المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(12) عذاب القبر ونعيمه وضغطته - الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق - جـ ٨

[السبكي، محمود خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌(10) محظورات القبر

- ‌(11) سؤال القبر وفتنته

- ‌(12) عذاب القبر ونعيمه وضغطته

- ‌(13) المشي بالنعلين بين القبور

- ‌(14) دفن أكثر من واحد في القبر

- ‌(15) نبش القبر

- ‌(16) نقل الميت

- ‌(17) إعداد القبر

- ‌(18) وضع الجريد على القبر

- ‌(الشهيد)

- ‌(أ) تعريفه:

- ‌(ب) تجهيز الشهيد:

- ‌(جـ) الشهيد غير المكلف:

- ‌(د) الشهيد غير الطاهر:

- ‌(هـ) كفن الشهيد:

- ‌(و) من لا يعتبر شهيدا:

- ‌يتصل بما يتعلق بالميت أربعة أصول:

- ‌(أ) التعزية

- ‌(ب) صنع الطعام لأهل الميت ومنهم

- ‌(جـ) زيارة القبور

- ‌(د) القرب تهدي إلى الميت

- ‌الزكاة

- ‌(أ) زكاة النعم

- ‌(ب) زكاة الأثمان

- ‌(جـ) زكاة العروض

- ‌(د) زكاة الزروع والثمار

- ‌(هـ) المعدن والركاز

- ‌الصيام

- ‌(1) فضل الصيام:

- ‌(2) وقت الصوم:

- ‌(3) شروط الصيام

- ‌(4) أقسام الصيام

- ‌(أ) صيام رمضان:

- ‌(ب) الصوم الفرض غير المعين

- ‌(جـ) الصوم المنهي عنه

- ‌(د) صوم التطوع

- ‌(5) آداب الصيام

- ‌(6) ما يباح للصائم

- ‌(7) ما يكره للصائم:

- ‌(8) ما لا يفسد الصوم

- ‌(9) ما يفسد الصوم

- ‌(10) الأعذار المبيحة للفطر

- ‌(11) بدع رمضان

- ‌(12) الموضوع في الصيام

- ‌(13) الاعتكاف

الفصل: ‌(12) عذاب القبر ونعيمه وضغطته

(12) عذاب القبر ونعيمه وضغطته

تقدم أنه يجب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وهو ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله

غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون" (1).

(1) سورة الأنعام: آية 93: "ولو ترى" يا محمد أو كل راء "إذ الظالمون في غمرات الموت" أي سكراته وكرباته، جمع غمرة وهي الشدة، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، ثم استعملت في الشدائد والمكاره "والملائكة باسطوا أيديهم" بالضرب والتعذيب يضربون وجوههم وأدبارهم" سورة الأنفال: آية 52. يضربونهم حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم يقولون لهم: "أخرجوا أنفسكم" من هذه الغمرات التي وقعتم فيها أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب. أو أخرجوا أرواحكم من أجسادكم وسلموها إلينا. وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والسلاسل والأغلال والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج، فتضربه الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم "اليوم تجزون عذاب الهون" أي الهوان الذي تصيرون به في إهانة وذلك بعد ما كنتم فيه من الكبر والتعاظم "بما كنتم تقولون على الله غير الحق" أي بسبب قولكم غير الحق من إنكار إنزال الله الكتب على رسله والإشراك به "وكنتم عن آياته" أي عن التصديق بها والعمل بمقتضاها "تستكبرون" أي تتعاظمون عن الإيمان بالله والقرآن وكان ما جوزيتم به من عذاب الهوان جزاء وفاقا (روى) علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "والملائكة باسطوا أيديهم" قال: هذا عذاب الموت. والبسط: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم. أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وابن منده (انظر ص 151 ج 3 فتح الباري) ويشهد له قوله تعالى:"فكيف إذا توفهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم" سورة القتال: آية 27. وفي الآية حجة على أن النفس والروح شيء واحد لقوله تعالى: "أخرجوا أنفسكم" والمراد الأرواح.

ص: 18

خاطبوهم عند الموت بقولهم: اليوم تجزون عذاب الهون. وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة (1).

وقال تعالى: "فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء العذاب* النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (2).

(1) انظر ص 151 ج 3 فتح الباري. وقال الحافظ: وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله.

(2)

سورة غافر: آية 45 و 46 "وحاق بآل فرعون" أي أحاط ونزل بفرعون وقومه "سوء العذاب" وهو الغرق في الدنيا والعذاب بنار الجحيم في العقبى. وبين ذلك بقوله "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" أي صباحا ومساء ما بقيت الدنيا فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولذا قال:"ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" أي يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد عذاب النار ألما وأعظمه نكالا (أنظر ص 481 ج 4 فتح القدير للشوكاني) فالآية حجة في إثبات عذاب القبر، وفيها رد على من أنكره مطلقا لا على من خصه بالكفار، وفيها دليل على أن الأرواح باقية بعد فراقها، وهو قول أهل السنة والجماعة.

"فائدة" هذه الآية مكية وقد استدل بها على عذاب القبر وقد روى إسحاق بن سعيد عن أبيه عن عائشة أن يهودية كانت تخدمها (بضم الدال وكسرها) فلا تصنع إليها عائشة شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر. قالت: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله قل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال: لا. وعم ذلك (أي لم تسألين عن ذلك) قالت: هذه اليهودية لا نصنع إليها شيئا من المعروف وإلا قالت: وقاك الله عذاب القبر. قال: كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس أظلتكم الفتن كقطع الليل المظلم. أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق" أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح (أنظر ص 54 ج 3 مجمع الزوائد "ما جاء في عذاب القبر").

(وقالت) عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: أشعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فارتاع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما تفتن اليهود. فقالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحى إلي أنكم تفتنون في القبور؟ فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يستعيذ من عذاب القبر. أخرجه أحمد ومسلم (انظر ص 121 ج 8 - الفتح الرباني) فهذان الحديثان يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علم بعموم عذاب القبر وهو بالمدينة. وآية "النار يمرضون عليها غدوا وعشيا" وآية "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين" مكيتان، وفيهما دليل على عذاب القبر لغير المؤمنين (أنظر ص 153 ج 3 فتح الباري).

ص: 19

ذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.

وقال تعالى: "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون"(1).

احتج ابن عباس على عذاب القبر، وذلك لأن قوله "من العذاب الأدنى" يدل على أنه يبقى بعد ما يذوقونه منه في الدنيا بقية يذوقونها بعد الموت، والعذاب الأكبر بعد الحشر. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، فإن الذي يصل إليه بعض ذلك ويبقى أكثره.

وقال تعالى: "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم"(2).

(1) سورة السجدة: آية 21 (والعذاب الأدنى) مصائب الدنيا وفتنة القبر وعذابه (والعذاب الأكبر) عذاب الآخرة "لعلهم يرجعون" أي لعل من بقى منهم يثوب فيرجع.

(2)

سورة التوبة: آية 101. و (مردوا على النفاق) أي مرنوا واستمروا عليه وثبتوا عليه ثبوتا شديدا ومهروا فيه حتى خفى أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بسائر المؤمنين ولذا قال: "لا تعلمهم" أي لا تعلم أعيانهم فلا ينافى أن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول" سورة القتال: آية 30. ولقوله "نحن نعلمهم" مقرر لما قبله لما فيه من الدلالة على أنهم مهروا في النفاق ورسخوا فيه على وجه يخفي على البشر ولا يظهر لغير الله تعالى لعلمه بما يخفي وما تكنه الضمائر. ثم توعدهم بقوله "ستعذبهم مرتين" أي في الدنيا بالفضيحة وإظهار حالهم وفي القبر بالعذاب والنكال "ثم يردون إلى عذاب عظيم" وهو عذاب الآخرة في النار.

(روى) أبو مالك عن ابن عباس في قوله "وممن حولكم من الأعراب" الآية، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال "أخرج يا فلان إنك منافق وأخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم. فجاء عمر وهم يخروجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة (أي أنه لما رآهم خارجين ظن أنهم فرغوا من الصلاة فاستحيا أن يواجههم) وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر. ظنوا أنه قد علم بأمرهم، فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين اليوم. قال ابن عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد والعذاب الثاني عذاب القبر. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط (انظر ص 231 ج 4 تفسير ابن كثير).

ص: 20

والأحاديث في هذا كثيرة: (منها) حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فاستوهبتها طيبا، فوهبت لها عائشة، فقالت: أجارك الله من عذاب القبر، قالت: فوقع في نفسي من ذلك حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قلت: يا رسول الله، إن للقبر عذابا؟ قال:"نعم إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم" أخرجه أحمد والنسائي، وكذا البخاري بنحوه (1). {18}

(وحديث) ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى إن البهائم تسمع أصواتهم" أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن (2). {19}

(1) أنظر ص 118 ج 8 - الفتح الرباني (ما جاء في عذاب القبر) وص 291 ج 1 مجتبي (التعوذ من عذاب القبر) وص 153 ج 3 فتح الباري (ما جاء في عذاب القبر).

(2)

أنظر ص 56 ج 3 مجمع الزوائد (العذاب في القبر).

ص: 21

(وحديث) عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرسل على الكافر حيتان: واحدة من قبل رأسه والأخرى من قبل رجليه، يقرصانه قرصا، كلما فرغتا عادتا، إلى يوم القيامة" أخرجه أحمد بسند حسن (1){20}

(وحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر عذاب القبر من البول" أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وابن خزيمة وصححاه بسند جيد (2). {21}

(وحديث) جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه حين توفى، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ووضع في قبره وسوى عليه سبح النبي صلى الله عليه وسلم، فسبحنا طويلا، ثم كبر فكبرنا، فقيل: يا رسول الله لم سبحت ثم كبرت؟ قال: "لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عز وجل عنه" أخرجه أحمد والطبراني في الكبير بسند جيد (3). {22}

وفيه دليل على أن ضغطة القبر تعم الصالح والطالح، فالصالح يضمه القبر ضمة رفق وإشفاق، والطالح يضمه ضمة تختلف منها أضلاعه.

(وحديث) عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيا منها نجا منها سعد بن معاذ" أخرجه أحمد والبيهقي بسند جيد (4). {23}

(وحديث) أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي على صبي أو صبية فقال

(1) أنظر ص 55 ج 3 مجمع الزوائد وص 124 ج 8 - الفتح الرباني (عذاب القبر).

(2)

انظر ص 130 ج 8 منه (عذاب القبر سبب البول) وص 74 ج 1 - ابن ماجه (التشديد في البول)(ومن البول) أي من جهة عدم التحرز منه لأنه مفسد للصلاة.

(3)

انظر ص 133 ج 8 - الفتح الرباني (ما جاء في ضغطة القبر) وص 46 ج 3 مجمع الزوائد.

(4)

انظر ص 134 ج 8 - الفتح الرباني (ضغطة القبر) وص 46 ج 3 مجمع الزوائد.

ص: 22

"لو كان أحد نجا من ضغطة القبر لنجا هذا الصبي" أخرجه الطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات (1). {24}

قال أبو القاسم السعدي: لا ينجو من ضمة القبر صالح ولا طالح، غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغط للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى القبر ثم يفسح له. والمراد بضغطه القبر التقاء جانبيه على جسد الميت. وقال الحكيم الترمذي: سبب هذا الضغط أنه ما من أحد إلا وقد ألم بذنب ما، فتدركه هذه الضغطة جزاء لما ألم ثم تدركه الرحمة. وكذلك ضغطة سعد بن معاذ في التقصير من البول (2).

(قلت) يشير إلى ما روي الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين دفن سعد بن معاذ: "إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة، فدعوت الله أن يرفعه عنه، وذلك بأنه كان لا يستبرئ من البول" أخرجه البيهقي (3). {25}

وأما الأنبياء فليس لهم في القبور ضمة ولا سؤال لعصمتهم (وعن) أبي هريرة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس إلى قبر منها فقال:"ما يأتي على هذا القبر من يوم إلا وهو ينادي بصوت ذلق طلق: يا بن آدم كيف نسيتني؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن أيوب بن سويد، وهو ضعيف (4). {26}

(1) انظر ص 47 ج 3 مجمع الزوائد (ضغطة القبر).

(2)

انظر ص 289 ج 1 زهر الربى.

(3)

انظر ص 290 ج 1 منه.

(4)

انظر ص 46 ج 3 مجمع الزوائد (خطاب القبر) و (ذلق وطلق) بفتح فسكون، أي فصيح بليغ.

ص: 23

والأحاديث في هذا كثيرة، وهي تدل على ثبوت عذاب القبر للكفار مطلقا ولمن شاء الله من الموحدين، وأنه لا ينجو من ضغطته إلا الأنبياء لعصمتهم، وأن نعيمه للمؤمنين الصالحين.

(وبهذا) قال أهل السنة والجماعة، لأنه أمر دل عليه الكتاب والسنة، ولا يمتنع عقلا أن يعيد الله الحياة في الجسد كله أو بعضه ويعذبه أو ينعمه. وإذا ورد به الشرع ولم يمنعه العقل وجب قبوله واعتقاده. ولم يخالف في ثبوت عذاب القبر إلا الخوارج وأكثر المعتزلة. والمعذب عند أهل السنة الجسد كله أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه.

وخالف فيه طائفة فقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا فاسد، لأن الألم والإحساس إنما يكون في الحي، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك. فكما أن الله تعالى قادر على أن يعيده للحشر، فهو قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء منه أو أجزاء وإن أكلته السباع والحيتان (1).

(قال) ابن القيم: أما عذاب القبر فحق أعاذنا الله منه، ولا خلاف بين أهل السنة فيه لثبوته بالأخبار الصحيحة الصريحة الكثيرة المتواترة تواترا معنويا. (قال) أبو عبد الله أحمد بن حنبل: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل. وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها. كلها جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد، قال تعالى:"وما آتاكم الرسول فخذوه".

قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبور، وقال: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير، وأن العبد يسأل في قبره، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أي في القبر (2).

(1) انظر ص 201 ج 17 نووي مسلم (إثبات عذاب القبر والتعوذ منه).

(2)

انظر ص 91 كتاب الروح.

ص: 24

(وأما) محل العذاب فالروح والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة، فإذا مات العبد تبقى روحه منعمة أو معذبة، تارة منفردة عن البدن، وتارة متصلة به، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحالة مجتمعين (1)، فإذا كان يوم القيامة أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين وتعاد الأبدان. وهذا متفق عليه بين أهل الشرائع المسلمين واليهود والنصارى (2). وإنما أوقع من أحال عذاب القبر في الضلال قياسهم غيب المال على شاهد الحال.

(والجواب) عن شبههم أنا نعلم أن الرسل صلوات الله عليهم وسلام لم يخبروا بما يحيله العقل، غاية ما يقال إنهم يخبرون بما لا تدركه العقول بمجردها، كالغيوب من تفاصيل البرزخ واليوم الآخر والثواب والعقاب. ولا يكون خبرهم محالا في العقل أصلا، بل كل خبر يظن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون كذبا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدا، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح، قال تعالى:{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى؟ } (3).

وهذا يندفع بأمور ملاكها أن ننعم النظر في السنة مع التلبس بثوب الافتقار والتضرع للملك الجبار حتى نفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا نحمل كلامه ما لا يحتمله ولا نخرج به عن مراده، وقد حصل بإهمال ذلك من الضلال ما لا يعلمه إلا الله، وسوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة، بل أصل كل خطاء في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يعتقده مما قلد فيه من أحسن الظن به فهو في الضلال لا ينفعه جدال، فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى وسل الله العافية (4).

(1) انظر ص 80 كتاب الروح.

(2)

انظر ص 83 منه.

(3)

سورة الرعد: آية 19 وانظر ص 99 كتاب الروح.

(4)

انظر ص 100 منه.

ص: 25

(فوائد):

(الأولى) اعلم أن الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. ولكل دار أحكام تختص بها:

(أ) فدار الدنيا جعل الله أحكامها على الأبدان، وجعل الأرواح تبعا لها، ولذا جعل الله الأحكام الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافها.

(ب) وجعل الله أحكام البرزخ على الأرواح وجعل الأبدان تبعا لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا- فتألمت بألمها وألتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب- تبعت الأبدان الأرواح في القبور في نعيمها وعذابها. والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم. فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها. تجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيما أو عذابا كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى الأرواح.

(جـ) وجعل الله أحكام الدار الآخرة على الأرواح والأبدان معا، فأحط بهذا الوضع علما يزل عنك كل إشكال. وقد أرانا الله تعالى من ذلك نموذجا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلا والبدن تبع له. وقد يتعدى أثره إلى البدن تأثيرا مشاهدا فيرى النائم أنه عذب أو نعم فيصبح وأثر ذلك في جسمه ونحو ذلك (1).

(قال) سعيد بن سلمة: بينا امرأة عند عائشة إذ قالت: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أشرك بالله شيئا ولا أسرق ولا أزني ولا أقتل ولدى ولا آتي ببهتان بين يدي ورجلي ولا أعصى فلي معروف، فوفيت لربي فو الله لا يعذبني الله تعالى، فأتاه في المنام ملك فقال: كلا إنك تتبرجين

(1) انظر ص 101 كتاب الروح.

ص: 26

وزينتك تبدين وخيرك تكدرين وجارك تؤذين وزوجك تعصين، ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها فقال: خمس بخمس ولو زدت زدناك. فأصبحت وأثر الأصابع في وجهها. ذكر الحارث بن أسد المحاسبي (1).

(قال) ابن القيم: وأعجب من ذلك ربما رأيت النائم يقوم ويضرب ويبطش ويتكلم كأنه يقضان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس، فإذا كانت الروح هنا تتألم وتتنعم فيصل ذلك إلى البدن بطريق الاستتباع ففي البرزخ أقوى، فإذا كان يوم الحشر صار الحكم على الأرواح والأجساد معا، ومتى أعطيت هذا الموضع حقه لاحت لك أسرار أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه. ومن أشكل عليه شيء من ذلك فمن قلة علمه وسوء فهمه. وأغرب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد: هذا روحه في نعيم، وهذا روحه في عذاب، وربما استيقظا أو أحدهما وأثر ذلك على بدنه ولا شعور لأحدهما بما فيه الآخر (2).

(الثانية) أعلم أن الله تعالى حجب أمر الآخرة وما كان متصلا بها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته ليتميز المؤمن بالغيب من غيره. وأول ذلك نزول الملائكة على المحتضر على الهيئات التي تقدمت في الأحاديث. وقد يسلمون عليه ويرد عليهم بلفظ أو إشارة. وربما سأل من عنده عنهم: من أين هؤلاء الرجال الحسان؟ ونحو ذلك، وكل من امتدت حياته في هذه الدار رأى من ذلك ما يغنيه عن الأخبار، ويكفي من ذلك قوله تعالى:

(1) انظر ص 139 ج 8 - الفتح الرباني (الشرح).

(2)

انظر ص 102 كتاب الروح.

ص: 27

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَاّ تُبْصِرُونَ} (1).

أي أقرب إليه بملائكتنا ورسلنا وغير ذلك من قبض الروح وخروجها والشعاع الذي يخرج معها، والروح الطيب والخبيث، وهو غير مرئي لنا ولا محسوس وهو في هذه الدار، ثم تأتي الروح فتشاهد غسل الميت وتكفينه وحمله (2).

(روى) أبو سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الصعق" أخرجه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقي (3). {27}

وقد ثبت نحو هذا في هذه الدار وأطلع الله عليه بعض من اختار. فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلا يكلمه تارة، وتارة يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس ولا يسمعه غيره من الحاضرين. وكان يدارسه القرآن ويشاهد الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحوال الاضطرارية الطبيعية ما يعلم بها مجيئه إليه قطعا من غير إخبار ولا يسمعون كلامه ولا يرون شخصه، وربما رآه بعضهم كما جاء في الصحيح (فقد) كانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط وتصيح بهم ويراهم الكفار ويسمعونهم كما أخبر كثيرا منهم بذلك بعد إسلامه ولا يسمع المسلمون ولا يرون. وكل من له نظر في كتب السنة الصحيحة قطع بذلك. وهذاه الجن تتكلم بالأصوات المرتفعة بيننا ونحن لا نسمعهم والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة

(1) سورة الواقعة: آية 83 و 84 و 85.

(2)

انظر ص 103 و 104 كتاب الروح.

(3)

انظر رقم 593 ص 333 ج 7 - الدين الخالص (حمل الجنازة).

ص: 28

عذاب القبر، وربما كشف لبعض الناس عن شيء فربما ثبت وربما صعق (1)،

وليس بعزيز على من أوجد هذا الإنسان من العدم وجعله حيا عالما سميعا بصيرا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، أن يجمع أجزاءه بعد أن تفرقت رمادا في هواء البر والبحر وفي حواصل الطير وبطون السباع، ويجعل للروح اتصالا بها لتحس بالعذاب والنعيم؛ فقد أرانا أعجب من ذلك بأن جعل في الجمادات شعورا وإدراكا (فقد) صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه (2)، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل والحصى في أيديهم، وأما حنين الجذع فأشهر من أن يذكر (3).

(الثالثة) اتساع القبر وضيقه ونوره وظلمته أمر معلوم من الدين بالضرورة لا مرية فيه لمتشرع لما تقدم من الأحاديث الصحيحة، وفيها أنه يفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون والكفار بعكس ذلك؛ هذا واتساع القبر للروح بالذات والبدن تبع لها فيكون البدن في لحد أضيق من

(1) انظر ص 113 و 114 كتاب الروح ..

(2)

روي جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن بمكة حجرا كان يسلم على ليالي بعثت إني لأعرفه الآن" أخرجه مسلم والترمذي (أنظر ص 329 ج 3 تيسير الوصول) وقال ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: "أن أدعو هذا العذق من النخلة فيشهد لي أني رسول الله، فدعاه فجعل المذق ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أرجع إلى موضعك، فعاد إلى موضعه والتأم، فأسلم الأعرابي. أخرجه الترمذي (انظر ص 330 ج 3 تيسير الوصول).

(3)

قال أنس: خطب النبي صلى الله عليه وسلم إلى لزق جذع، فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه صلى الله عليه وسلم، فحن الجذع حنين الناقة، فنزل صلى الله عليه وسلم فمسه فسكن. أخرجه الترمذي (أنظر ص 330 ج 3 تيسير الوصول).

ص: 29

ذراع وقد فسح له مد بصره تبعا لروحه (قال) ابن القيم: أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أقبر، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفا على أحد الأقبر، فقال أحدهما لصاحبه: أكتب فرسخا في فرسخ، ثم وقفا على الثاني فقال: اكتب ميلا في ميل، ثم وقفا على الثالث فقال: اكتب فترا في فتر، ثم انتبه فجئ برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول، ثم جئ برجل آخر فدفن في القبر الثاني، ثم جئ بامرأة مترفة من وجوه البلد حولها ناس كثير

فدفنت في القبر الضيق الذي سمعه يقول: فترا في فتر (1).

(الرابعة) أعلم أن الميت إذا وضع في لحده ودفن لا يحجب التراب الملائكة عن الوصول إليه، بل لو نقر له حجر وأودع فيه وختم عليه بالرصاص لم يمنع وصولهم إليه، فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تمنع خرق الأرواح لها، بل الجن لا يمنعها ذلك، وقد جعل الله تعالى الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير (2).

(الخامسة) أعلم أن النار التي في القبر والخضرة ليستا من نار الدنيا ولا نباتها ولا يحس بهما أهل الدنيا. فالله تعالى يحمي على الميت ذلك التراب وتلك الحجارة التي فوقه وتحته حتى تكون اعظم حرا من نار الدنيا بما لا يعلمه إلا الله ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، وأعجب من هذا أن الرجلين يدفنان أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، بل ربما كان في روضة من رياض الجنة. وقد أرانا الله تعالى من آثار قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك، لكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما إلا من وفقه الله وعصمه، فكيف ينكر في الحكمة إسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ما يريد الله تعالى إخفاءه حتى إذا

(1) انظر ص 105 كتاب الروح (والفتر) بكسر فسكون: ما بين رأسي الإبهام والسبابة.

(2)

انظر ص 104 و 105 كتاب الروح.

ص: 30

كشف الغطاء شاهدوه عيانا، وقد يطلع الله على ذلك بعض عبيده؛ ولو أطلع الكل عليه لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب ولما تدافن الناس كما في الصحيحن (1).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "بينا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة في عنقه سلسلة فناداني: يا عبد الله اسقني، فلا أدري أعرف اسمي أو دعاني بدعاية العرب؟ وخرج رجل في ذلك الحفير في يده سوط فناداني: لا تسقه فإنه كافر ثم ضربه بالسوط حتى عاد إلى حفرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فأخبرته، فقال لي: أو قد رأيته؟ قلت: نعم. قال: ذاك عدو الله أبو جهل بن هشام وذاك عذابه إلى يوم القيامة. أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن محمد بن المغيرة وهو ضعيف (2). {28}

وعن هشام بن عروة رضي الله عنهما عن أبيه قال: بينما راكب يسير بين مكة والمدينة إذ مر بمقبرة فإذا برجل قد خرج من قبره يلتهب نارا مصفداً

(1) انظر ص 105 و 106 كتاب الروح (ولما تدافن الناس) أي لا يدفن بعضهم بعضا لما يحصل لهم من الفزع والدهشة المؤدية لترك مصالحهم حتى يتركوا دفن موتاهم، ولفظ الحديث: عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فيه أقبر وهو على بغلته فحادت به (أي مالت عن الطريق ونفرت لما اعتراها من الفزع عند سماع أصوات المعذبين بالقبور) وكادت أن تلقيه، فقال: من يعرف هذه الأقبر؟ فقال رجل: يا رسول الله قوم هلكوا في الجاهلية، فقال: لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب جهنم. قلنا: نعوذ بالله من عذاب جهنم. ثم قال: تعوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال. فقلنا: نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال. ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. فقلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر. ثم قال: تعوذوا بالله من فتنة المحيا والممات. قلنا نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات .. أخرجه أحمد ومسلم (انظر ص 126 ج 8 - الفتح الرباني (عذاب أهل الجاهلية في القبر) وص 202 ج 17 نووي.

(2)

انظر ص 57 ج 3 مجمع الزوائد (العذاب في القبر).

ص: 31

في الحديد فقال: يا عبد الله انضح يا عبد الله انضح، وخرج آخر يتلوه فقال: يا عبد الله لا تنضح يا عبد الله لا تنضح، وغشى على الراكب وعدلت به راحلته إلى العرج وأصبح قد أبيض

شعره، فأخبر عثمان بذلك، فنهى أن يسافر الرجل وحده. ذكره ابن أبي الدنيا (1).

(السادسة) أعلم أن عذاب القبر ونعيمه هو عذاب البرزخ ونعيمه وهو ما بين الدنيا والآخرة وإنما أضيف إلى القبر باعتبار الغالب؛ فالمصلوب والغريق والحريق وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه حتى لو علق العاصي على رءوس الأشجار في مهاب الرياح لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه، ولو ألقى الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما والهواء على ذلك نارا وسموما، فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها يصرفها كيف يشاء كما صرفها فيما ناشد بخلق هذه القوى فيها بعد أن لم تكن- تبارك اسمه (2).

(السابعة) عذاب القبر نوعان:

(أ) دائم وهو عذاب الكفار وبعض العصاة لقوله تعالى في آل فرعون: " النار يعرضون عليهم غدوا وعشيا "(3).

وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: فهو يفعل به ذلك يوم القيامة (4). وفي حديث أبي هريرة: في الذين ترضخ رءوسهم

(1) انظر ص 107 كتاب الروح. و (المرج) بفتح فسكون: موضع بطريق المدينة.

(2)

انظر ص 117 و 118 كتاب الروح. (والأتون) بشدة التاء: الموقد، والعامة تخففه، وجمعه أتاتين بتامين.

(3)

سورة غافر: آية 46.

(4)

انظر الحديث تماما بهامش ص 153 ج 5 - الدين الخالص (الإسراء) وص 162 ج 3 فتح الباري (باب- بعد ما جاء في أولاد المشركين).

ص: 32

لا يفتر عنهم (1). وفي الصحيح عن أبي هريرة في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (2). وفي بعض ألفاظ حديث البراء الطويل عند أحمد: ثم يخرق له خرق إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة (3). لكن ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين فإذا قاموا من قبورهم قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا.

(ب) عذاب منقطع، وهو عذاب من خفت جراثمهم من العصاة، فإن كلا يعذب بحسب جريمته، ثم يرفع عنهم بدعاء أو صدقة أو قراءة أو نحو ذلك (قال) عبد الله بن نافع: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتم لذلك، ثم إنه سابعة أو ثامنة رآه كأنه من أهل الجنة، فقال: ألم تكن قلت إنك من أهل النار؟ قال: قد كان ذلك، إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه فكنت منهم. ذكره ابن أبي الدنيا.

(وقال) وحدثنا أحمد بن يحيى عن بعض الأصحاب قال: مات أخي فرأيته في النوم فقلت له: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به.

(وقال) بشار بن غالب: رأي رابعة العدوية في منامي وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار هداياك تأتينا على أطباق من نور مغطاة بمناديل الحرير. قلت: وكيف ذاك؟ قالت: هكذا دعاء المؤمنين الأحياء للموتى إذا

(1) الحديث أخرجه البزار. انظره تاما بهامش ص 149 ج 5 - الدين الخالص (الإسراء) وص 67 ج 1 مجمع الزوائد.

(2)

الحديث أخرجه الشيخان. انظر ص 202 ج 10 فتح الباري (من جر ثوبه من الخيلاء) وص 64 ج 14 نووي (تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه). و (يتجلجل) بالجيم: أي يتحرك وينزل مضطربا. والصحيح أن هذا الرجل كان من بني إسرائيل.

(3)

انظر ص 143 كتاب الروح.

ص: 33

استجيب جعل على أطباق النور ثم غطى بمناديل الحرير، ثم أتى بها الذي دعى له من الموتى فقيل: هذه هدية فلان إليك (1).

(الثامنة) الأسباب الموجبة لعذاب القبر هي الجهل بالله تعالى، وإضاعة أوامره واتركاب معاصيه المفضية إلى سخطه وعذابه، فمن أغضب الله تعالى وأسخطه في هذه الدار، ومات من غير توبة، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه فمستقل ومستكثر (2). وقد عين النبي صلى الله عليه وسلم للوقوع في عذاب القبر أسبابا كثيرة من اتقى ما ذكر من هذا الإجمال، استغنى عن تفصيلها، ولما كان أكثر الناس مستخفا بأكثر النواهي كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل إلا إن عفا الله، وهو أهل العفو والمغفرة.

(التاسعة) الأسباب المنجية من عذاب القبر كثيرة (منها) العلم بالله وخشيته وتقواه وامتثال أمره والوقوف عند نهيه وتجنب الأسباب المقتضية للعذاب، ومن أنفع ذلك أن يجلس الإنسان قبل النوم ساعة يحاسب فيها نفسه ثم يجدد لكل ذنب توبة نصوحا وينام على هذه التوبة، فإن مات كان على توبة وإلا استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخير الأجل حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه التوبة لا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله تعالى واستعمل السنن التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يغلبه النوم (3).

هذا، وقد عين النبي صلى الله عليه وسلم للنجاة من عذاب القبر أسبابا أخرى (منها) الشهادة في سبيل الله (روى) راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة. أخرجه النسائي (4). {29}

(1) انظر ص 144 و 145 كتاب الروح.

(2)

انظر ص 123 منه.

(3)

انظر ص 127 و 128 كتاب الروح.

(4)

انظر ص 289 ج 1 مجتبي (الشهيد) ورقم 54 ص 74 ج 1 - الدين الخالص طبعة ثالثة (سؤال القبر).

ص: 34

والمعنى أن الشهيد اختبر إيمانه من نفاقه ببارقة السيف، فدل على أن إيمانه هو الذي يحمله على بروزه للقتل وبذل نفسه لله وتسليمها له، وهاج من قلبه حمية الغضب لله ورسوله إظهارا لدينه وإعزازا لكلمته فظهر أن دعواه الإيمان بلسانه برزت عن قلب صادق وضمير الله واثق، فأغنى ذلك عن الامتحان في قبره (ومنها) المواظبة على قراءة سورة تبارك في كل ليلة.

(قال) ابن عباس رضي الله عنهما: ضرب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة (تبارك الذي بيده الملك) حتى ختمها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا إنسان يقرأ سورة تبارك حتى ختمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه (1). {30}

(وعن عكرمة) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى. قال: اقرأ (تبارك الذي بيده الملك) وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية، والمجادلة تجادل يوم القيام عند ربها لقارئها، وتطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار ومن عذاب القبر. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي" أخرجه عبد بن حميد والحاكم والطبراني (2). {31}

.. (ومنها) جملة أعمال صالحة مبينة في حديث سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن بمسجد المدينة.

(1) انظر ص 175 ج 1 تيسير الوصول (سورة الملك) وص 129 كتاب الروح وص 250 ج 5 فتح القدير للشوكاني.

(2)

انظر ص 19 ج 8 - المنهل العذب (الشرح) وص 129 كتاب الروح.

ص: 35

فقال: إني رأيت البارحة عجبا: رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءه وضوؤه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءته صلاته فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه منهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا فجاءه صيام رمضان فسقاه، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة، ورأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرده عنه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت: إن هذا كان واصلا لرحمه فكلمهم وكلموه وصار معهم، ورأيت رجلا من أمتي يأتي النبيين وهم حلق حلق كلما مر على حلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار بيديه عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ظلا على رأسه وسترا عن وجهه، ورأيت رجلا من أمتي جاءته زبانية العذاب فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى بها في الدنيا من خشية الله فأخرجته من النار، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته إلى شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي على شفير جهنم فجاءه وجله من الله تعلى فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي يرعد كما ترعد السفعة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط مرة ويحبو مرة فجاءته صلاته على فأخذت بيده فأقامته على الصراط حتى جاز، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله

ص: 36