الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديثنا اليوم تفسير الربع الثالث من الحزب التاسع والأربعين فى المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} ، إلى قوله تعالى:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} .
ــ
في بداية هذا الربع يقرر كتاب الله حقيقة كونية طالما غفلت عنها الأنظار، ألا وهي أن الحق سبحانه وتعالى منذ اقتضت مشيئته أن يتكفل برزق الإنسان اقتضت حكمته أن لا يرزقه إلا بحساب، وبقدر محدود، وأن لا يمنحه كل ما يطمع فيه، إذ إن أنانية الإنسان الجامحة، وميله إلى التبذير والإسراف، لا يحدهما شيء، فالإنسان كائن ضعيف تستهويه الملذات، وتغريه المغريات، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (28: 4)، وقلما يعرف التوازن والاعتدال في سلوكه ومطالبه، بل إنه متى استغنى طغى وبغى {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (6: 96)، وفقد توازنه،
ونسي ربه، واستغل عطاء الله الواسع في المزيد من المعاصي والسيئات، لا في المزيد من الحسنات والطاعات، والله تعالى حين يقدر رزق الإنسان ولا يبسطه له إلى أقصى الحدود إنما يتصرف في ملكه عن خبرة تامة بهذا الإنسان الذي خلقه من العدم، وعن علم محيط بخلجات نفسه، وهواجس حسه، ولأجل أن لا ينقلب الإنسان طاغيا باغيا مطلق العنان في هذا الكون بالمرة جعل الحق سبحانه وتعالى مقاليد رزق الإنسان بيده، واضطر الإنسان لأن يبقى معلقا بين الخوف والرجاء دائما، ذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
وعلى ضوء هذه الآية الكريمة لا يستغرب أحد أن يسمع صيحات الخطر والإنذار، التي تطلقها المنظمات الدولية المختلفة، بقرب مجاعة عالمية قد تكتسح العالم، وتكون كارثة كبرى على البشرية، فالشعور بهذا الخطر قائم لا محالة بشكل أو آخر، ومن مقتضيات الحكمة الإلهية أن يكون شبح هذا الخطر ماثلا للأنظار، حتى يتذكر الإنسان - تحت تأثيره - رسالته الحقيقية في هذا الكون، ويعود إلى حظيرة الاعتدال والتوازن في مطالبه وشهواته قدر الإمكان، وكما قال تعالى في هذه الآية:{وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} ، قال في آية سابقة عند الكلام على خلق الأرض:{وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ، ثم عقب على ذلك فقال:{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (12: 41).
وبعد تقرير القرآن الكريم لهذه الحقيقة الكونية أتبعها
كتاب الله بالتعقيب عليها، مبينا أن لطف الله بالإنسان، ورحمته إياه، لن يمسكهما عن خلقه كلما احتاجوا إليهما، وتوقفوا عليهما، إذ إن رحمته وسعت كل شيء، فقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} ، وفي سياق هذه الآية جاءت كلمة (الغيث) بالخصوص، بدلا من كلمة (المطر) التي أكثر استعمالا وشيوعا، إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى متكفل بأن يغيث عباده ويرحمهم بعد اليأس والقنوط، فينجدهم بإنزال المطر كلما بسطوا أكف الضراعة إليه، سائلين الغوث والنجدة من خالقهم ورازقهم على الدوام، على غرار قوله تعالى في سورة الروم:(49: 48){فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} .
وقوله تعالى في نفس السياق: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} ، إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف لخلقه إلا بما ينفعهم دنيا وأخرى، فهو (وليهم) الحق، الذي يتولاهم بفضله وإحسانه، والذي يجب أن يتولوه بالسعي إلى مرضاته، والانقياد لأوامره، وهو سبحانه (الحميد) أي المحمود العاقبة في جميع ما يقدر ويفعله، لتوجيه خلقه ومصلحتهم.
ومضى كتاب الله يتحدث عن آيات الله الباهرة في كونه الفسيح، وفي الطليعة: خلق السماوات والأرض وما بثه سبحانه في العالم العلوي والعالم السفلي من كائنات وأحياء لا يحصيها عد، وقد مضى على الإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض مئات
الآلاف من السنين، وهو لا يزال عاجزا عن فهم هذا النظام العجيب، مشدوها أمام أسراره وعجائبه.
وبين كتاب الله أن الخالق الذي خلق هذه الكائنات والأحياء، وبثها ووزعها في السماوات والأرض قادر على أن يجمعها جميعا في صعيد واحد متى شاء، وفي ذلك مظهر آخر من مظاهر قدرته المبسوطة على كل شيء، ومظاهر علمه المحيط بكل شيء، وذلك قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} ، ولفظ (دابة) في هذه الآية حمله ابن كثير على ما يشمل الملائكة والجن والإنس وباقي الحيوانات، بخلاف لفظ (دابة) الوارد في قوله تعالى (45: 35): {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} ، فإن معناه قاصر على ما يدب من الكائنات الحية فوق ظهر الأرض.
وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} ، يشير إلى ما يأمر به الحق سبحانه وتعالى عند قيام الساعة من (جمع المخلوقات) كلها عند النشر والحشر والحساب في عرصات القيامة، وفقا لقوله تعالى فيما سبق من هذه السورة (7):{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ، ولقوله تعالى في سورة التغابن (9):{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} ، ولقوله تعالى في سورة الكهف (99):{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} ولقوله تعالى في سورة آل عمران (9): {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ
لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، ولقوله تعالى في سورة الواقعة (50):{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} ، ولا يصح حمل هذه الآية على (رواد الفضاء) كما ارتآه بعضهم، فإن ذلك تكلف لا تطاوعه هذه الآية ولا الآيات الأخرى التي تفسر معناها أوضح تفسير.
وتناولت آيات هذا الربع الحديث عن قدرة الله القاهرة في تحريك الرياح وتسكينها، وما لها من تأثير بالغ على نشاط الإنسان في عالم الملاحة البحرية، والحديث عن {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} ، والحديث عن {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، والحديث عن {الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، والحديث عن الخاسرين {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . كما تناولت الآيات ذكر (الشورى) بين المسلمين، ومن أجل ذلك أطلق على هذه السورة اسم (سورة الشورى) تنويها بها، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} ، ففي هذه الآية الكريمة وصف الله المؤمنين حقا بالأوصاف الكاشفة عن حقيقتهم، وبالنعوت المنبثقة عن عقيدتهم، فهم قبل كل شيء مجتنبون للآثام والفواحش، بحيث لا يقربونها، ملتزمون للاعتدال والرضى في علاقاتهم، مالكون لأنفسهم عند الغضب، سالمون من الحقد على غيرهم، وهم لا يختلفون عن الاستجابة لأوامر الله والعمل
بتوجيهاته في مختلف الشؤون، وهم قوامون بالصلاة التي هي عماد الدين، يؤدونها ويؤدون لها حقها، فتنعكس آثارها الظاهرة والباطنة في حياتهم اليومية، وهم كرماء الأيدي لا يبخلون بالإحسان والأنفاق مما رزقهم الله، في وجوه الخير وسبيل المعروف، وهم أعزاء النفوس، لا يتحملون من خصوم الحق أي ضيم أو هوان، بل ينتصفون منهم، وينتصرون للحق وبالحق عليهم، وهم إلى جانب هذا كله، وفي هذا الجو الأخلاقي السليم، والروحي الطاهر، يتشاورون فيما بينهم في شؤونهم العامة، بنفوس طاهرة، وقلوب صافية، ولا غرض لهم من الشورى إلا تحقيق أهداف الإسلام السامية، ولأمر ما أدمجت الآية الكريمة صفة (التشاور بين المسلمين) ضمن مجموعة متناسقة من الصفات الضرورية، التي لا غنى للإسلام عنها، والتي لا يتحقق مدلوله بدونها، ولم تأت بصفة (الشورى) وحدها مجردة عن بقية الصفات، ولا منفصلة عن بقية الشروط، لأن الشورى في نظر الإسلام لا توتي أكلها، ولا تؤدي الغرض منها، إلا إذا كانت تحيطها كافة الضمانات الدينية والأخلاقية والنفسية المطلوبة في أهل الشورى، فهذه الآية الكريمة تعطي للمسلمين التوجيه الكافي، وتضع أيديهم على الصفات الضرورية، والمؤهلات البارزة، المطلوبة فيمن يختارونه ليكون من أهل الشورى، ومما تجب ملاحظته في هذا المقام - ونحن في سورة الشورى المكية- أن الشورى في الإسلام كانت من عقائده الأساسية التي برز بها وهو لا يزال في نفس مكة، والإسلام إذ ذاك لم يتمكن بعد من إقامة دولته الأولى بالمدينة المنورة، فعقيدة
الشورى وعقيدة التوحيد برزتا في الإسلام في وقت واحد، وهما من خصائص المجتمع الإسلامي ومميزات الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى. قال القاضي أبو بكر (ابن العربي) المعافري عند تفسيره لهذه الآية:(الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا. ونقل عن بعض العقلاء أنه قال: ما أخطأت قط: إذا حزبني أمر شاورت قومي، ففعلت الذي يرون، فإن أصبت فهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون).
وفي ختام هذا الربع تناولت الآيات الكريمة موضوعا قوي الحساسية بالنسبة للنسل والذرية، وذلك قوله تعالى:{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} ، وبديهي أن موضوع (الذرية) له علاقة وثيقة بموضوع (الرزق) الذي أشارت إليه أول آية في هذا الربع:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} ، فكما أن الله ينزل بقدر ما يشاء من الرزق، كذلك يهب من يشاء من الذرية أو لا يهب. قال ابن كثير في تفسيره تعليقا على مضمون هذه الآية:(فجعل الناس أربعة أقسام، منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا، ومنهم من يمنعهم هذا وهذا، فبجعله عقيما لا نسل له ولا ولد، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، {قَدِيرٌ}، أي على ما يشاء من تفاوت الناس في ذلك)، ثم مضى ابن كثير يقول: (وهذا المقام شبيه بمقام آخر،
حيث خلق الله الخلق على أربعة أقسام، فآدم عليه السلام مخلوق من تراب، لا من ذكر ولا أنثى، وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا أنثى، وعيسى عليه السلام مخلوق من أنثى بلا ذكر، وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام مخلوقون من ذكر وأنثى، فهذا المقام في الآباء والمقام الأول في الأبناء، وكل منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير).