحي عليه، حتى أن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد.
الطريق الثالث: أن يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول.
الطريق الرابع: أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما يشاء الله أن يوحيه. قال ابن القيم في كتابه (زاد المعاد):(وقد وقع هذا له مرتين، وورد ذكره في سورة النجم).
وهذا الموضوع موضوع الوحي من الله إلى أنبيائه ورسله هو ما تضمنه قوله تعالى في هذا الربع: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
فقوله تعالى: {إِلَّا وَحْيًا} يندرج تحته الطريق الأول والطريق الثاني للوحي، كما عرفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، يندرج تحته ما أوحاه الله إلى موسى الكليم، بعد تكليمه وحجبه عن الرؤية، رغما عن سؤاله لها.
وقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} يندرج تحته الطريق الثالث والطريق الرابع للوحي، كما وصفهما الرسول عليه السلام، وكما وقع لكثير من الأنبياء والرسل، حيث
نزل عليهم بالوحي جبريل وغيره من الملائكة المقربين، بإذن الله العلي الحكيم.
وانتقل كتاب الله للحديث عن الوحي بالقرآن إلى الرسول عليه السلام، وعن مبلغ النعمة التي أنعم الله بها على نبيه، عندما اختاره لختم الرسالة من بين خلقه، فقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} ، ففي هذه الآية وصف للقرآن بأنه (روح) من عند الله، أنزله لإحياء نفوس الأشباح من البشر، الذين فقدوا مقومات الحياة، وفي هذه الآية وصف للقرآن بأنه (نور) من عند الله، أنزله لهداية الضالين الحيارى من مختلف الأمم والملل.
وكم كان هذا الوصف صادقا، وكم كانت هذه الحقيقة أمرا واقعيا، بالنسبة للبشرية جمعاء، فمنذ نزل القرآن ودخلت البشرية تحت رايته، عرفت من ألوان التقدم والازدهار والحضارة ما لم يسبق له مثيل في آلاف السنين التي سبقت نزول القرآن، ولا يزال موكب العلم والكشف عن حقائق الكون يواصل طريقه بإذن من الله، منذ فتح له القرآن السبيل، ومهد له الطريق.
وأكد كتاب الله مرة أخرى ما في اتباع رسالة خاتم الرسل من ضمانة حقيقية لصلاح الخلق ورشادهم، حيث أن هذا الرسول إنما يهدي الناس إلى النهج القويم الذي رسمه لهم، وارتضاه لسلوكهم، خالقهم وخالق الكون كله، وإذا كان الكون كله مطواعا
وفي قبضة الله، لا يتخلف عن إرادته ورضاه، فيتبع النواميس والسنن التي رسمها له دون تردد ولا اعتراض، فأحر بالإنسان الذي كرمه الله بالعقل، وبالخلافة عنه في الأرض، وبحمل الأمانة التي أشفقت منها بقية المخلوقات، أن يكون أكثر طواعية للنواميس الخلقية، وأشد التزاما للتعاليم الإلهية، وذلك قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} .
وهنا تودعنا (سورة الشورى) المكية، لننتقل منها إلى (سورة الزخرف) المكية أيضا، وإنما سميت (سورة الزخرف) أخذا من قوله تعالى في آيتها الخامسة والثلاثين:{وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، ومعنى (الزخرف) الزينة من كل شيء، وقد اتجهت الآيات الأولى من هذه السورة إلى مواصلة الحديث عن كتاب الله، وعن تعداد مزاياه، فقال تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ، وها هنا بين الحق سبحانه وتعالى منزلة كتابه في الملأ الأعلى، ليقدسه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، أسوة بالملائكة المقربين. والمراد (بأم الكتاب) اللوح المحفوظ، كما فسره ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما، وبقوله (لعلي) أي ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل، قاله قتادة، وبقوله (حكيم) أي محكم بريء من اللبس والزيغ والتناقض.
وفي معنى التنويه بكتاب الله وبيان عظيم مكانته جاء أيضا
قوله تعالى (11: 80): {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} ، وجاء قوله تعالى (80. 77: 56) {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال ابن كثير: (ومن هاتين الآيتين استنبط العلماء أن المحدث لا يمس المصحف، وإذا كان الملائكة يعظمون القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض أولى بذلك وأحرى، لأنه نزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقبلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم).
ثم اتجه كتاب الله إلى خطاب المنحرفين عن الحق من المشركين والكافرين، مستفسرا لهم: هل من الخير أن يتركهم الحق سبحانه وتعالى هملا، فلا يبعث إليهم الرسل، ولا ينزل عليهم الكتب:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (36: 75)، وهل مصلحة الإنسانية ونفعها أن تقف الدعوة وهي في حالة جزر لا في حالة مد، وأن تتعطل حكمة الله البالغة في توالي النبوات والرسالات على الخلق، وذلك قوله تعالى:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} ، وكأن الله تعالى يقول، (إن ربوبيتي لكم تقتضي أن أمدكم برحمتي وإحساني، ولو كنتم مسرفين ظالمين منحرفين)، وهذا هو السر في مواصلة الأنبياء والرسل للدعوة الإلهية، حتى يتحقق الهدف منها وهو إرشاد فريق منهم وصلاحه على الأقل {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (165: 4). فمن لطف الله ورحمته بخلقه أن لا يترك دعاءهم
إلى الخير، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر رسله بذلك، ليهتدي من يريد الهدى، ولتقوم الحجة على من يريد الضلال. قال قتادة:(والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته، فكرره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك).
واهتمت الآيات الباقية من هذا الربع بالحديث عن موقف أعداء الرسالات عبر القرون والأجيال، فقال تعالى:{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ، وبالحديث عن حقائق الإيمان وعقائد التوحيد التي يدعو إليها كتاب الله، مؤيدة بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، فقال تعالى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} إلى آخر الآيات الواردة في هذا السياق. كما اهتمت نفس الآيات بوصف معتقدات الوثنية وخرافات الجاهلية، وصفا مصحوبا بتسفيه دعاتها وأتباعها، وهدم الدعائم المنهارة التي قامت على أساسها، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} ، - {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} ، - {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي على دين مشترك {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .