الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موعدنا في هذه الحصة مع الربع الثاني من الحزب الواحد والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
ــ
مما يستلفت النظر ويثير الانتباه ما يدعو إليه كتاب الله ويحض عليه في غير ما آية، من السير في أكناف الأرض طولا وعرضا، وكتاب الله ينوع الأساليب المتبعة في هذه الدعوة الملحة، كما ينوع الأهداف المرجوة منها، فأحيانا يدعو إلى السير في الأرض دعوة عامة، على أن يكون السير فيها بعقل متبصر، وأذن واعية، وعين متفتحة، كقوله تعالى فيما سبق من سورة الحج (46):{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . وأحيانا يدعو إلى النظر فيها للتعرف على ما أودعه في طياتها من أسرار الخلق وبدائع المخلوقات، وخزائن
الملك والملكوت، كقوله تعالى فيما سبق من سورة الأعراف:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (الآية: 185). وقوله تعالى فيما سبق من سورة العنكبوت: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (الآية: 20)، وأحيانا يدعو إلى التنقل في الأرض والسير فيها للبحث عن وسائل العيش وطلب الرزق، كقوله تعالى فيما يأتي من سورة الجمعة:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، وأحيانا يدعو إلى السير في الأرض والنظر فيما تعاقب عليها من عمارة وخراب، وحضارات عظمى لم يحسن أهلها الخلافة عن الله في الأرض، فكان تدميرهم وتدمير حضارتهم أعدل جزاء وأوفى عقاب، كقوله تعالى فيما سبق من سورة النمل:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (الآية: 69)، وقوله تعالى في بداية هذا الربع من سورة الروم:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
ثم يعقد كتاب الله مقارنة بين الحال التي وجد الإسلام عليها الناس عند نزول القرآن، والحالة التي عرفتها البشرية قبل ذلك، في القرون الخالية والأمم البائدة، مشيرا إلى أن الحضارات السابقة كانت أقوى، وأن الأرض كانت أكثر ازدهارا وعمرانا، لكن لما أساء أهلها التصرف فيما آتاهم الله من قوة وثروة وعمران، ولم يهتدوا بالمنهج الإلهي في تدبير شؤونهم، ورموا بكتب الله ورسالاته عرض الحائط، أفلت من يدهم الزمام،
وحكم عليهم لسان القدرة بالإعدام، وذلك قوله تعالى في نفس السياق:{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} ، أي حرثوها واستثمروها إلى أقصى حد، {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} ، ولما كانت السوأى (وهي تأنيث الأسوأ) هي عاقبة الذين أساؤوا كانت الحسنى (وهي تأنيت الأحسن) هي عاقبة الذين أحسنوا، كما قال تعالى في حقهم:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} .
وبين كتاب الله السبب فيما نال الذين أساؤوا من عقاب ودمار، فقال:{أَنْ كَذَّبُوا بِ آيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} .
وقد أكد كتاب الله هذه المعاني مجتمعة مرة أخرى عند قوله تعالى فيما يأتي من سورة غافر (82): {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . ثم قال تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، ومما يدخل تحت هذا المعنى ويتصل به أوثق اتصال قوله تعالى في آية أخرى (133: 4): {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} ، وقوله تعالى في آية ثانية (333: 6): {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} ، وقوله تعالى في آية ثالثة (35: 16): {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} .
وذكر كتاب الله بالحقيقة الكبرى التي أجمعت عليها كافة
النبوات والرسالات، وإن أنكرها المنكرون وجحدها الجاحدون، ألا وهي (قيام الساعة) وما يرافقها من انقلاب شامل وعام في الكون، وما يواكبها من نشر وحشر، وتصنيف للبشر في صنفين اثنين: صنف المؤمنين الذين عملوا الصالحات، ولهم النعيم المقيم، وصنف الكافرين الذين عملوا السيئات ولهم العذاب الأليم، وذلك قوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} أي تصيبهم الحيرة والذهول، لأنهم لم يكونوا يتوقعون قيام الساعة أبدا، يقال:(أبلس الرجل) إذا سكت وانقطعت حجته ولم يؤمل أن تكون له حجة) ثم قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} من (الحبور) وهو السرور والفرح، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِ آيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي يساقون إليه قهرا وقسرا، وقوله تعالى هنا:{يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} عقب قوله أيضا: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى (36: 59): {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .
وبعد أن وصف كتاب الله مظاهر قدرته وحكمته، ودلائل وحدانيته وعظمته، البارزة في ملكوت السماوات والأرض، ووصف تصرفه المطلق في الكون، والتجاء الخلق إليه بدءا وإعادة، إذ هو القاهر فوق عباده، بين أن كل إنسان عاقل لمس جلال الله وجماله، وعظمته وكماله، في نفسه التي بين جنبيه، وفي الكون الباهر من حوله المتجلي أمام عينيه، لا يسعه إلا أن
يتوجه إلى الله بتنزيهه عن كل نقص، وتمجيده بكل كمال، إقرارا بفضله وكرمه، وشكرا على مدده ونعمه، وذلك ما يقتضيه قوله تعالى تلقينا لعباده:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} .
وواضح أن تنزيه العبد لربه يتناول تنزيهه بالقلب، عن طريق الاعتقاد الصحيح الجازم، وتنزيهه باللسان، عن طريق ذكره الحسن بأسمائه الحسنى، وتنزيهه بالجوارح، عن طريق الأعمال الصالحة، وعلى رأسها الصلاة التي هي عماد الدين، لكونها هي الصلة القائمة والدائمة بين العبد وربه، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} لفظ عام يشمل كافة وجوه التنزيه، ويدخل فيه من باب أولى وأحرى إقامة الصلوات الخمس التي يجدد فيها المؤمن عهده مع الله خمس مرات في اليوم والليلة، قيل لابن عباس رضي الله عنه:(هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟) قال نعم، وتلا هذه الآية:{تُمْسُونَ} صلاة المغرب وصلاة العشاء، و {تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر، {وَعَشِيًّا} صلاة العصر، و {تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر.
ولا شك أن مواقيت الصلاة المتعاقبة ترافقها ظواهر كونية يومية عظمى، تتجلى فيها قدرة الله وعظمته، وعلمه وحكمته، وجلاله وجماله، فتكون أنسب الأوقات لإعلان العبد عن تعلقه بالله، وإيمانه بوحدانيته وربوبيته، وتمسكه بعبادته وطاعته.
وقوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بين قوله قبلها: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وقوله بعدها:
{وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} تنبيه إلى أن تنزيه العبد لربه لا يكون تنزيها حقيقيا وتاما إلا إذا صاحبه القيام بحمد الله وشكره على الدوام، إذ هو المحمود سبحانه وتعالى بكل لسان، بلسان الحال ولسان المقال، من كافة الأنام:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (17: 44).
وكيف لا ينزه العاقل ربه سبحانه وهو المنفرد بالإيجاد والإمداد، وهو الذي ينفخ الروح في الكائنات فتسري فيها الحياة متى شاء، ويقبض روحها متى شاء، وإذا كان الله سبحانه قادرا على إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي في النبات والحيوان والإنسان، فكيف لا يكون قادرا على إحياء الميت، قدرته على إماتة الحي، وذلك ما ينطق به قوله تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} .
وأبرز مثال لما ورد في الكتاب، إخراج نوع الإنسان - وهو سيد الأحياء - من بين الطين والتراب، وذلك ما يشير إليه في نفس السياق قوله تعالى هنا:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقوله تعالى في آية أخرى (20: 55): {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} .
ومضى كتاب الله يصف آياته الباهرة، المبثوثة في الأنفس
والآفاق، معرفا ببالغ حكمته، وكامل قدرته، فقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} .
ويلاحظ أن كتاب الله أتبع خلق الإنسان بخلق الزوجة، لأن بها يتم الأنس وينتظم العيش ويزدهر العمران، فهل أحد غير الله يستطيع أن يجعل من الزوج والزوجة، رغم اختلاف طبيعة تكوينهما العضوي والنفسي والعاطفي، شخصية واحدة متكاملة، في ازدواجها سر وحدتها، وهذا المعنى هو الذي يوحي به قوله تعالى هنا في تأكيد الوحدة والألفة بين الزوج والزوجة:{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية (189: 7)، ويوحي به قوله تعالى أيضا في التعريف بسر الزوجية الدفين، حيث يصبح الفرد زوجا، والزوج فردا، عندما يقول:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، و (السكينة) طمأنينة القلب، وراحة البال، ومفتاح السعادة، كما يوحي به قوله تعالى هنا في تحديد نوع العلاقة العاطفية بين الزوج والزوجة:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، و (المودة) شعور هادئ نبيل، متسم بالعمق والصدق والدوام، لا شعور سطحي ثائر وعابر، كالهشيم تذروه الرياح، و (الرحمة) هي العروة الوثقى التي تربط بين الزوجين بعضهما مع بعض، وتربط بينهما وبين من له عليهما أولهما عليه حق من الحقوق: حقوق الأبوة وحقوق البنوة، فبالرحمة المتبادلة والتعاطف المزدوج يشتد التلاحم، لمواجهة الشدائد والملمات، ويسهل تخطي العقبات، والتغلب على الأزمات.
ونظرا لما يتوقف عليه استيعاب هذه المعاني الرئيسية التي تنبني عليها الحياة الزوجية، من تأمل وتدبير وتعمق، جاء التعقيب عليها بقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَ آيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
ثم عرض كتاب الله آية أخرى من آياته الكونية الباهرة، وهذه الآية تبدو لكل ذي عينين في خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنة البشر، واختلاف ألوانهم، فالشخص العادي متى سرح طرفه وأجال فكره في ملكوت السماوات والأرض لا بد أن يؤمن بأن وراء هذا الكون خالقا مبدعا حكيما:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} ، ومتى نظر إلى تكوين الإنسان عضويا ونفسيا وعقليا وجد أنه في خصائصه العامة واحد لا تعدد فيه ولا اختلاف، ولكنه مع ذلك مختلف اللغات واللهجات، مختلف الألوان والصفات، بل إنه حتى عند استعمال اللغة الواحدة يختلف في أشكال النطق والأصوات، فمن الذي جعل من النوع الإنساني نوعا واحدا، ومن الذي جعل من هذه الوحدة أصنافا لا حد لها ولا حصر، سوى الحق سبحانه وتعالى الذي له الخلق والأمر. أما الشخص الذي بلغ من العلم درجة كافية، فإنه يجد المجال أمامه فسيحا لاستكشاف أسرار الكون ونواميس الخليقة، مما يؤهله أكثر فأكثر، لتذوق لطائف الحكمة وعلم الحقيقة، وذلك قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَ آيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} .
وحسب قراءة (الْعَالَمِينَ) بفتح اللام كما في قراءة ورش عندنا يكون المعنى أن التعرف على هذه الآيات الكونية والبشرية
في متناول عموم الخلق، لا يختص به فريق دون فريق، لأنه على مرأى ومسمع منهم جميعا، وتروى فيه قراءة أخرى بكسر اللام، وطبقا لهذه القراءة الثانية يكون المعنى: إن الذين يدركون أسرار هذه الآيات ويستخلصون منها النتائج القريبة والبعيدة، الجامعة بين العلم والإيمان، هم الذين بلغوا درجة كافية من العلم، ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى في آية أخرى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .
وإذا كان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان عند دعاة (العنصرية والشعوبية) مصدرا للتمييز بين السلالات البشرية، ومبررا لتصنيفها طبقات عليا وسفلى، فإن كتاب الله أزال عن هذه الظاهرة كل ما تشم منه رائحة التمييز العنصري بين البشر، واعتبر اختلاف الألسنة والألوان في النوع البشري، مع وحدته الأصلية، آية من آيات الله الكبرى، ودليلا من دلائل قدرته وبالغ حكمته.
وانتقل كتاب الله إلى آية أخرى من آيات الله في الأنفس، وهي ظاهرة النوم بعد اليقظة، والسكون بعد الحركة، التي أكرم الله بها الإنسان، ليستطيع مواصلة الكد والسعي بنشاط وفعالية وإتقان، إذ لو لم يمنح الحق سبحانه عباده حق (الراحة اليومية) بعد التعب، لتعطلت طاقات الجسم والعقل عن العمل، ولما استطاع الإنسان القيام بخلافته عن الله في الأرض على أحسن وجه وأنفع أسلوب، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَ آيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي يسمعون القرآن فيصدقونه، والحق فيتبعونه.
فراحة الاستغراق في النوم خصص لها الحق سبحانه وتعالى فترة الليل، المناسبة للهدوء والسكون، والسعي المتواصل للعمل وكسب الرزق خصص له الحق سبحانه وتعالى فترة النهار، المناسبة للحركة والنشاط، على أن القليل من الاسترخاء والنوم الخفيف خلال بعض فترات النهار كالقيلولة، مما يساعد على تهدئة الأعصاب، وتجديد النشاط، ومضاعفة الإنتاج، حسبما دلت عليه الأبحاث الحديثة، وبذلك نفهم السر في قوله تعالى:{مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، قال جار الله الزمخشري (ويجوز أن يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما)، إذ من الناس من ينام في الليل ومنهم من ينام في النهار، ومن الناس من يسعى لكسب رزقه في النهار: ومنهم من يسعى لكسب رزقه في الليل، حسب ظروف كل واحد ونوع عمله، وهذا هو ما عليه الحال في عصرنا الحاضر، ومقتضى هذه الآية وما شابهها أن الإنسان مطالب من ربه بالكد والعمل على مر الأيام، معترف له في نفس الوقت بحق الراحة والاستجمام.
واستعرض كتاب الله آية أخرى من آيات الله في الآفاق، وهي آية الغيث والمطر، الذي ينزله من سمت السماء على الأرض، عذبا زلالا، فيحيي به الإنسان والحيوان والنبات، ويختزنه بقدرته وحكمته في خزائن أرضه لصالح الأحياء كافة، فيجريه عيونا وينابيع وأنهارا تسد حاجاتهم باستمرار ودون انقطاع، وذلك قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وحيث إن البرق والرعد وتحريك الرياح وتسخير السحاب من الظواهر التي تسبق أو ترافق نزول المطر، طبقا لسنة الله المنظمة للكون، نجد كتاب الله في غير ما آية يلفت إليها الأنظار، لما تحتوي عليه من حكم وأسرار، جديرة بالدرس والتحليل والتأمل والاعتبار.
وقوله تعالى هنا: {خَوْفًا وَطَمَعًا} ، إشارة إلى ما يتقلب فيه الإنسان بطبعه من الخوف والرجاء، فالإنسان عندما يشاهد وميض البرق، أو يسمع هدير الرعد، يخشى أن يكون البرق برقا خلبا لا مطر فيه، أو يكون نذيرا بالصواعق المزمجرة، والزلازل المدمرة، أو يكون مصحوبا بأمطار طوفانية تهلك الحرث والنسل، كما أنه يأمل ويرجو أن يكون البرق مصحوبا بالغيث النافع، فيغاث به الإنسان والحيوان، وتحيى به الأرض بعد موتها، فتنبت من كل زوج بهيج، وسبق بهذا المعنى في سورة الرعد قوله تعالى مع مزيد من البيان:(12: 13): {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} .
أما محاولة (استمطار) السحاب بطريقة صناعية فهي محاولة قاصرة، إذ لا بد من توافر الرياح الصاعدة التي تلقح السحاب ببخار الماء حتى يجود بالمطر، والله تعالى وحده القادر على أن يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته، لأن إرسال الرياح وتصريفها يحتاج إلى طاقة عظمى وتدبير كبير هما
فوق طاقة الإنسان وقدرته المحدودة.
ثم جاء كتاب الله ب آية أخرى تبهر الأبصار والبصائر، وتثير في الإنسان أعجب الخواطر وأعمق المشاعر، ألا وهي آية قيام الكرة الأرضية في الفضاء، في موقعها المحدد لها بأمر الله، واستمرار أجرام السماء سابحة في الفضاء، في نفس الأماكن والمدارات المقدرة لها من عند الله، دون أن تزيغ عن مسارها، أو يصطدم بعضها ببعض في فضاء الكون الفسيح، دون أن تعتمد على أعمدة أو دعائم، مما اعتاده الإنسان في كل بناء قائم، وذلك ما يفصح عنه كتاب الله هنا في إيجاز وإعجاز، إذ يقول:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} . . ويزيد هذا المعنى توضيحا وتفصيلا قوله تعالى فيما سبق من سورة الرعد (2): {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، وقوله تعالى فيما سبق من سورة الحج (65):{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، وقوله تعالى فيما سيأتي من سورة فاطر (41):{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} .
وهذه الظاهرة الكونية هي التي اصطلح العلم الحديث فيما وصل إليه حتى الآن من بحث واستطلاع، على تسميتها "بقوة الجاذبية" وهذه الجاذبية قائمة بين الأرض وما عليها، وبين الأرض وما عداها من الكواكب، وبين كل كوكب وآخر.
ومن وصف آيات الله في الأنفس والآفاق اتجه كتاب الله
إلى تذكير الغافلين والجاحدين بحقيقة البعث التي لا مجال للشك فيها، وحقيقة السطوة الإلهية المبسوطة على خلقه، الأحياء منهم والأموات، ولو كان بعض المتكبرين منهم لها كارهين، وذلك قوله تعالى:{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي خاضعون لأمره المطاع: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وإنما قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} تقريبا للفهم، وجريا على المعتاد بين الناس، من أن إنشاء الشيء لأول مرة يكون أصعب من إعادته، وإعادته تكون أسهل من إنشائه، وإلا فالحق سبحانه وتعالى قادر على كل شيء بدءاً وإعادة:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82: 36)، وهذا التنزيه عن التشبيه هو المراد بقوله تعالى في نفس السياق:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ، أي هو فوق تصورات الخلق وتخيلاتهم، وله الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله إذ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
ثم تصدى كتاب الله للاعتراض على المشركين البسطاء، الذين يشركون بالله والأوثان والأصنام، إذ يقولون:(لبيك لا شريك لك) إلا شريكا هولك، تملكه وما ملك)، مبينا تناقضهم وتهافتهم في منطقهم الساذج البسيط، عندما لا يقبلون أن يكون مماليكهم شركاء لهم في شيء، نظرا للفرق الشاسع الذي يعتقدونه قائما بين الفئتين، بينما هم يعتبرون أصنامهم مملوكين لله
وشركاء له في وقت واحد، الأمر الذي لا يرضونه لأنفسهم بالنسبة لمماليكهم، وذلك قوله تعالى خطابا للمشركين {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . وواضح أن كتاب الله يجعل الرزق مشتركا ومشاعا بين جميع الفئات، ولا يرضى بأن تحتكره طبقة من الطبقات، وإلى ذلك يشير قوله تعالى هنا:{فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} .
وبعد أن استوفى كتاب الله في هذا الربع وصف عدد من آيات الله في الأنفس والآفاق عقب على ذلك كله قائلا: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فجعل ملكة العقل هي مفتاح الإقناع والاقتناع، متى استعملها الإنسان استعمالا موضوعيا ومنهجيا سليما، وكان باحثا عن الحق الصراح والحقيقة المجردة دون هوى سابق، ولا تعصب لاحق، وتأكيدا لهذا المعنى قال تعالى في ختام هذا الربع:{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .