المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٥

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الروم

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة لقمان

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة السجدة

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة سبأ

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فاطر

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يس

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌لربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الصافات

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة ص

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزمر

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة غافر

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والأربعينفي الصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة فصلت

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشورى

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الزخرف

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الدخان

- ‌الربع الثاني من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجاثية

- ‌الربع الثالث من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخمسينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب الخامس والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة يس المكية:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ، إلى قوله تعالى في سورة الصافات المكية أيضا:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .

ــ

وجه كتاب الله في بداية هذا الربع خطاب تقريع وتوبيخ إلى الجنس البشري كله، مذكرا بني آدم بقصة إبليس الذي وسوس إلى أبيهم آدم، معلنا ما بينه وبينهم من العداوة الراسخة والصراع الدائم إلى يوم الدين، نظرا لما تحداهم به إبليس اللعين، من إغوائهم أجمعين: إلا عباد الله المخلصين: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (123: 20).

وتساءل كتاب الله كيف يقع بنو آدم في فخ الشيطان، رغما عن الوصايا المتتالية التي أوصاهم الله بها في جميع رسالاته وكتبه، للحذر من وساوس الشيطان، فقال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ، أي: لا تطيعوه ولا

ص: 274

تمتثلوا أمره، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ، أي: ثابت العداوة لكم سرا وعلنا ظاهرا وباطنا، {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، فعبادة الله وحده هي الطريق اللاحب، والنهج الصائب، {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} ، أي: أن الشيطان قد أغوى وأضل منكم خلقا كثيرا، فكانت عاقبة الضالين منكم هي العذاب الأليم، لانحرافهم عن الصراط المستقيم، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} .

وها هو كتاب الله يصف سوء عاقبتهم، حتى أن "أيديهم"، التي كانوا يبطشون بها أصبحت هي الشاهدة عليهم بما اجترحوه من الآثام في خطواتهم، بدلا من أفواههم وألسنتهم، التي لم تعد لها أدنى قدرة على الجواب، لأن أصحابها أبلسوا عند الحساب، وذلك قوله تعالى هنا:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وكإرهاص سابق في الدنيا من هذا القبيل، ما هو معروف الآن من أن بصمات الأصابع وفك الأسنان، تكشف أثناء التحقيق في الجرائم عن شخصية الإنسان. قال القرطبي:(فإن قيل: لم قال الله تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ}، فجعل ما كان من اليد كلاما، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره " شهادة "، وقول الفاعل على نفسه " إقرار " بما قال أو فعل، فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول، وعما صدر من الأرجل " بالشهادة ") وهذه لطيفة من لطائف التفسير ونفائسه.

ص: 275

ومضى كتاب الله ينذر الذين ضلوا سواء السبيل، بالطمس والمسخ في الآخرة، جزاء ما ارتضوه لأنفسهم في الدنيا من انطماس البصائر والأبصار، وتعطيل العقول وفساد الأفكار، فقال تعالى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} ، ومن كان عديم الإرادة مشلول الحركة كيف يخترق الصفوف وسط الزحام، ولاسيما عندما تلتف الساق بالساق، ومن كان مطموس العين فاقد البصر كيف يجتاز الصراط الذي هو " أرق من الشعرة وأحد من السيف "، بل كيف ينجح مثله في مثل هذا السباق؟ ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (72: 17).

ومن الإنذار بالمسخ الذي هو تبديل خلقة الإنسان، وقلبها إلى جماد أو حيوان، مما يعد عقابا إلهيا صارما، انتقل كتاب الله إلى وصف ما يتعرض له المعمرون الذين طال عليهم العمر في أغلب الأحيان، سواء كانوا أبرارا أو فجارا، مؤمنين أو كفارا، فقال تعالى:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} ، أي: رددناه بعد القوة إلى الضعف، وبعد النشاط إلى العجز، وبعد الشباب إلى الهرم، وهذه الحالة يصدق عليها معنى النكس والانتكاس، يقال: نكست الشيء فانتكس إذا قلبته على رأسه، ووصف كتاب الله في سورتين سابقتين هذه الحالة " بأرذل العمر "، لما يعتورها من التراجع والتناقص في القوى والملكات، على العكس من " أفضل

ص: 276

العمر " الذي تنمو فيه القوى والملكات، وتزداد يوما بعد يوم، فقال تعالى في سورة النحل (70):{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} ، وقال تعالى في سورة الحج (5):{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} .

وتعرض كتاب الله لوصف هذه الحالة نفسها بالتفصيل في سورة الروم السابقة أيضا، فقال تعالى (54):{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ، وفي صحيح البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول:" أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر " وقد استجاب الله دعاء رسوله فانتقل إلى الرفيق الأعلى وعمره لا يزيد عن ثلاثة وستين عاما. ثم قال تعالى تعقيبا على ذلك: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، إشارة إلى أن الله الذي خلق الإنسان وقضى بتنكيسه في الخلق، بعد مروره بعدة أطوار، قادر على أن يفعل به ما يشاء من موت وبعث وحشر وحساب، ينتهي بالثواب أو العقاب.

وكأن الحق سبحانه وتعالى إنما منح الإنسان في " أفضل العمر " المزيد من القوى والملكات، على العكس من " أرذل العمر "، ليجعله في محك الاختبار، ويبرز كل ما في دخيلة نفسه من الطوايا والأسرار، حتى إذا ما حدد اختياره بمحض إرادته إصلاحا أو إفسادا، وقرر مصيره بنفسه إشقاء أو إسعادا، وأخذت قواه وملكاته في التراجع والنقصان، وأحس بالتخلف عن الحركة،

ص: 277

والعجز عن مسايرة الركبان، تولى الحق سبحانه وتعالى إعداده شيئا فشيئا لاستقبال الدار الآخرة، التي هي وحدها دار الخلود والإقامة، وهنالك ينال الإنسان ما هو أهل له عند ربه من المهانة أو الكرامة، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (37: 35).

وليبطل كتاب الله إحدى شبه المشركين الزائفة التي كان يروجها أعداء الرسول وخصوم الرسالة في فجر الإسلام، وهي ادعاء كون الرسول شاعرا، وكون الكتاب الذي جاء به من عند الله إنما هو من صنف الشعر المتعارف عند العرب، قال تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، لأن رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، التي أرسله الله بها إلى الناس كافة، أجل وأعلى من أن تنزل إلى مستوى الشعر والشعراء أجمعين، فهي مخالفة للشعر شكلا وموضوعا، أصولا وفروعا، ومنذ ذلك العصر تبخرت هذه الشبهة ولم يعد لها أي رواج. ومما نبه إليه القاضي أبو بكر (ابن العربي) في هذا المقام " أن قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، لا يتضمن عيب الشعر، كما أن قوله تعالى (48: 29): {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ، لا يقتضي عيب الكتابة ".

ثم نطق كتاب الله بالقول الفصل في شأن القرآن وشأن الرسالة، فقال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} ، أي: من كان حي القلب حي الضمير، أو كل حي على وجه الأرض، {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، أي: لتقوم

ص: 278

الحجة عليهم، ومن أنذر فقد أعذر، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (15: 17).

وانتقل كتاب الله إلى التذكير بنعمه على الخلق، خصوصا نعمه الظاهرة التي يتقلب فيها الإنسان كل يوم، ومن بينها (الأنعام) التي سخرها الحق سبحانه وتعالى لمصلحة الإنسان، ومنافعها المتعددة الأصناف والألوان، أكلا وشربا ولباسا وتأثيثا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، أي: مما أبدعناه دون شريك ولا معين، {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ، أي: يتصرفون فيها، دون منازع ولا مانع، {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} ، أي: سخرناها لخدمتهم، ووضعناها تحت تصرفهم، قال جار الله الزمخشري، " ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة، ويسبح بقوله:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (13: 43)، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} ، أي: مركوبهم، كالإبل التي هي سفن الصحراء، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} ، أي: ما يختارون لحمه للتغذية والأكل الشهي، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} ، أي: لهم فيها علاوة على ما سبق منافع أخرى من الأصواف والأوبار والأشعار والجلود والشحوم، و {مَشَارِبُ} ، إشارة إلى ما يتمتعون به من ألبانها السائغة للشرب، على غرار ما سبق في قوله تعالى في سورة النحل (66):{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} ، وقوله تعالى في نفس السورة (80): {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا

ص: 279

تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}، ثم قال تعالى:{أَفَلَا يَشْكُرُونَ} ، أي: أفلا يتذكرون هذه النعم الجليلة التي لا يطيب لهم العيش بدونها، ويشكرون الله عليها، بالعبادة الخالصة، والطاعة الدائمة، والتوحيد الذي لا تخالطه ذرة من الشرك، لا من الشرك الجلي ولا من الشرك الخفي.

ومن مقام التذكير بالنعم الإلهية التي أسبغها الحق سبحانه وتعالى على خلقه، عسى أن يعودوا إلى الله ويقدروه حق قدره يعود كتاب الله إلى وصف ما عليه المشركون الضالون، ومن سلك مسلكهم، من الجهل بعظمة الله، والشرك بربوبيته، وعدم الاعتراف بوحدانيته، وعبادة الأصنام والأوثان بدلا من عبادته، والتصدي لمقاومة كل من يطعن في معبوداتهم ويكشف عن حقيقتها، أملا في تلقي نصرها ومعونتها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى بمنتهى الإيجاز:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} .

وللتخفيف من هموم الرسول ومشاغله، من أجل ما يلقاه عليه الصلاة والسلام من أذى المشركين وتعنتهم كل مطلع شمس، خاطبه ربه قائلا:{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .

وكما ذكر كتاب الله الإنسان بنعمة " الأنعام " التي لا يطيب له العيش بدونها ولا المقام، ها هو كتاب الله يذكر الإنسان

ص: 280

بنفسه التي بين جنبيه، ويتساءل بمنتهى الاستغراب كيف ينسى الإنسان أن الله هو الذي أوجده من العدم، وأنه خلقه من ماء مهين، ثم صوره في أحسن صورة، وجعله في أحسن تقويم، وزوده بالعقل والنطق واللسان، إلى أن أصبح فصيحا بليغا يحسن الجدل والقول والبيان، وبدلا من أن يعترف بفضل الله عليه، ها هو يجادل في الحق ويكابر، ولا يتورع عن المجاهرة بأسخف سؤال يوجهه المخلوق إلى الخالق، وإلى هذه المعاني يشير قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} ، أي: يتولى مخاصمة مبدعه وخالقه، ويتشدق بتحدي ممده ورازقه، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ، لكن لم يلبث أن جاءه الجواب المفحم القاطع:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، قال القشيري:" وما دامت الإعادة في معنى الإبداء، فأي إشكال يبقى في جواز الإعادة في الانتهاء ".

وأضاف كتاب الله إلى هذا الجواب، الذي لا يدخله الشك والارتياب، ظاهرة باهرة أخرى هي ظاهرة انقداح النار من الشجر الأخضر، مع ما بين الماء والنار من تضاد في المخبر والمظهر، وهي ظاهرة معترف بها في القديم والحديث، وذلك قوله تعالى في نفس السياق:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} .

وليقضي كتاب الله على جحود المتنطعين وعنادهم، وعلى شك المتحذلقين واستبعادهم، ألقى عليهم الحق سبحانه وتعالى

ص: 281

سؤالا ضخما لا يمكن أن يكون جوابه إلا بالتسليم، من كل ذي عقل سليم، فقال تعالى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} ، الذي عم خلقه كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

وختمت سورة (يس) بخاتمة كلها تسبيح وتقديس، واعتراف بحكمة الله الباهرة، وتمجيد لقدرته القاهرة، وتذكير بسطوته الباطنة والظاهرة، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

والآن وقد انتهينا بحمد الله من تفسير سورة (يس) المكية ننتقل بعون الله إلى تفسير (سورة الصافات المكية) أيضا، قال تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} .

هذا قسم من الله تعالى بملائكته، {الصَّافَّاتِ} بالملأ الأعلى في عبادته، و {الزَّاجِرَاتِ} ، عباده عن معصيته، و {التَّالِيَاتِ} ، كلامه المنزل على رسله لإرشاد الإنسان وهدايته، وهذه الصفة الأخيرة للملائكة جاءت هنا على غرار قوله تعالى فيما سيأتي في سورة المرسلات (5 - 6):{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، عذرا أو نذرا} ، وقال جار الله الزمخشري: " يجوز أن يقسم الله بنفوس العلماء العمال، {الصَّافَّاتِ} ، أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، {فَالزَّاجِرَاتِ} ، بالمواعظ والنصائح، {فَالتَّالِيَاتِ} ، آيات الله، والدارسات

ص: 282

شرائعه، أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله، التي " تصف " الصفوف، و " تزجر " الخيل للجهاد، و " تتلو " الذكر مع ذلك، لا تشغلها عنه الشواغل، كما يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ".

وجواب القسم، المقسم عليه " بالصافات والزاجرات والتاليات "، هو قوله تعالى في نفس السياق:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} ، وما أحسن ما علق به الإمام القشيري على هذه الآية حيث قال:(ومعنى كونه " واحدا " تفرده في حقه عن القسمة، وتقدسه في وجوده عن الشبيه، وتنزهه في ملكه عن الشريك، " واحد " في جلاله، " واحد " في جماله، واحد في أفعاله، واحد في كبريائه، بنعت علائه، ووصف سنائه) وجمعت كلمة " المشارق "، إما باعتبار كل ما يسبح في الفضاءمن شموس وأقمار، وإما باعتبار الشروق اليومي للشمس وحدها طيلة كل نهار.

وبمناسبة ذكر السماوات ومشارقها في فاتحة هذه السورة لفت كتاب الله الأنظار إلى السماء الدنيا وزينتها، فقال تعالى:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى (5: 27): {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، ثم عرفنا بأن الملأ الأعلى الذي ينزل منه الوحي على الأنبياء والمرسلين، هو على الدوام في مأمن من تطفل الكهان والشياطين، وأن من حاول منهم النفاذ إلى حماه، للتشويش على الوحي المنزل من عند الله، أو لهتك أستار " عالم الغيب "، كان

ص: 283

معرضا للطرد والرجم دون أدنى ريب، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا} ، أي: يطردون طردا، على غرار قوله تعالى في آية أخرى (5: 67): {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} ، ثم قال تعالى:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} ، أي: موجع ومؤلم، من الوصب وهو المرض، وقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} ، هذا الاستثناء يرجع إلى غير الوحي، لأن الوحي لا سبيل إلى التطفل عليه، بدليل قوله تعالى هنا:{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} ، وقوله في آية أخرى (212: 26): {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ، أما " عالم الشهادة " المادي فهو مفتوح الأبواب، في وجه كل إنسان، منذ قديم الزمان.

ثم أعاد كتاب الله الكرة لمجابهة منكري البعث وخصوم الرسالة، فقال تعالى:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} ، أي: من السماوات والأرض وما فيهما، وهذه الآية على غرار قوله تعالى (57: 40) {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ، ثم قال تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} ، أي: طين لاصق بعضه ببعض، {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} ، أي: أنت عجبت من إنكارهم للبعث، وهم يسخرون من إثباتك له، {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} ، أي: من آيات الله في الآفاق والأنفس، {يَسْتَسْخِرُونَ} ، أي: يبالغون في السخرية والاستهزاء، {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا

ص: 284

وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ}، أي: مغلوبون على أمركم صاغرون.

وختم هذا الربع بوصف المفاجأة الكبرى التي تنتظرهم، حيث قال تعالى:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} ، أي: إذا هم قيام ينظر بعضهم إلى بعض، و " الزجرة الواحدة " هنا هي الصيحة الواحدة، {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} ، فرد عليهم الملائكة الموكلون بهم:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، والمراد " بيوم الدين " يوم الجزاء، و " بيوم الفصل " يوم القضاء، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (7: 42).

ص: 285