الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موعدنا في هذه الحصة مع الربع الأخير من الحزب الثاني والأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة الأحزاب:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} ، إلى قوله تعالى في نفس السورة:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .
ــ
يواصل كتاب الله في هذا الربع كشف الستار عن المنافقين الذين كانوا مندسين بين المسلمين، فبرز نفاقهم بشكل واضح، عندما زحفت أحزاب الشرك والكفر على مدينة الرسول، تريد القضاء عليه وعلى دينه والمؤمنين، فقال تعالى وهو يصف ما قاموا به من تعويق وتثبيط وراء الجبهة، ومن تثاقل عند الاضطرار للالتحاق بها، وتكاسل عن العمل مع الآخرين فيها:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} .
ثم وصف كتاب الله حال المنافقين الجبناء عندما رأوا قوة
أحزاب الشرك والكفر، فتملكهم الخوف من كل جانب، وحالهم بعدما ولت تلك الأحزاب الأدبار، لا يهمهم إلا النجاة بأنفسهم إن توقعوا للمسلمين الهزيمة، وإذا غلب المسلمون كانوا أكثر الناس شرها وطمعا في الغنيمة، ولو أن دورهم في كلا الحالين قاصر على مجرد الدس والغيبة والنميمة، وذلك قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .
ورغما عن أن أحزاب الشرك والكفر التي تجمعت حول المدينة ألقى الله في قلوبها الرعب، واضطرت إلى الرحيل، فإن المنافقين ظلوا في شك من هذا الأمر، معتقدين أنها لا تزال تحاصر المدينة، ففروا إلى بيوتهم، حرصا على السلامة، وذلك قوله تعالى:{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} .
على أن أمنية المنافقين كانت هي أن يقع زحف الأحزاب على المدينة وهم متغيبون عنها في البادية بين الأعراب، حتى لا يتورطوا في نزال ولا قتال، ويكتفوا في هذه الحالة بمجرد السؤال: ما هي أنباء المعركة التي تدور بين المسلمين وأعدائهم؟ وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} وإذا تظاهر أحد منهم بالاستعداد لخوض المعركة، رغبة في التجسس وحب الاستطلاع، لم يبذل إلا أقل التضحيات وأضعف الجهود، كما قال تعالى في نفس
السياق: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} ، تأكيدا لقوله تعالى في وصفهم أوائل هذا الربع:{وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} .
وإذا كان كتاب الله قد سجل على المنافقين خيانتهم لعهد الله، وتحفظهم المريب وتثاقلهم عن أداء الواجب، كلما دعاهم رسول الله، فها هو كتاب الله على العكس من ذلك ينوه بجهود المؤمنين الصادقين، ومسارعتهم إلى بذل الأنفس والأموال، وخوضهم المعارك دون تحفظ ولا تثاقل، كلما اضطروا إلى حمل السلاح والقتال، وفاءً بما عاهدوا الله عليه، ودفاعا عن دين الحق الذي أكرمهم الله بالانتماء إليه، وعلى رأسهم جميعا سيد الخلق (نبي المرحمة، ونبي الملحمة) رسول الله وخاتم النبيين، الذي هو قدوتهم وقدوة كافة المؤمنين، وذلك قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
وواضح أن رسول الله كان خير قدوة لأصحابه من الأنصار والمهاجرين، وهو خير قدوة لكافة المؤمنين إلى يوم الدين، وقد ضرب المثل بنفسه للذين آمنوا معه، عندما دعاهم
إلى مقاومة أحزاب الشرك والكفر، ووافق على إقامة خندق للدفاع عن المدينة، وكان أول من شمر عن ساعده، وتناول آلة الحفر وآلة تفتيت الصخر بيده الكريمة، إلى جانب أصحابه الكرام، وهم يقومون بحفر الخندق، فكان حفره بقيادة رسول الله وبركته من أعظم المفاجآت، التي حالت بين تلك الأحزاب والاستيلاء على عاصمة الإسلام الأولى.
ولما كان الائتساء برسول الله والاقتداء به على الوجه الأكمل، مقاما كبيرا في الدين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل الإنسان الكامل بين العالمين، نبه كتاب الله على أن هذا المقام لا يبلغه إلا الأصفياء الأتقياء من أقوياء الإيمان واليقين، وهذا معنى قوله تعالى:{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} ، بعد قوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وقول المؤمنين عندما رأوا تألب الآلاف المؤلفة من أحزاب الشرك والكفر عليهم: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، إشارة إلى قوله تعالى فيما سبق من سورة البقرة، وهي أول سورة نزلت بالمدينة، مخاطبا للمؤمنين الأولين (212):{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ، وقولهم {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إشارة إلى قوله تعالى في ختام تلك الآية:{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} ، أي من وفى
بما عاهد عليه الله، كمن كان عليه دين وقضى دينه، واستعمل (النحب) هنا بمعنى النذر يلتزم به الشخص، أو العهد الذي يأخذه على نفسه، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ، أي: من ينتظر الشهادة في سبيل الله وفاءً بالعهد، وانتظاراً للوعد، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} ، أي: ما بدلوا نذرهم ولا عهدهم، والله تعالى لا يخلف وعدهم.
وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، معناه أنهم إذا ماتوا على النفاق عذبوا وكانوا في الدرك الأسفل من النار، وإذا تابوا من نفاقهم وآمنوا حق الإيمان تاب الله عليهم، وألحقوا بالمؤمنين الأبرار، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
ثم تولى كتاب الله وصف النهاية الفاشلة التي انتهى إليها حلف أحزاب الشرك والكفر ضد الرسول والمؤمنين، ووصف النهاية الظافرة، التي توجت جهود المقاومة الإسلامية، برحيل تلك الأحزاب، وعودتها من حيث أتت بخفي حنين، وتقليم أظفار يهود بني قريظة، الذين بادروا إلى نقض عهدهم مع المسلمين، والتحالف مع الأحزاب، بمجرد زحفها على المدينة، أملا في القضاء على الإسلام، والتخلص منه في الحين. فقال تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} ، أي: ردهم بأخسر صفقة، خائبين منهزمين، ممتلئين غيظا وحنقا، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ، أي: بما آتاهم من عون ظاهر وخفي، فقد وفقهم إلى مفاجأة المغيرين بما لم يكن في
الحسبان، وذلك بحفر خندق يحمي المدينة أثناء حصارها من كل عدوان، كما سلط الله على أعدائهم ريحا عاتية شتتت شملهم، وقطعت حبلهم، وجعلتهم في حالة رعب وفزع وعويل، لا يهمهم معها إلا الانصراف والرحيل:{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} ، أمد رسوله والمؤمنين بقوته، وأعز دينه الحق بعزته، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ، ثم قال تعالى:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} ، أي: مكن الله للمسلمين من يهود بني قريظة الذين تقع مساكنهم على بعد بضعة أميال من المدينة، فاستغلوا قربهم منها، وقلبوا للمسلمين ظهر المجن، وتضامنوا مع أحزاب الشرك الزاحفة عليهم، ظنا منهم أن فرصة القضاء على الإسلام قد حل أجلها، مع أنهم يعدون من (أهل الكتاب)، كما وصفهم الله في هذه الآية، لا من أهل الوثنية والشرك. والحليف الطبيعي لهم، الذي كان المنطق يقضي بتأييده ومناصرته هو دين الحق، الذي جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب، لا دين الوثنية الباطل، الذي لا يؤمن بأي كتاب، ولذلك ما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود من رباطه بالخندق، بعد جلاء الأحزاب عن المدينة، حتى أوحي إليه أن ينهض من فوره إلى حصار بني قريظة في قراهم المحصنة، القريبة من نفس المدينة، عقابا لهم على جريمة الغدر، وتأديبا لهم على خيانة العهد والضرب من الخلف، فحاصرهم رسول الله والمؤمنون خمسا وعشرين ليلة، ولما طال عليهم الحصار، ولم يجدوا وسيلة للفرار، لم يسعهم إلا الخضوع والاستسلام، لجنود الإسلام، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنزلون
على حكمي" فأبوا، فقال:(على حكم سعد بن معاذ) فرضوا به، لأن سعد بن معاذ كان هو سيد الأوس، والأوس كانوا في الجاهلية حلفاء لبني قريظة، فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، حيث كان نازلا في قبة بالمسجد النبوي، يعالج فيها من سهم أصابه أيام الخندق، فلما حضر ودنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله:(قوموا إلى سيدكم)، فقام إليه المسلمون وأنزلوه من مطيته، إجلالا واحتراما له في محل ولايته، ليكون ذلك أنفذ لحكمه، فلما جلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء - وأشار إلى بني قريظة ومعهم سيدهم كعب بن أسد الذي نقض العهد- قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت، فقال سعد:(وحكمي نافذ عليهم؟) فقال رسول الله: (نعم) ثم قال سعد: (وعلى من في هذه الخيمة؟) قال رسول الله: (نعم) ثم قال سعد: (وعلى من هاهنا) - وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض بوجهه عن رسول الله إجلالا وإكراما - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فنطق سعد بن معاذ بحكمه بعد أن ارتضاه الجميع حكما، والتزمت الأطراف المعنية كلها تنفيذ حكمه، وقال:(إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة)، أي: من فوق سبع سماوات. وكان مقاتلتهم ما بين سبعمائة إلى الثمانمائة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا في نفس السياق بغاية الإيجاز والإعجاز:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} ، لأنها كانت خاصة بهم،
ومحرما دخولها على غيرهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} ، يعفو عمن يستحق العفو والإكرام، وينتقم ممن لا ينفع فيه إلا الانتقام.
وكما تحدث كتاب الله في الربع الماضي عن حالة (الظهار) وحالة (التبني) وعلاقة أولي الأرحام بعضهم مع بعض، وعلاقة المؤمنين بالرسول الأعظم وبأزواجه أمهات المؤمنين، فبين حكم الله فيما وصفه من تلك الحالات، وحدد نوع العلاقات الشرعية في تلك المجالات، ها هو يعود مرة أخرى إلى الحديث عن بعض الموضوعات التي لها نوع ارتباط واتصال بما سبق، وفي طليعتها وضع الأسرة النبوية، من الناحية المادية والناحية الأدبية.
وحيث أن للإنسان حالتين: حالة هو فيها تسمى (الدنيا)، وحالة لا بد أن يصير إليها وهي (الأخرى)، والإنسان فيما بينهما إما أن يحصر مطالبه ويركز اهتمامه على الحالة الأولى، أو يحصر مطالبه ويركز اهتمامه على الحالة الثانية، أو يهتم بالحالتين معا وبما يلزمهما من مطالب مشتركة، فقد أمر الله رسوله أن يجري استفتاء بين أزواجه، ويطلب منهن التعبير بصراحة عن رغبتهن الدفينة هل يردن الحياة الدنيا وزينتها، ولا يجدن الراحة وهدوء البال، في عيشة الإقلال وضيق الحال، التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأهله، أم يردن الله ورسوله والدار الآخرة، فيقنعن من متاع الدنيا بالقليل، ويكتفين بالمكانة الدينية والأدبية التي ينفردن بها عن نساء العالم، إذ ليس لها بينهن مثيل، وذلك
ما يتضمنه قوله تعالى مخاطبا رسوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} .
وهكذا أصبح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام اختيار حاسم، فمن اختارت منهن الحياة الدنيا وزينتها واعتبرت الجانب المادي أهم من الجانب الروحي كان لها الحق في السراح الجميل والمتاع بالمعروف، ونتيجة ذلك مفارقة بيت الرسول والخروج من عصمته، ومن اختارت الله ورسوله، وقدرت حظوة الانتماء إلى بيت الرسول، والاندماج في أهله حق قدرها، دون أن تعير اهتماما كبيرا للجانب المادي العابر، بقيت في بيت الرسول، فحافظت على مالها من مقام كريم، وفازت من الله - جزاء إحسانها - بالأجر العظيم.
والمراد (بالسراح الجميل) في هذه الآية مفارقة الزوج لزوجته دون أن يلحق بها أي ضرر، لا من الناحية الأدبية، بالإساءة إلى عرضها أو ذكر عيوبها، ولا من الناحية المادية، بمفارقتها في غير الوقت المشروع للفراق، أو بتضييع حق من حقوقها. ونظير هذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة في آية سابقة (229):{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وقوله تعالى في آية لاحقة من هذه السورة (49):{وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .
ومعنى قوله تعالى هنا: {أُمَتِّعْكُنَّ} ، أي: أمنحكن عند
الفراق عطاء مناسبا، من باب المواساة والتسلية، والعون على اجتياز مرحلة الفراق الصعبة، في انتظار استئناف حياة زوجية جديدة، وسبق في سورة البقرة (236) قوله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، وقوله تعالى في آية أخرى (241):{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، أما نتيجة استفتاء الرسول لأزواجه حول نمط العيش الذي يرغبن فيه، ويحرصن عليه، فقد كانت هي موافقة الواحدة تلو الأخرى، عن رضى واقتناع، على البقاء في عصمته، والتمسك بعدم مفارقته، والاكتفاء بما قسم الله له في معيشته، تعلقا بمحبته وطاعته.
وإشعارا لأزواج الرسول عليه السلام، بالمكانة الخاصة التي يتمتعن بها، والمسؤولية التي تقع على عاتقهن بسبب وجودهن في بيت الرسول، وكونهن من أهله، وموضع الاقتداء لأمته أخبرهن كتاب الله من باب التنبيه والتحذير: أنه كلما عظمت الحرمات، تضاعفت عند هتكها العقوبات، وكلما ازداد الفعل قبحا ازداد عقابه شدة، وذلك قوله تعالى وهو يخاطبهن في نهاية هذا الربع:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .