الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب السادس والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم تفسير الربع الأول من الحزب السادس والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة الصافات المكية:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} إلى قوله تعالى في سورة ص المكية أيضا: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
ــ
والآيات الأولى من هذا الربع هي تتميم لما سبقها في شأن يونس وقومه، {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، الآيات، ذلك أن يونس عليه السلام بعد أن قضى وقتا طويلا في تسفيه معتقدات الشرك والوثنية بين قومه، ولم يصل معهم إلى نتيجة حاسمة، ضاق صدره، ونفذ صبره، إذ لم يكن مندرجا بين " أولي العزم " من الرسل، الذين لا يضيق صدرهم، ولا ينفد صبرهم، فغضب على قومه، وقرر الرحيل عنهم والفرار منهم، بعد أن أنذرهم بالعذاب الإلهي الشديد، لكنه لم يبن قراره بالرحيل عنهم على وحي إلهي صريح، وإنما بناه على مجرد اجتهاد شخصي، وكان الأولى به - كما ظهر فيما بعد- أن لا يضيق صدره، ولا ينفد
صبره، وأن ينتظر حكم الله بينه وبين قومه، وذهب يونس يضرب في الأرض، فرارا من قومه، حتى انتهى به المطاف إلى شاطئ البحر، فوجد جماعة يعبرونه، وركب معهم سفينة مشحونة بالأثقال، غير أنه ما كادت سفينتهم المشحونة تمخر عباب البحر حتى هاجت عليها الأعاصير، وتلاطمت فوقها الأمواج، ولم يجدوا وسيلة للخلاص من الغرق إلا بالتخفيف من حمولتها، فأقرعوا بين ركابها، ووقعت القرعة على يونس، ثم أعيدت القرعة عدة مرات، لكن نتيجتها كانت مثل المرة الأولى، وضن الركاب به أن يلقوه في البحر، احتراما لمظهره المهيب، لكن يونس أدرك بنور إيمانه أن لله سرا وأي سر في " القرعة " التي خرج سهمها فيه، وفيما كتبه الله عليه، فألقى بنفسه في البحر راضيا مطمئنا، مستسلما لإرادة الله وحكمه الحكيم، فالتقمه الحوت لطفا من الله، حتى لا يموت غريقا، وأخذ الحوت يتقلب به في أعماق البحر وهو في بطنه، دون أن يقتطع منه لحما، أو يكسر له عظما، وكانت فرصة سانحة ليونس يدرك بها سر الله في البحر وقدرته الباهرة، كما أدرك سر الله وقدرته في البر، وأحس يونس أن فيما كتبه الله عليه نوعا من التأديب الإلهي على ما أقدم عليه من مفارقة قومه، والتوقف عن مواصلة رسالته بينهم، دون إذن سماوي صريح، فما وسعه -وهو في بطن الحوت لا يستطيع أن يفلت من قبضة الله- إلا الالتجاء إلى الله بالتضرع والدعاء والندم على ظلمه لنفسه، والتعلق بواسع عفو الله وخفي لطفه، فاستجاب الله دعائه، بعد أن نال ما قدره له من جزاء، وألقاه الحوت بأمر الله في أرض عراء، لا نبات بها ولا بناء، وأذن الله بإنبات شجرة عليه تظله بورقها،
وتطعمه من ثمرها، وما كاد يستعيد عافيته ويزول عنه السقم، حتى بادر للعودة إلى قومه مسرعا، واستأنف الرسالة السامية التي ألقاها الله على عاتقه، وكم كان سروره عظيما، وابتهاجه بالغا، عندما وجد أن الله قد حقق أمنيته، وأن قومه قد شرح الله صدورهم للإيمان، وهجروا الأصنام والأوثان، بمجرد ما شاهدوا نذر العذاب الذي كان أنذرهم به، فعرفوا صدقه وآمنوا برسالته، وذلك قوله تعالى في سورة الصافات التي نواصل تفسيرها:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ، ويزيد هذه الآيات تفسيرا وتوضيحا قوله تعالى في سورة الأنبياء (87):{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقوله تعالى في سورة (يونس) إحدى سور القرآن المسماة باسمه (98):{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
ويظهر من السياق أن الحكمة المقصودة من الإتيان بقصة يونس كخاتمة لقصص الأنبياء والرسل، منذ عهد نوح عليه السلام، في هذه السورة المكية، هي ضرب المثل لخاتم الأنبياء والمرسلين، بمن سبقه من " أولي العزم " الأولين، وتحذيره من
التهاون في أداء الرسالة الملقاة على عاتقه، إذ لا يعفيه منها شيء، ولا يبرر التخلي عنها أي أذى يلحقه من قبل المشركين، مهما كان أذاهم بالغا، بل تجب عليه المثابرة ويلزمه الصبر، إلى أن يتحقق النصر، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (10: 8) كما تتضمن هذه القصة تنبيها صريحا للرسول عليه السلام، حتى لا يسلك مسلك أخيه يونس، عندما فارق قومه مغاضبا لهم، ساخطا عليهم، فاضطرته الأقدار للعودة إليهم من جديد، إذ لابد له من تحقيق مراد الله، وتبليغ رسالته، ولو كره المشركون.
وبهذا التوجيه يظهر مغزى ما جاء بعد ذلك في هذا الربع نفسه من الآيات البينات، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى تثبيتا لرسوله على الحق، والدعوة إليه دون انقطاع ولا فتور (172: 171): {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، ومادام الحق سبحانه وتعالى قد وعد رسله بنصره، وعلى رأسهم خاتم الرسل والأنبياء، ووعد جنده بالغلبة، فلا مناص من المثابرة والمصابرة، {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} ، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (55: 40) {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (6: 30).
أما بقية الآيات من سورة الصافات في هذه الحصة فهي وصف كاشف للمعتقدات الوثنية الباطلة، التي كان عليها مشركو الجاهلية، ومن قبلهم كافة المشركين في العالم، وإتيان القرآن بها يقصد منه إبراز ما بين الشرك والتوحيد من البون الشاسع، وما بين المشركين والموحدين من تفاوت بالغ في درجة التفكير ومستوى
العقل، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} ، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
والآن فلنشرع على بركة الله في تفسير سورة (ص) المكية أيضا:
لقد ركزت الآيات الأولى من هذه السورة اهتمامها، في إلقاء الأضواء على خصوم الرسالة المحمدية، وكشف الستار عن السبب الدفين والوحيد في خصومتهم وعنادهم، فهم من جهة أُولى أهل {عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، وهم من جهة ثانية مقيدون بسلاسل التقليد الأعمى لا يستطيعون عنه حولا، وذلك قوله تعالى فيما يتصل بالنقطة الأولى:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، " والعزة " هنا بمعنى الاستكبار والحمية، و " الشقاق " بمعنى التعصب والعناد، ثم قوله تعالى فيما يتعلق بالنقطة الثانية:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (4) أجعل الآلهة إلها واحدا، إن هذا، لشيء عجاب} .
على أن قادة الشرك وزعماء الوثنية لم يكتفوا بما هم عليه في ذات أنفسهم من كبر وعناد، وتقليد للآباء والأجداد، بل راحوا ينظمون الحملات تلو الحملات، لحمل عامة المشركين على التمسك بالوثنية وتشكيكهم في دعوة التوحيد، مدعين زورا وبهتانا أن الملل السابقة على الإسلام لا تؤيد رسالة خاتم الأنبياء عليه السلام، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}، ثم أبطل كتاب الله ما أدلوا به، من شبه وأباطيل، مشيرا إلى أن الحق سبحانه وتعالى هو وحده الذي يعلم حيث يجعل رسالاته، ويهب من خزائنه الواسعة ما يريد لمن يريد، فقال تعالى:{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ * جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} .
وأخيرا تولت الآيات الكريمة الإشارة إلى ما قام به من العناد والتكذيب قبل مشركي قريش قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، أي: الغابة الملتفة- وفرعون " ذو الأوتاد "، إشارة إلى الأهرامات الشامخة البناء، التي نصبها الفراعنة، فكانت كالأوتاد الممدودة نحو السماء، وذلك قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} .
وانتهى هذا الربع بالحديث عن داوود عليه السلام، وما آتاه الله من القوة، ومنحه من تسخير الجبال والطير، وجاء ختامه بهذا التنويه الإلهي الكريم:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .