المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الزكاة … هي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة. - الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق - جـ ٨

[السبكي، محمود خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌(10) محظورات القبر

- ‌(11) سؤال القبر وفتنته

- ‌(12) عذاب القبر ونعيمه وضغطته

- ‌(13) المشي بالنعلين بين القبور

- ‌(14) دفن أكثر من واحد في القبر

- ‌(15) نبش القبر

- ‌(16) نقل الميت

- ‌(17) إعداد القبر

- ‌(18) وضع الجريد على القبر

- ‌(الشهيد)

- ‌(أ) تعريفه:

- ‌(ب) تجهيز الشهيد:

- ‌(جـ) الشهيد غير المكلف:

- ‌(د) الشهيد غير الطاهر:

- ‌(هـ) كفن الشهيد:

- ‌(و) من لا يعتبر شهيدا:

- ‌يتصل بما يتعلق بالميت أربعة أصول:

- ‌(أ) التعزية

- ‌(ب) صنع الطعام لأهل الميت ومنهم

- ‌(جـ) زيارة القبور

- ‌(د) القرب تهدي إلى الميت

- ‌الزكاة

- ‌(أ) زكاة النعم

- ‌(ب) زكاة الأثمان

- ‌(جـ) زكاة العروض

- ‌(د) زكاة الزروع والثمار

- ‌(هـ) المعدن والركاز

- ‌الصيام

- ‌(1) فضل الصيام:

- ‌(2) وقت الصوم:

- ‌(3) شروط الصيام

- ‌(4) أقسام الصيام

- ‌(أ) صيام رمضان:

- ‌(ب) الصوم الفرض غير المعين

- ‌(جـ) الصوم المنهي عنه

- ‌(د) صوم التطوع

- ‌(5) آداب الصيام

- ‌(6) ما يباح للصائم

- ‌(7) ما يكره للصائم:

- ‌(8) ما لا يفسد الصوم

- ‌(9) ما يفسد الصوم

- ‌(10) الأعذار المبيحة للفطر

- ‌(11) بدع رمضان

- ‌(12) الموضوع في الصيام

- ‌(13) الاعتكاف

الفصل: ‌ ‌الزكاة … هي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة.

‌الزكاة

هي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة. ذكرت بعد الصلاة لاقترانها بها في اثنتين وثمانين آية، وفي عدة أحاديث (منها) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام، فقال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتى الزكاة المفروضة وتصوم

رمضان" (الحديث) أخرجه الشيخان (1). {1}

(وحديث) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصمونا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" أخرجه الشيخان وكذا أحمد عن أبي هريرة (2). {2}

(وقال) ابن مسعود رضي الله عنه: مرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له. أخرجه الطبراني بسند صحيح (3). {3}

(ثم) الكلام هنا ينحصر في خمسة عشر مبحثا:

(1) تعريف الزكاة:

هي لغة الطهارة والنماء والبركة، قال تعالى:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"(4)، وقال:"وما ءاتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون"(5)(وشرعا) حق واجب في المال لله تعالى.

(1) انظر ص 85 ج 1 فتح الباري (سؤال جبريل) وص 161 و 162 ج 1 نووي (تعريف الإسلام).

(2)

انظر ص 57 ج 1 فتح الباري (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) وص 212 ج 1 نوي (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله) وص 96 ج 1 - الفتح الرباني (حكم الأمر بالشهادتين).

(3)

انظر ص 62 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة).

(4)

سورة التوبة: آية 103.

(5)

سورة الروم: آية 39.

ص: 103

وبعبارة أخرى تمليك جزء من مال عينه الشارع لمستحقه مع قطع المنفعة عن المملك من كل وجه (1)(سميت) بذلك لأنها مطهرة للمال بإخراج حق الغير منه، ومطهرة للمزكى من دنس البخل والآثام. وبها يبارك في المال ويخلف على المتصدق، قال تعالى:"وما انفقتم من شيء فهو يخلفه"(2).

(وعن) أبي كبشة الأنماري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر"(الحديث) أخرجه الترمذي (3). {4}

(2) دليلها:

الزكاة فرض قطعي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

(قال) الله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"(4)، وقال "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" وقال تعالى:"كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده"(5). وغير ذلك من الآيات.

(وقد) ورد فيها أحاديث غير ما تقدم (منها) حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله

(1)(تمليك) خرج به الإباحة فلو انفق على يتيم ناويا الزكاة لا يجزئه. و (جزء من مال) خرج به المنفعة فلو أسكن فقيرا داره مدة بنية الزكاة لا يجزئه. و (عينه الشارع) خرج ما لم يعينه كصدقة التطوع والفطر لأنها وإن كانت مقدرة فليست معينة من المال لو جوبها في الذمة. و (مع قطع المنفعة) خرج الدفع إلى أصول المزكى وفروعه وزوجه ومكاتيه على خلاف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(2)

سورة سبأ: أية 39.

(3)

انظر ص 284 ج 3 تيسير الوصول (المواعظ).

(4)

سورة البقرة: آية 43.

(5)

سورة الأنعام: آية 141.

ص: 104

وأني رسول الله، فإنهم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجه السبعة وقال الترمذي: حسن صحيح (1). {5}

(وحديث) على رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما" أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط وقال: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد وهو من رجال الصحيح، وبقية رجاله وثقوا، وفيهم كلام (2). {6}

(وحديث) أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأباعدنهم

(1) انظر ص 188 ج 8 - الفتح. الرباني (افتراض الزكاة) وص 229 ج 3 فتح الباري (أخذ الصدقة من الأغنياء) وص 196 ج 1 نووي (الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام) وص 84 ج 9 - المنهل العذب المورود وص. 33 ج 1 مجتبي (وجوب الزكاة) وص 5 ج 2 تحفة الأحوذي (كراهية أخذ خيار المال في الصدقة) وص 279 ج 1 - ابن ماجه (فرض الزكاة)(وقد بعث) النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن في ربيع الآخر سنة عشر من الهجرة (وقيل) بعثه سنة تسع أو ثمان. كان واليا على اليمن أو قاضيا بها (وكرائم) جمع كريمة أي نفيسة فلا يجوز للساعى اخذ خيار المال إلا برضا المالك. ولم يذكر في الحديث الصوم والحج، لأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر.

(2)

انظر ص 62 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة)(والجهد) بفتح فسكون: المشقة أي لن يصيب الفقراء الجهد والمشقة من الجوع والعرى إلا لمنع الأغنياء الزكاة وبخلهم بها.

ص: 105

ثم تلا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم" أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط. وفيه الحارث بن النعمان وهو ضعيف (1). {7}

(وأجمع) المسلمون في جميع الأعصار والأقطار على فرضية الزكاة. فمن جحد فرضيتها وهو بين المسلمين فهو مرتد يستتاب ثلاثا. فإن تاب وإلا قتل لأنه أنكر أمرا ثابتا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما من أنكر فرضيتها جهلا لحداثة عهده بالإسلام أو لأنه نشأ بعيدا عن الأمصار والعلماء لا يحكم بكفره لعذره، بل يعرف فرضيتها وتؤخذ منه، فإن جحدها بعد ذلك حكم بكفره (2).

(3) وقت افتراضها:

فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة. وقيل: فرضت بمكة إجمالا وبينت بالمدينة تفصيلا جمعا بين "الآيات" الدالة على فرضيتها بمكة، كقوله تعالى:"وءاتوا حقه يوم حصاده (3) ". وقوله: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"(4). "والآيات" الدالة على فرضيتها بالمدينة، كقوله:"وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة"(5). وقوله: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"(6).

(4) سببها:

سبب لزوم الزكاة الملك التام لنصاب حولي فارغ عن:

(أ) دين ولو مؤجلا له مطالب من العباد سواء أكان لله كزكاة أو للعبيد.

(ب) وعن حاجته الأصلية كدار السكني، وكتب العلم لأهله، وآلات الصناعة لأربابها، وأثاث المنزل، وآلات الحرب للمجاهدين.

(1) انظر ص 62 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة).

(2)

انظر ص 334 ج 5 مجموع النوي.

(3)

سورة الأنعام: ىية 141.

(4)

سورة الذاريات: آية 19.

(5)

سورة البقرة: آية 43.

(6)

سورة التوبة: آية 103.

ص: 106

(5)

حكمتها:

وحكمة مشروعية الزكاة:

(أ) التطهر من أدناس الذنوب والبخل.

(ب) حفظ المال من التلف.

(روي) أبو هريرة عن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تلف مال في بحر ولا بر غلا بحبس الزكاة" أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه عمر بن هارون ضعيف (1). {8}

(جـ) لما فيها من الإحسان إلى المحتاجين والرفق بهم ورفع درجات المزكي وتطييب قلوب الفقراء واطمئنانهم بما يأخذون من الأغنياء، فلا يطمعون في الاستيلاء على أموالهم بوجه غير مشروع.

(د) وأيضا فإن المال محبوب بالطبع، فإذا استغرق القلب في حبه. اشتغل به عن حب الله وعن الطاعة المقربة إلى الله تعالى، فاقتضت الحكمة إيجاب الزكاة في ذلك المال ليكون سببا للقرب من الله تعالى.

(هـ) وأيضا فإن إخراج المال شاق على النفس، فأوجب الله تعالى الزكاة لامتحان أرباب الأموال ليتميز بذلك المطيع المخرج لها عن طيب نفس من العاصي المانع لها. ولا ريب أن من أخرج الزكاة فقد حفظ دينه وأرضى ربه ونما ماله وحفظ من التلف، وتبرأ من دنس الشح.

(1) انظر ص 63 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة)"وأما" حديث ابن مسعود مرفوعا: حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء. أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير وفي موسى بن عمير الكوفي وهو متروك (انظر ص 63 ج 3 مجمع الزوائد) "فقد" قال ابن الجوزي لا يصح. تفرد به موسى بن عمير وقال أبو حاتم ذاهب الحديث كذاب. وقال ابن عدى: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. ثم ساق له أخبارا منها هذا (وقد) أورده السيوطي في الجامع الصغير عن الحسن مرسلا: "حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع: أخرجه أبو داود في المراسيل. وأسنده البيهقي وغيره من وجوه ضعيفة (انظر ص 388 ج 3 فيض القدير).

ص: 107

(6)

منع الزكاة:

منعها إثم كبير وضلال مبين جاء فيه الوعيد الشديد في آيات وأحاديث كثيرة (قال) تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم* يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"(1).

(وقال) تعالى: "ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. ولله ميراث السموات والأرض"(2).

.. (وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمي عليه صفائح في نار جهنم فتكوي بها جنبته وجنبه وظهره حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون. ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا جيء به يوم القيامة وبإبله كأوفر ما كانت عليه فيبطح لها باقع قرقر تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مضى أخراها ردت عليه أولادها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى

(1) سورة التوبة ىية 34 و 35. و (الكنز) ما لم تؤدي زكاته نقدا أو غيره. أما مازكي فليس بكنز على المختار (لحديث) أم سلعة موضوعا: "ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكى فليس بكنز" أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي وقال: تفرد به ثابت بن عجلان وهو ثقة. وأخرجه الحاكم بلفظ: إذا أديت زكاته فليس بكنز (أنظر ص 136 ج 9 المنهل العذب المورود) و (البشارة) الخبر يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب فرحا أو حزنا.

(2)

سورة آل عمران آية: 180 و (البخل) منع الإنسان الحق الواجب و (التطويق) أن يجعل ما بخلوا به من مال طوقا من نار في أعناقهم. وقبل معناه أنهم سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة لا من الطويق. وقوله "سيطوقون ما بخلوا به" بيان للشر الذي أو عدوا به "ولله ميراث السموات والأرض" أي له وحده ما فيهما مما يتوارثه أهلها. فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه؟ وهو لله سبحانه وتعالى لا لهم وإنهما هو في أيديهم عارية مستردة، قال تعالى:"وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" سورة الحديد آية 7.

ص: 108

الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا جيء به وبغنمه يوم القيامة كأوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة. والخيل ثلاثة وهي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر. فأما الذي هي له أجر الذي يتخذها ويحبسها في سبيل الله فما غيبت في بطونها فهو له أجر وإن استنت منه شرفا أو شرفين كان له في كل خطوة خطاها أجر، ولو عرض له نهر فسقاها منه كان له بكل قطرة غيبته في بطونها اجر حتى ذكر الأجر في أرواثها وأبوالها. وأما الذي هي ستر فرجل يتخذها تعففا وتجملا وتكرما ولا ينسى حقها في ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها. وأما الذي عليه وزر فرجل يتخذها أشرا وبطرا ورثاء الناس وبذخا عليه.

قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ما أنزل على فيها شيء إلا هذه الآية: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود (1). [9]

(1) انظر ص 193 ج 8 - الفتح الرباني (افتراض الزكاة) وص 64 ج 7 نووي (إثم مانع الزكاة) وص 299 ج 9 - المنهل العذب المورود (حقوق المال)(فتكوى بها جبهته إلخ) خص الجبهة والجنوب والظهور لأنها أشرف الأعضاء لاشتهالها على الدماغ والقلب والكبد، فالتألم بكيها أشد: لا يوضع دينار ولا درهم فوق غيره ولكن يوسع الجلد حتى توضع كلها عليه =

ص: 109

(وحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزمتيه يوم القيامة، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا:

= بعد جعلها صفائح من نار (وأيضا) فإن الغني الشحيح إذا طلب منه السائل بدت على جبهته آثار الكراهة والمنع، وإن كرر السائل الطلب نأى بجنبه ومال عنه، وإن ألح في السؤال ولاه ظهره وتوجه إلى جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع (وإلا) فالكي بها لجميع البدن (وظاهر) قوله (حتى يحكم الله بين عباده) أن هذا العذاب يكون في الموقف (وطول) يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا (إنما هو) على الكافر والعاصي كل بقدر ذنبه، أما كامل الإيمان فيكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا.

(روى) أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوما كان مقداره خمسين ألف سنة. فقيل: ما أطول هذا اليوم. فقال: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة" أخرجه أحمد وابن حبان (انظر ص 300 ج 9 - المنهل العذب المورود- الشرح)(ويرى سبيله) بضم الياء مبنيا للمفعول وبفتحها مبنيا للفاعل، أي يعين له أحد الطريقين أو يعلم هو مصيره إما إلى الجنة إن كان ما ناله من العذاب كفر ما عليه أو عفا الله عنه، وإما إلى النار إن لم يكن كذلك، وهذا في غير مستحل منع الزكاة، أما هةو فيخلد فيها (والبطح) الإلقاء على الوجه (والقاع) الأرض المستوية الواسعة وكذا (القرقر) بفتحتين بينهما سكون وذكر للتأكيد أو هو الأملس من الأرض المستوية، وهو صفة لقاع، والمعنى أنه يلقى على وجهه لتطأه الإبل بأرض واسعة مستوية ملساء (والمغيب في بطن الخيل) العلف والماء (واستنت) أي جرت (والشرف) بفتحتين: المرتفع من الأرض. والمعنى: إن جرت الخيل للحصول على العلف والماء مكانا أو مكانين كان لصاحبها بكل خطوة خطاها في رعايتها وسقايتها أجر عظيم، والمراد (بحق الخيل) الإحسان إليها والقيام بمؤنها (وقيل) المراد به وجوب الزكاة فيها. وبه قال النعمان على ما يأتي ببيانه إن شاء الله. والمراد (بحق ظهورها) الجهاد عليه وما يكسبه من مال العدو وهو خمس الغنيمة (والأثر) بفتحتين من باب تعب: البطر وكفر النعمة بعدم شكرها (والبطر) كذلك، وقيل الأشر: المرح. والبطر: الطغيان عند الحق (والبذخ) بمعنى الأشر والبطر. يقال: بذخ الرجل، أي تكبر (والحمر) بضمتين جمع حمار.

ص: 110

"ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله" الآية. أخرجه مالك وأحمد والبخاري (1). {10}

(وحديث) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه فيقول: أنا كنزك، ثم قرأ عبد الله: سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وصححه المنذري (2). {11}

ففي هذه الآيات والأحاديث التنفير من منع الزكاة وأن مانعها يعذب بأنواع من العذاب. فتارة يجعل ماله صفائح من نار يكوي بها. وتارة يمثل ماله ثعبانا عظيما يطوقه ويأخذ بشدقيهز وتارة يمثل حيوانا يطؤه بأظلافه وينطحه بقرونه. وتارة يتبعه وهو يفر منه فيهدده وينهره بقوله: أنا كنزك أنا مالك الذي لم تؤد حقه فذق وباله وجزاء تفريطك. ودلت الأحاديث أيضا أن مانع الزكاة لا يخلد في النار إن لم يستحل تركها على ما تقدم.

(7)

قتال مانع الزكاة:

اتفقت الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانع الزكاة. (قال) أبو هريرة

(1) انظر ص 200 ج 8 - الفتح الرباني (عذاب من منع الزكاة) وص 173 ج 3 فتح الباري (إثم مانع الزكاة) و (مثل) يشد الثل مبنيا للمفعول، أي صور ماله على صورة شجاع، وهو ذكر الحية الذي يقوم على ذنبه ويهجم على الفارس، (والأقرع) الذي انتحل شعره لكثرة سمه (والزبيبتان) نكتتان سوداو أن فوق عينه أةو نقطتان يكتنفان فاه. وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين. وقيل: نابان يخرجان من فيه مثل الفيل (واللهزمتان) بكسر اللام والزاي وسكون الهاء: الشدقان أو العظمان الناتئشان في الحيين تحت الأذنين.

(2)

أنظر ص 202 ج 8 - الفتح الرباني، وص 333 ج 1 مجتبي (التغليظ في حبس الزكاة) وص 279 ج 1 - ابن ماجه (ما جاء في منع الزكاة).

ص: 111

رضي الله تعالى عنه: "لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعدهن وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلك: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه (1). . {12}

(1) انظر ص 191 ج 8 - الفتح الرباني (افتراض الزكاة) وص 171 ج 3 فتح الباري (الزكاة) وص 200 ج 1 نووي (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وص 114 ج 9 - المنهل العذب المورود (الزكاة) وص 335 ج 1 مجتبي (منع الزكاة).

(واستخلف) أي تولى الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتم له ذلك يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول سنة 11 من الهجرة (9 يونيه سنة 632 م)(وأنظر) حديث بيعته رضي الله عنه ص 115 ج 9 - المنهل العذب المورود.

(وكفر من كفر) أي ارتد عن الدين من أراد الله كفره، فأنكروا الشرائع الصلاة ومنعوا الزكاة، ومنهم من أقر بالصلاة ومنع الزكاة.

وادعى النبوة مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وسجاح بنت الحارث والأسود العنسي باليمن. فأسرع أبو بكر رضي الله عنه في تلافي الأمر، وأمر بعقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائدا؛ فقاتلوا أهل الردة حتى رجعوا إلى الإسلام وقاتلوا المتنبئين حتى قتل مسيلمة باليمامة، والأسود العنسي بصنعاء وهرب طليحة الأسدي وسجاح وأسلما بعد ذلك. وكان لطليحة شأن في نصرة الإسلام زمن عمر بن الخطاب (وقاتلوا) مانعي الزكاة حتى أدوها وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

و (كيف تقاتل الناس .. الخ) عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتال مانعي الزكاة لأنها حق المال، كما يقاتل تارك الصلاة لأنها حق البدن. وبين ذلك لعمر رضي الله عنه فعرف أنه الحق (ومما) يدل على قتال مانع الزكاة كتارك الصلاة (حديث) ابن عمر - السابق رقم 2 ص 103 - الزكاة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" و (العقال) بكسر العين: الحبل يعقل به البعير، كان يؤخذ في الصدقة لأن على صاحبها تسليمها للساعي وإنما يكون بالرباط. وقيل أراد ما يساوي مقالا من حقوق الصدقة.

ص: 112

(وقد) جاء في هذا أحاديث كثيرة صحيحة تدل على أنه يطلب من الإمام قتال من امتنع عن تأدية الزكاة وكان ذا قوة (فإن) ظفر به وبماله أخذ منه الزكاة بلا زيادة ولا تسبي ذريته، لأن الجناية من غيرهم ولأن مانع الزكاة لا يسبي (وإن) ظفر به دون ماله دعاه إلى أداء الزكاة واستتابه ثلاثا. فإن تاب وأدى الزكاة إلا قتل عقوبة لا كفرا، لأن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم امتنعوا من قتال مانعي الزكاة في بدء الأمر ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه. ثم اتفقوا على القتال وبقي الكفر على اصل النفي، ولأن الزكاة فرع من فروع الدين فلا يكفر تاركه بمجرد تركه كالحج (وروي) عن أحمد ما يفيد أنه يكفر بقتاله عليها (روى) الميموني عنه أنه قال: إذا منعوا الزكاة كما منعوها أبا بكر وقاتلوا عليها لم يورثوا ولم يصل عليهم.

(وقال) ابن مسعود: ما تارك الزكاة بمسلم وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم وعضتهم الحرب قالوا: نؤديها، قال: لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة فدل على كفرهم.

(وأجاب) الجمهور عن هذا بأنه يحتمل أنهم جحدوا وجوبها، فقد نقل عنهم أنهم قالوا: إنما كنا نؤدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن صلاته سكن لنا وليس صلاة أبي بكر سكنا لنا فلا نؤدي إليه.

(ويحتمل) أن أبا بكر رضي الله عنه قال ذلك لأنهم ارتكبوا كبائر من غير توبة، فحكم لهم بالنار ظاهرا كما حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرا.

ص: 113

والأمر مفوض إلى الله تعالى في الجميع ولم يحكم عليهم بالخلود في النار ولا يلزم من الحكم بها الحكم بالخلود بعد أن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما من أمته يدخلون النار ثم يخرجهم الله تعالى منها ويدخلهم الجنة (1).

(أما) من منعها بلا قوة معتقدا وجوبها فإن الإمام يأخذها منه ويعزره، ولا يؤخذ منه أزيد منها عند الأئمة الأربعة والجمهور (لحديث) أبي هريرة أن أعرابيا قال للنبي صلى اله عليه وسلم: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلما أدبر قال: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" أخرجه الشيخان (2). {13}

فقوله: لا أزيد على هذا، أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مطلق يشمل من منع الزكاة ثم أداها (وقال) الشافعي في القديم وإسحاق بن راهويه: يأخذ منه الزكاة وشطر ماله (لحديث) بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية ابن حيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنه لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا عز وجل لا يحل لآل محمد منها شيء. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي (3). {14}

(1) انظر ص 438 ج 2 مغني ابن قدامة.

(2)

انظر ص 170 ج 3 فتح الباري (الزكاة) وص 174 ج 1 نووي (الإيمان الذي يدخل به الجنة).

(3)

(انظر ص 217 ج 3 - الفتح الرباني 0 جامع لأنواع تجب فيها الزكاة) وص 170 ج 9 - المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 335 ج 1 مجتبي (عقوبة مانع الزكاة) وص 105 ج 4 بيهقي (ما ورد فيمن كتمه). و (السائمة) ما ترعى في كلأ مباح. و (في كل أربعين ابنة لبون) بدل مما قبله. وهو محمول عند الجمهور على ما إذا زادت الإبل على مائة وعشرين. وعند الحنفيين على ما بعد مائة وخمسين على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. و (لا تفرق إبل عن حسابها) أي لا يفرق أحد الخليطين إبله عن إبل صاحبه فرارا من الصدقة. فقوله (عن حسابها) أي عن مقدارها وعددها الذي تجب فيه الزكاة كما إذا كان لأحدهما ثلاث من الإبل وللآخر اثنان فإن في مجموعها شاة. ولو فرقاها فلا شيء عليهما. و (مؤتجرا) أي طالبا أجرها من الله تعالى طيبة بها نفسه. و (الشطر) النصف. و (عزمة) أي عزم الله ذلك عزمة، أي أوجبه وجوبا.

ص: 114

(وأجاب) الجمهور بأنه لم يثبت (فقد) روى البيهقي عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، وليس بهز حجة.

(وقال) أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وسئل أحمد عنه فقال: ما أدري وجهه. وسئل عن سنده فقال: صالح.

(8) فضل الزكاة:

قد ورد في فضل الصدقة- واجبة أو غير واجبة - أحاديث (منها) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه أو فصيله حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد، قال تعالى:"ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات". "ويمحق الله الربا ويربي الصدقات". أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه المنذري (1). {15}

(وحديث) أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما طلعت

(1) انظر ص 181 ج 8 - الفتح الرباني (ما ورد في فضلها) وص 22 ج 2 تحفة الأحوذي (فضل الصدقة) وص 290 ج 1 - ابن ماجه. (ويأخذها بيمينه) هذا من أحاديث الصفات نؤمن به ونمره على ظاهره من غير تشبيه ولا تعطيل. قال تعالى: "ليس كمثله شيء" وقيل: المراد من أخذها باليمين حسن القبول وكمال الرضا عن المتصدق (والمهر) بضم فسكون: ولد الفرس الصغير (والفلو) بفتح فضم فشد الواو: هو المهر يفصل عن أمه وكذا الفصيل.

ص: 115

شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: يأيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: الهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا مالا تلفا" أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد (1). {16}

(وحديث) أنس أن رجلا من بني تميم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف النفق وكيف أصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك وتعرف حق السائل والجار والمسكين. فقال: يا رسول الله أقلل لي. قال: "فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا". قال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها فلك أجرها وإثمها على من بدلها. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح (2). {17}

(1) أنظر ص 184 ج 8 - الفتح الرباني (ما ورد في فضلها) وقال المنذري: ورواء البيهقي من طريق الحاكم وزاد بعد قول الملكين: وأعط ممسكا تلفا. وأنزل الله في ذلك قرآنا- في قول الملكين: يأيها الناس هلموا إلى ربكم- في سورة يونس: "والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وأنزل في قولها: اللهم أعط منفقا خلفا .. الخ- "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى" إلى قوله: اللعسرى (أنظر ص 39 رقم 4 ج 2 - الترغيب في وجوه الخير) و (وهلموا .. الخ) أقبلوا على طاعة ربكم وتصدقوا بفضل مالكم ولا تبخلوا به رغبة من كثرته فإن ما قل منه وكفى صاحبه- بعد إخراج الصدقة منه- خير مما كثر وألهى صاحبه عن الصدقة وفعل الخير.

(2)

انظر ص 187 ج 8 - الفتح الرباني وص 63 ج 3 مجمع الزوائد (فرض الزكاة). (والمحاضرة) الجماعة تأتي الرجل للضيافة. (وأقلل لي) أي بين لي بلفظ قليل.

ص: 116

والأحاديث في هذا كثيرة (1)، وهي تدل على أن الله تعالى يقبل الصدقة من عبده ويثيبه عليها ويبارك له في ماله إذا أخرجها من حلال مخلصا لله تعالى، وأن من أنفق في طاعة الله أخلف الله عليه وضاعف له الثواب أضعافا كثيرة، وأن أفضل الإنفاق الإنفاق على العيال ثم الأقارب والمساكين ونحوهم مع عدم التبذير، وأن البخل لا يزيد في المال إلا خسارا بل يذهب البركة منه ويحرم صاحبه من الثواب، ويقع في العذاب الأليم إذا بخل بالصدقة الواجبة.

(1)(منها) حديث جرير بن عبد اله السابق رقم 5 ص 6 ج 1 - الدين الخالص طبعة ثالثة. (وحديث) عدى بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله عز وجل ليس بينه وبينه ترجمان (بفتح التاء وضمها) فينظر عمن أيمن منه (أي ليستعين به في هذا الموقف) فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر عمن أشأم منه (أي عمن يكون عن شماله) فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار. فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل. فمن لم يجد فبكلمة طيبة. أخرجه أحمد والشيخان (انظر ص 155 ج 9 الفتح الرباني- صدقة التطوع. وص 323 ج 11 فتح الباري- من نوقش الحساب عذب).

(وحديث) يزيد بن حبيب أن أبا الخير مرثد بن عبد الله حدثه عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو يحكم بين الناس. أحد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. (أنظر ص 156 ج 9 الفتح الرباني- صدقة التطوع).

(وحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ملكا بباب من أبواب السماء يقول: من يقرض اليوم يجزئ غدا، وملكا بباب آخر يقول: اللهم أعط منفقا خلفا وعجل لمسك تلفا" أخرجه أحمد ومسلم. (انظر ص 158 د 9 - الفتح الرباني (صدقة التطوع).

(وحديث) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيكم مال وارثه أحب إليه من مال؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: أعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله. مالك إلا ما قدمت. ومال وارثك ما أخرت" أخرجه أحمد والبخاري والنسائي (انظر ص 160 ج 9 - الفتح الرباني. وص 204 ج 11 فتح الباري- ماق دم من ماله فهو له).

ص: 117

(9)

شروط الزكاة:

للزكاة شروط افتراض وشروط ضحة:

(أ) فشروط الافتراض عشرة:

(الأول) الإسلام- عند غير مالك- لقول أبي بكر فيما كتبه لأنس حين بعثه مصدقا: هذه فريضة الصدقة التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها (الحديث) أخرجه الجماعة إلا مسلما والترمذي (1). {18}

(فلا تفترض) على كافر أصلي ولو ذميا لأنها قربة وليس هو من أهلها وهو غير مخاطب بفروع الشريعة على الصحيح عند غير مالك. وإن أسلم لم يطالب بها في مدة الكفر لقوله تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"(2). (وكذا) لا تفترض في مال المرتد عند الحنفيين لأنه يصير كالكافر الأصلي حتى لو ارتد بعد لزومها تسقط عنه.

(وقالت) الشافعية والحنبلية: من ارتد بعد لزومها لا تسقط عنه، لأن ما ثبت وجوبه لا يسقط بالردة كغرامة المتلفات. وأما ما لزمه حال الردة فيجب عليه وجوبا موقوفا- على الأصح- عند الشافعي فإن عاد إلى الإسلام وجبت عليه وإلا فلا (3). (وعند) الحنبلية قولان بالوجوب وعدمه.

(وقالت) المالكية: الإسلام شرط لصحة الزكاة لا لوجوبها، فتجب على الكافر بمعنى أنه يعاقب على تركها عقابا زائدا على عقاب الكفر، لأنه

(1) انظر ص 211 ج 8 - الفتح الرباني (كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع فيه فرائض الصدقة) وص 204 ج 3 فتح الباري (زكاة الغنم) وص 139 ج 9 - المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 336 ج 1 مجتبي (زكاة الإبل) وص 283 ج 1 ابن ماجة (والمصدق) بفتح الصاد وكسر الدال مشددة: من يجمع صدقات النعم. وكان أبو بكر رضي الله عنه بعث أنسا إلى اليمن لجمع الصدقات.

(2)

سورة الأنفال: آية 39.

(3)

انظر ص 328 ج 5 مجموع النووي.

ص: 118

مخاطب بفروع الشريعة وإن كانت لا تصح إلا بالإسلام، وإذا أسلمت سقطت عنه بلا فرق بين الكافر الأصلي والمرتد (1).

الزكاة في مال غير المكلف:

(الثاني) من شروط افتراض الزكاة عند الحنفيين: التكليف- في غير زكاة الزروع والفطر- بالبلوغ والعقل فلا تفترض على صبي ومجنون لقول الله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"(2). وهما ليسا في حاجة إلى التطير، إذ لا ذنب عليهما (ولحديث) علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي، لكن النسائي أخرجه من عدة طرق وقال: لا يصح منها شيء والموقوف أولي بالصواب (3). {19}

(ولا يطالب) وليهما بإخراجها من مالهما لأنها عبادة محضة وليس مخاطبين بها، وإلزامهما بالمتلفات والغرامات لكونها من حقوق العباد، ووجوب العشر وصدقة الفطر في مالهما لما فيهما من معنى المؤنة فالتحقا بحقوق العباد (والمجنون) الأصلي إذا أفاق يعتبر ابتداء الحول من وقت إفاقته كوقت بلوغ الصبي. وكذا الجنون الطارئ إن استوعب الحول على الأصح. ولا عبرة بالجنون غير المستوعب. وهذا التفصيل يجري في المعتوه.

(وقال) مالك والشافعي وأحمد والجمهور: لا يشترط في وجوب الزكاة

(1) تقدم بيان المذاهب في أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أوغير مخاطبين في بحث شروط الصلاة (أنظر ص 92 ج 2 - الدين الخالص).

(2)

سورة التوبة: آية 103.

(3)

انظر ص 238 ج 2 - الفتح الرباني (أمر الصبيان بالصلاة .. الخ)، وص 243 ج 4 عون المعبود (المجنون يسرق أو يصيب حدا) ورقم 4463 ص 35 ج 4 فيض القدير.

ص: 119

التكليف فتجب في مال الصبي والمجنون (لحديث) المثنى بن الصباح عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا من ولي يتيما له مال فليتجزأ له ولا يتركه تأكله الصدقة" أخرجه الدارقطني والترمذي وقال: " ألا من ولى يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه تأكله الصدقة " أخرجه الدار قطنى والترمذى وقال:

إنما روى من هذا الوجه. والمثنى بن الصباح يضعف في الحديث. وأخرجه البيهقي والدارقطني بسند فيه مندل بن علي وهو ضعيف، والعزرمي وهو متروك (1). {20}

(ولكن) له شاهدان:

(أ) ما روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح (2). {21}

(ب) ما روى ابن جريح عن يوسف بن ماهك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" أخرجه الشافعي والبيهقي بسند صحيح (3). {22}

(وقد) أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا وما روى عن الصحابة في ذلك (4)(ولذا) قال الجمهور: يجب على ولي غير

(1) أنظر ص 14 ج 2 تحفة الأحوذي (زكاة مال اليتيم) وص 107 ج 4 بيهقي (من تجب عليه الصدقة) وص 206 - الدارقطني (وجوب الزكاة في مال الصبي واليتيم).

(2)

انظر ص 67 ج 3 مجمع الزوائد (زكاة أموال الأيتام).

(3)

انظر ص 107 ج 4 بيهقي (من تجب عليه الصدقة) و (ماهك) بفتح الهاء.

(4)

(روى) سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة. أخرجه البيهقي وقال: هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر (انظر ص 107 ج 4)(وروى) عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه زكى أموال بني أبي رافع فلما دفعهم إليهم وجدوها ينقص فقالوا: إنا وجدناها بنقص، فقال علي: أترون أنه يكون عندي مال لا أزكيه؟ أخرجه البيهقي (أنظر ص 108 ج 4)(وروى) عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة رضي الله عنها تليني وأخا لي يتيما في حجرها وكانت تخرج من أموالنا الزكاة. أخرجه البيهقي (انظر ص 108 ج 4)(وروى) أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزكى مال اليتيم. وروى ذلك عن الحسن بن علي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما. أخرجه البيهقي (أنظر ص 108 ج 4).

ص: 120

المكلف إخراج زكاة ماله، لأن الزكاة تراد للثواب ومواساة الفقير. وغير المكلف من أهل الثواب والمواساة. ويجب في ماله غرامة ما أتلفه فوجبت الزكاة في ماله. (قال) الترمذي: اختلف أهل العلم في هذا. فرأى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مال اليتيم زكاة منهم عمر وعلي وعائشة وابن عمر، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد واسحق. وقالت طائفة: ليس في مال اليتيم زكاة، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك (1).

(وأجاب) الجمهور:

(أ) عن استدلال الحنفيين - بآية: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" فإن غير المكلف ليس من أهل التطهير- بأن الغالب في الزكاة أنها تطهير وليس ذلك شرطا. فإن العلماء اتفقوا على وجوب زكاة الفطر والعشر في مال غير المكلف وإن لم يكن في حاجة إلى التطهير.

(ب) وعن حديث: رفع القلم عن ثلاثة، بأن المراد رفع الإثم والوجوب. والجمهور يقولون: لا إثم على غير المكلف ولا تجب الزكاة عليه بل في ماله، ويطالب بإخراجها وليه. وذلك أن المقصود من الزكاة سد حاجة الفقير من مال الغني شكرا لله وتطهيرا للمال. ومال غير المكلف قابل لأداء النفقات والغرامات. فعلى الولي إخراجها من مال غير المكلف. فإن لم يخرجها وجب على غير المكلف إخراجها بعد البلوغ والإفاقة، لأن الحق توجه إلى المال والولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إلى المال. وإذا نسب إلى الجنين مال بإرث

(1) انظر ص 15 ج 2 تحفة الأحوذي.

ص: 121

أو غيره وانفصل حيا هل تجب فيه الزكاة عند الجمهور؟ الظاهر أنها لا تجب لأن الجنين لا تتيقن حياته ولا يوثق بها فلا يحصل تمام الملك واستقراره، فعلى هذا يبتدئ حولا من حين ينفصل (1).

(والراجح) الذي يشهد له العقل والنقل ما ذهب إليه الحنفيون من أن زكاة غير العشر والفطرة لا تفترض في مال غير المكلف كباقي أركان الإسلام (قال) في الدرر البهية وشرحها: وتجب الزكاة في الأموال إذا كان المالك مكلفا. أعلم أن هذه المقالة قد ينبو عنها ذهن من يسمعها. فإذا راجع الإنصاف ووقف حيث أوقفه الحق- علم أن هذا هو الحق. وبيانه أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام. ولا خلاف أنه لا يجب شيء من الأربعة الأركان التي الزكاة خامستها على غير مكلف. فإيجاب الزكاة عليه إن كان بدليل فما هو؟ فما جاء عن الشارع في هذا شيء مما تقوم به الحجة كما يروي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أمر بالاتجار في أموال الأيتام لئلا تأكلها الزكاة (2). فلم يصح ذلك في شيء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليس مما تقوم به الحجة. وأما ما روي عن ابن مسعود أنه قال: من ولي مال يتيم فليحص عليه السنين، فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزكاة، فإن شاء زكى وإن شاء ترك (3). وروى نحو ذلك عن ابن عباس.

(وإن قال) قائل: إن الخطاب في الزكاة عام كقوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة"(فذلك) ممنوع، وليس الخطاب في ذلك إلا لمن يصلح له الخطاب وهم المكلفون. وأيضا بقية الأركان بل وسائر التكاليف- التي وقع

(1) أنظر ص 330 ج 5 مجموع النووي.

(2)

هو حديث ابن عمرو السابق رقم 20 ص 120 (الزكاة في مال غير المكلف.

(3)

أخرجه البيهقي عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود. وقال: ضعف أهل العلم ليثا. وقد روى عن ابن عباس إلا انه ينفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف لا يحتج به. وأيضا فإن الحديث منقطع لأن مجاهدا لم يدرك ابن مسعود (انظر ص 108 ج 4 بيهقي).

ص: 122

الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف- الخطاب بها عامة للناس. والصبي من جملة الناس. فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغا لإيجابها على غير المكلفين، لكان العموم في غيرها كذلك، وهو باطل بالإجماع. وما استلزم الباطل باطل. مع أن تمام الآية- أعني قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة- يدل على عدم وجوبها على الصبي وهو قوله: تطهرهم وتزكيهم بها، فإنه لا معنى لتطهير الصبي والمجنون ولا لتزكيته. فما جعلوه مخصصا لغير المكلفين في سائر الأركان الأربعة، لزمهم أن يجعلوه مخصصا في الركن الخامس وهو الزكاة. وبالجملة فأموال العباد محرمة بنصوص الكتاب والسنة لا يحللها إلا التراضي وطبية النفس، أو ورود الشرع كالزكاة والدية والأرش والشفعة. فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله- سيما من كان قلم التكليف عنه مرفوعا- فعليه البرهان. والواجب على المنصف أن يقف موقف المنع حتى يزحزحه عنه الدليل. ولم يوجب الله تعالى على ولي اليتيم والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما ولا أمره بذلك ولا سوغه له، بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدع لها القلوب وترجف لها الأفئدة (1).

(وقال) العلامة صديق بن حسن البخاري: والحق الذي لا محيص عنه أنها لا تجب الزكاة في مال الصبي. والمرفوع في هذه المسألة لم يثبت والموقوف لا حجة فيه. وحكم الصبي في جميع الفرائض- في الصلاة والصوم والزكاة- وأحد لم يخص منها شيء دون شيء (2).

هل على العبد زكاة؟

(الثالث) من شروط افتراض الزكاة: الحرية، فلا تفترض على العبد القن والمدبر عند كافة العلماء وكذا المكاتب والمستسعى لا تجب عليهما زكاة عند الجمهور سواء الزرع وغيره لضعف ملكهما ولأن الزكاة للمواساة وليس

(1) انظر ص 120 و 121 - الروضة الندية.

(2)

انظر ص 270 ج 1 فتح الملك العلام شرح بلوغ المرام.

ص: 123

الرقيق من أهلها (وقال) الحنفيون: على المكاتب زكاة الزرع دون باقي الأموال (لعموم) حديث معاذ رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ مما سقت السماء العشر ومما سقى بالدوالي نصف العشر" أخرجه النسائي (1). {23}

والمستسعى كالمكاتب عند أبي حنيفة (وقال) أبو يوسف ومحمد: هو حر مدين يزكي ما زاد على الدين المطلوب منه لسيده إن بلغ نصابا وحال عليه الحول (وقال) الجمهور: إن عتق المكاتب والمال في يده استأنف له الحول من حين العتق، وإن عجز وصار المال للسيد ابتدأ الحول من حينئذ.

زكاة الصداق والموقوف وغير المملوك ونحوها:

(الرابع) من شروط افتراض الزكاة: الملك التام (وهو) عند الحنفيين أن يكون المال مملوكا في اليد (وعند) المالكية أن يكون للشخص حق التصرف فيما ملك (وعند) الشافعية والحنبلية أن يكون المال بيده يتصرف فيه باختياره وثمرته له ولم يتعلق به حق الغير، وعليه:

(أ) فلا زكاة في الزرع الثابت بأرض مباحة اتفاقا لعدم الملك.

(ب) ولو ملك ما لم يقبضه كصداق المرأة قبل قبضه فلا زكاة فيه حتى تقبضه على ما سيأتي بيانه في زكاة الدين إن شاء الله تعالى.

(جـ) ومن قبض ما لا يملك كالمدين الذي بيده مال الدائن فلا زكاة عليه عند الحنفيين، لأنه غير مملوك له.

(وقال) مالك: إن كان ما بيده نقدا وعنده عقار أو غيره يوفى منه الدين فعليه زكاة ما بيده متى مضى عليه حوله لأنه- بقدرته على تسديده من ماله- أصبح مملوكا له. أما إذا كان ما بيده حرثا أو ماشية أو معدنا فعليه زكاته وإن لم يوجد عنده ما يوفي به الدين.

(1) أنظر ص 344 ج 1 مجتبي (ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر) و (الدوالي) جمع دالية، وهو ما يستسقى به من البئر.

ص: 124

(وقالت) الشافعية والحنبلية: يجب على من استدان مالا أن يزكيه إذا حال عليه الحول وهو في يده لأنه ملكه بالاستقراض ملكا تاما.

(د) ولا زكاة في المال الموقوف مطلقا عند الحنفيين لعدم الملك (وقالت) المالكية: تجب الزكاة في المال الموقوف على ملك الواقف لأن الوقف لا يخرج العين عن الملك. فلو وقف بستانا ليفرق ثمره على الفقراء أو بين بني فلان، وجب عليه أن يزكى ثمره إن بلغ نصابا وإلا فلا، إلا إذا كان عند الواقف ثمر بستان آخر يكمل النصاب فيجب عليه زكاة الجميع.

(وقالت) الشافعية والحنبلية: لا تجب الزكاة في مال موقوف على غير معين كالمساكين أو على مسجد ومدرسة ونحوها. وتجب في الموقوف على معين إذا بلغ ثمره نصابا. وكذا تجب على من أجر أرضا موقوفة وزرعها فعليه زكاة الخارج إن بلغ نصابا مع أجرة الأرض. فإذا كانت الماشية موقوفة على جهة عامة كالفقراء والمساجد واليتامى فلا زكاة فيها اتفاقا، لأنه ليس لها مالك معين، وإن كانت موقوفة على معين واحد أو جماعة.

فإن قلنا: إن الملك- في رقبة الموقوف- لله تعالى وهو الأصح، فلا زكاة اتفاقا كالوقف على جهة عامة. وإن قلنا: إن الملك في الرقبة للموقوف عليه وهو قول ضعيف عندهم، ففي وجوبها على الموقوف عليه وجهان: أصحهما لا تجب. والأشجار الموقوفة من نخل أو عنب إن كانت موقوفة على جهة عامة كالمساجد والمدارس والقراء والمساكين فلا زكاة في ثمارها. وإن كانت على معين وجبت الزكاة في ثمارها إذا بلغت نصابا اتفاقا. ويخرجها من نفس الثمرة إن شاء، لأنه يملك الثمرة ملكا مطلقا (وعن) أحمد: إن كانت موقوفة على غير معين لم تجب، وإن كانت على معين وجبت. وهكذا حكم الغلة الخالصة من ارض موقوفة إن كانت على معين وجبت زكاتها اتفاقا وإن كانت على جهة عامة لم تجب على المذهب (1).

(1) انظر ص 340 ج 5 مجموع النووي.

ص: 125

(الخامس) من شروط افتراض الزكاة: ملك النصاب- في غير الزروع اتفاقا، وكذا في الزروع عند غير النعمان- فلا تفترض على من لم يملك نصابا، وهو ما قدره الشارع لافتراض الزكاة، ويختلف باختلاف المال المزكى كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(السادس) حولان: الحول القمري على ملك النصاب- في الأثمان والمواشي وعروض التجارة- فلا زكاة فيما ذكر إلا بعد مضي حول تام- تحديدا- بعد ملك النصاب عند غير الحنبلية- وتقريبا- عندهم فلا يضر نقصانه نصف يوم (لحديث) حارثة بن محمد عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" أخرجه ابن ماجه مرفوعا والبيهقي مرفوعا وموقوفا (1). {24}

قال البيهقي: وحارثة لا يحتج بخبره، والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة فيه عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم رضي الله عنهم.

(وعن) أيوب عن نافع أن ابن عمر قال: "من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول عند ربه" أخرجه الترمذي وقال: وهذا أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه (2). {25}

(وعن) عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان لك مائتا درهم وحال عليها الحول

(1) انظر ص 281 ج 1 - ابن ماجه (من استفاد مالا) وص 95 ج 4 بيهقي (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول).

(2)

انظر ص 9 ج 2 تحفة الأحوذى (لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول) و (هذا أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد) أي هذا الموقوف صحيح (وأما) حديث زيد بن أسلم عن نافع عن ابن عمر مرفوعا (فضعيف) قال الترمذي: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف. هذا: وقد روى المرفوع الدارقطني والبيهقي (انظر ص 198 - الدارقطني وص 104 ج 4 بيهقي).

ص: 126

ففيها خمسة دراهم" (الحديث) وفيه: وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. أخرجه أبو داود والبيهقي (1). {26}

(أما) ما يخرج من الأرض كالزرع والمعدن والركاز فتفترض فيها الزكاة ولم يحل عليها الحول. وكذا ربح التجارة لأنه يزكي بحول أصله إن كان نصابا (وجملة) القول أن أموال الزكاة ضربان:

(أ) ما هو نماء في نفسه كالحبوب والثمار: فهذا تجب فيه الزكاة بلا توقف على الحول.

(ب) ما هو مرصد للنماء كالنقود وعروض التجارة والماشية: فهذا يعتبر فيه الحول اتفاقا (2).

(والفرق) أن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء. فالماشية مرصدة للدر والنسل. وعروض التجارة مرصدة للربح وكذا الأثمان. فاعتبر له الحول لكونه مظنة النماء، ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة. ولم تعتبر حقيقة النماء لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأحوال فلابد لها من ضابط كيلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد فينفذ مال المالك. أما الزروع والثمار فهي نماء في نفسها تتكامل عند نضوجها، فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ثم تعود في النقص فلا تجب فيها ثانية لعدم إرصادها للنماء. وكذلك الخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض فنزل منزلة الزروع والثمار، إلا أنه إن كان من جنس الأثمان وجبت فيه الزكاة عند كل حول لأنه مظنة للنماء من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورءوس مال التجارات (3).

(1) انظر ص 163 ج 9 - المنهل العذب المورود (زكاة السائمة) وص 95 ج 4 بيهقي وعاصم بن ضرة وثقة ابن المديني معين والنسائي وتكلم فيه ابن حبان وابن عدى. فالحديث حسن (وقال) النووي في الخلاصة: وهو حديث صحيح أو حسن. ولا يقدح فيه ضعيف الحارث لمتابعة عاصم له (أنظر ص 328 ج 2 نصب الراية).

(2)

انظر ص 361 ج 5 مجموع النووي، وفيه: وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: تجب الزكاة فيما ذكر يوم ملك النصاب، فإذا حال الحول وجبت زكاة ثانية.

(3)

انظر ص 456 ج 2 شرح المقنع.

ص: 127

(السابع) من شروط افتراض الزكاة: كمال النصاب في طرق الحول- عند الحنفيين ومالك- ولا يضر نقصانه في أثنائه ما بقى من النصاب شيء، أما لو عدم بالمرة أو نقص في آخر الحول فلا تفترض الزكاة (وقال) الشافعي وأحمد: يشترط كمال النصاب في كل الحول، فلو كمل في أول الحول ثم نقص في أثنائه ثم كمل فلا زكاة إلا إذا مضى حول كامل من يوم التمام ولو بادل بماشية ماشية من جنسها، استأنف كل واحد منهما الحول على ما أخذه من حين المبادلة، وكذا لو بادل الذهب بالذهب والفضة بالفضة استأنف الحول وإن كان صيرفيا على الأصح (1).

(وقال) بعض الحنبلية: نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه.

(وقال) بعضهم: لا يعفى عن النقص في الحول وإن كان يسيرا لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)(2).

(وقال) بعضهم: نقص الحول أقل من يوم لا يؤثر لأنه يسير فأشبه الحبة والحبتين. وظاهر الحديث يقتضي التأثير وهو أولى، ومتى باع النصاب في أثناء الحول أو أبدله بغير جنسه أنقطع حول الزكاة واستأنف له حولا لما ذكرنا من الحديث. ولا نعلم في ذلك خلافا إلا أن يبدل ذهبا بفضة أو فضة بذهب فإنه مبني على الروايتين في ضم أحدهما إلى الآخر، فقيل: يضم لأنهما كالجنس الواحد. فعلى هذا لا ينقطع الحول. وقيل: لا يضم أحدهما إلى الآخر لأنهما جنسان في باب الربا. فعلى هذا ينقطع الحول ومحل انقطاع الحول بالبيع والإبدال ما لم يقصد بذلك الفرار من الزكاة عند قرب وجوبها وإلا فلا تسقط. وكذا لو أتلف جزءا من النصاب لتسقط عنه الزكاة لم تسقط وتؤخذ منه في آخر الحول من جنس المال المبيع أو المبدل دون الموجود لأنه الذي وجبت فيه الزكاة. وهذا قول مالك والأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق (3).

(1) انظر ص 361 ج 5 مجموع النوي.

(2)

تقدم رقم 24 ص 126.

(3)

انظر ص 460 ج 2 شرح المقنع.

ص: 128

(فائدة) لو ملك أقل من نصاب ثم كمل بالربح ثم كمل بالربح لا يحسب الحول إلا من وقت الكمال عند الثلاثة لعموم حديث: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.

(وقالت) المالكية: لو ملك أقل من نصاب في أول الحول ثم اتجر فيه فربح ما يكمل النصاب في آخر الحول وجب عليه زكاة الجميع (وعن أحمد) فيمن ملك دون النصاب من الغنم فكمل بنتاجها احتسب الحول من حين ملك الأمهات. والمذهب الأول لأن النصاب هو السبب فاعتبر معنى الحول على جميعه (1).

(الثامن) - من شروط افتراض الزكاة- العلم بفرضيتها لمن أسلم في دار الحرب- عند الحنفيين- أما من أسلم في دار الإسلام فلا يشترط في حقه العلم بفرضيتها لأن لا يعذر بالجهل.

(وقال) غيرهم: لا يشترط العلم بفرضية الزكاة ولو لمن أسلم في دار الحرب. فإذا مضت عليه سنين ولم يؤد زكاتها لومه إخراج الزكاة عن جميعها ولو لم يعلم بوجوب الزكاة أو كان في دار الحرب. ولو غلب أهل البغي على بلد ولم يؤد أهل ذلك البلد الزكاة أعواما ثم ظفر بهم الإمام أخذ منهم زكاة الماضي عند مالك والشافعي وأحمد.

(وقال) الحنفيون: لا زكاة عليهم لما مضى (2)، لأن العلم بفرضية الصلاة والصيام والزكاة شرط لمن أسلم في دار الحرب لأنه يعذر بجهله بخلاف من اسلم في دارنا، وأيضا فإن الصلاة والصوم عبادتان بدنيتان والزكاة عبادة مالية تتعلق بمرافق الأمة الاجتماعية العامة التي يكفلها الإمام وينفق منها في مصالح العامة، فلابد أن يكون له الولاية التامة على من يأخذها منه (3).

(1) انظر ص 457 شرح المقنع.

(2)

انظر ص 337 ج 5 مجموع النووي.

(3)

أنظر ص 546 ج 2 مغنى ابن قدامة.

ص: 129

زكاة مال المدين:

(التاسع) فراغ مال الزكاة- غير الزرع- من دين محيط بماله له مطالب من العباد- عند الحنفيين- بأن كان دينا للعبد أو لله له مطالب من العباد كالزكاة والمطالب بها الإمام في الأموال الظاهرة وهي المواشي وما يخرج من الأرض والملاك في الأموال الباطنة وهي أموال التجارة والأثمان، لأن الإمام كان يأخذها إلى زمن عثمان رضي الله عنه ثم فوضها إلى أربابها فهم نواب الإمام فيها. فلا تفترض الزكاة على مدين بما ذكر دينا محيطا بماله كله أو جله والباقي أقل من النصاب. أما إذا بقى منه نصاب فإنه يزكى الباقي لعدم المانع. أما الدين الخالص لله تعالى الذي ليس له مطالب من العباد كالنذر والكفارات ونفقة الحج فإنه لا يمنع وجوب الزكاة.

(وقالت) المالكية: يشترط في زكاة النقدين- غير المعدن والركاز (1) - عدم دين ينقص النصاب وليس عند المالك ما يفي به من غير حاجته الضرورية. فلا تفترض زكاة النقدين على مدين دينا ينقص النصاب وليس عنده ما يفي بالدين من غير مال الزكاة بعد حوائجه الضرورية كدار السكنى. أما الماشية والحرث والمعدن والركاز فتجب فيها الزكاة ولو مع الدين.

(والأصح) عند الشافعية: أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة في أي مال كان. وقيل: إنه يمنع وجوبها في الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة وعروض التجارة، ولا يمنعها في الظاهرة وهي الزروع والثمار والمواشي والمعادن (والفرق) أن الظاهرة نامية بنفسها، وبهذا قال مالك (2).

(والأصح) عند الحنبلية أنه يشترط في كل أموال الزكاة عدم دين يستغرق النصاب أو ينقصه ولو كان الدين من غير جنس المال المزكى أو كان دين خراج أو أجرة أرض وحرث وغيرها؛ فمن كان عنده مال وجبت

(1) الركاز: المال المدفون.

(2)

انظر ص 544 ج 5 مجموع النووي.

ص: 130

زكاته وهو مدين فليخرج منه ما يفي بدينه ثم يزكي الباقي إن بلغ نصابا وإلا فلا، لأن المدين محتاج والصدقة إنما تجب على الأغنياء (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا صدقة إلا عن ظهر غنى" أخرجه أحمد وكذا البخاري معلقا في الوصايا (1). {27}

(وروى) أبو عبيد في كتاب الأموال عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: "هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ومن لم يكن عنده زكاة لم يطلب منه حتى يأتي تطوعا. قال إبراهيم النخعي: أراه (يعني شهر رمضان)(2).

(وقالت) الحنبلية: دين الله تعالى كالنذر والكفارة فيه وجهان:

(أحدهما) يمنع الزكاة لأنه دين يجب قضاؤه كدين الآدمي (وقد) روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر افأقضيه عنها؟ قال: "نعم فدين اله أحق أن يقضي" أخرجه الشيخان (3). {28}

(وثانيهما) لا يمنع دين الله الزكاة، لأنها آكد منه لتعلقها بالعين. ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به. فإن نذر الصدقة بمعين فقال: لله على أن أتصدق بهذه المائتي ريال إذا حال الحول (فقيل) يخرجها ولا زكاة عليه لأن النذر آكد لتعلقه بالعين والزكاة مختلف فيها (وقيل) تلزمه زكاتها وتجزيه الصدقة بالباقي ويكون ذلك صدقة مجزئة عن الزكاة والنذر، لأن الزكاة صدقة وباقيها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة (4).

(1) انظر ص 189 ج 3 فتح الباري (لا صدقة إلا عن ظهر غنى).

(2)

انظر ص 545 ج 2 مغنى ابن قدامة.

(3)

انظر ص 140 ج 4 فتح الباري (من مات وعليه صيام) وص 24 ج 8 نووي (قضاء الصوم عن الميت).

(4)

انظر ص 455 ج 2 شرح المقنع.

ص: 131

(العاشر) - من شروط افتراض الزكاة- التمكن من أدائها- عند مالك والشافعي في القديم- فلا تفترض فيما حال عليه الحول قبل التمكن من أدائها حتى لو هلك المال حينئذ فلا زكاة فيه لأنها عبادة، فيشترط لوجوبها إمكان أدائها كسائر العبادات. وكذا لو أتلف المال بعد الحول وقبل إمكان الأداء فلا زكاة عليه إذا لم يقصد بإتلافه الفرار من الزكاة.

(وقال) الحنفيون وأحمد والشافعي في الجديد: لا يشترط لوجوب الزكاة التمكن من أدائها. فتجب بحلول الحول ولو لم يتمكن من الأداء. واتفق العلماء على أن إمكان الأداء شرط في الضمان. ومعناه أنه يضمن من الزكاة بقدر ما بقي من النصاب. فلو هلك النصاب كله بعد الحول وقبل إمكان الأداء فلا شيء على المالك، لأنا إن قلنا: الإمكان شرط في الوجوب فلم يصادف وقت الوجوب مالا، وإن قلنا: الإمكان شرط في الضمان فلم يبق شيء يضمن بقسطه. فلو حال الحول على خمس من الإبل فتلف واحد قبل الإمكان فلا زكاة على التالف اتفاقا. وأما الأربعة فإن قلنا: الإمكان شرط في الوجوب فلا شيء فيها. وإن قلنا: شرط في الضمان فقط وجب أربعة أخماس شاة. ولو تلف أربعة فعلى الأول لا شيء وعلى الثاني يجب خمس شاة. ولو ملك ثلاثين بقرة فتلف خمس منها بعد الحول وقبل الإمكان فعلى الأول لا شيء عليه، وعلى الثاني يجب خمسة أسداس تبيع. ولو تم الحول على تسع من الإبل فتلف أربعة قبل الإمكان، فإن قلنا: التمكن شرط في الوجوب وجب شاة، وإن قلنا: شرط في الضمان والوقص (1) عفو فكذلك، وإن قلنا: يتعلق الفرض بالجميع الفصحيح الذي قطع به الجمهور يجب خمسة اتساع شاة (2).

(والراجح) أن الزكاة تجب بحلول الحول سواء تمكن من الأداء أو لم يتمكن (لحديث) لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (3). فمفهومه وجوبها عليه إذا حال الحول ولأنه لو لم يتمكن من الأداء حتى حال عليه حولان

(1) الوقص: بفتحتين وقد تسكن القاف: ما بين الفريضتين من نصب الزكاة.

(2)

انظر ص 375 ج 5 مجموع النووي.

(3)

لقد رقم 24 ص 126 (الحول).

ص: 132

وجبت عليه زكاة الحولين، ولا يجوز وجوب فرضين في نصاب واحد في حال واحد. وقياس المالكية الزكاة على سائر العبادات ينقلب عليهم، فإننا نقول هذه عبادة فلا يشترط لوجوبها إمكان أدائها كسائر العبادات، فإن الصوم يجب على الحائض والمريض العاجز عن أدائه والصلاة تجب على المغمي عليه والنائم ومن أدرك من أول الوقت جزءا ثم جن أو حاضت المرأة، والحج يجب على من أيسر في وقت لا يتمكن من الحج فيه أو منعه من المضي مانع. ثم الفرق بينهما أن تلك عبادات بدنية يكلف فعلها ببدنه فأسقطها تعذر فعلها. وهذه عبادة مالية يمكن ثبوت الشركة للمساكين في ماله والوجوب في ذمته مع عجزه عن الأداء كثبوت الديون في ذمة المفلس وتعلقها بماله بجنايته (1).

(ب) شروط صحة أداء الزكاة:

يشترط لصحة أدائها شرطان:

(الأول) الإسلام- عند المالكية- بناء على المعتمد عندهم من أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. فلا تصح الزكاة من الكفار عندهم، كما لا تجب عليه عند غيرهم القائلين بأن الكفار غير مخاطبين بالفروع.

(الثانية) النية المقارنة لأداء الزكاة حقيقة أو حكما- بأن دفع إلى الفقير بلا نية ثم نوى والمال بيد الفقير- أو المقارنة لعزل المقدار الواجب إخراجه لقوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين"(2). فإن الإخلاص هو النية لأنه عمل قلبي (ولحديث) عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات" أخرجه الشيخان (3). {29}

أي إنما صحتها بالنية (وقد) أجمع العلماء على أن النية فرض في الزكاة وغيرها من مقاصد العبادات، لكنه لو تصدق بكل المال ولم ينو الزكاة سقطت- عند الحنفيين- لدخول الواجب فيما تصدق به فلا يحتاج للتعيين.

(1) انظر ص 539 ج 2 مغنى ابن قدامة.

(2)

سورة البينة: آية 5.

(3)

انظر ص 8 ج 1 فتح الباري (بدء الوحي) وص 53 ج 13 نووي.

ص: 133

(وقال) غير الحنفيين: لا تسقط الزكاة لعدم النية. (وشذ) الأوزاعي فقال: لا يشترط للزكاة نية لأنها دين فلا تجب لها النية كسائر الديون، ولهذا يخرجها ولي اليتيم ويأخذها السلطان من الممتنع. (ورد):

(أ) بحديث: إنما الأعمال بالنيات؛ وأداؤها عمل فلابد له من النية.

(ب) وبأنها عبادة تتنوع إلى فرض ونفل فافتقرت إلى النية كالصلاة، وتفارق قضاء الدين بأنه ليس بعبادة، ولهذا يسقط بإسقاط مستحقة، وولي الصبي والسلطان ينويان عند الحاجة.

(هذا) والنية أن يعتقد أنها زكاته أو زكاة من يخرج عنه كالصبي والمجنون، ومحلها القلب، ويجوز تقديمها على الأداء زمنا يسيرا كسائر العبادات، ولأن الزكاة تجوز النيابة فبها فاعتبار مقارنة النية للإخراج يؤدي إلى الحرج، فإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوي هو دون الوكيل جاز إن قرب الزمن وإلا لم يجز إلا إن نوى الوكيل أيضا عند الدفع، ولو نوى الوكيل دون الموكل لم يجز لأن الفرض يتعلق به، وإن دفعها إلى الإمام ناويا ولم ينو الإمام حال دفعها للفقراء جاز وإن تأخر دفعها لهم لأنه وكيل عنهم (1).

(وحاصل) مذهب المالكية: أنه يجب على المزكي نية الزكاة عند عزلها أو دفعها لمستحقها لتتميز عن صدقة التطوع، فإن لم ينو ولو جهلا أو نسيانا لم تجزه. وهل يشترط إعلام الآخذ أو علمه بأنها زكاة أو لا يشترط لما فيه من كسر النفس؟ خلاف. ولا يجوز سرقة قدر الزكاة من مال من اشتهر بعدم التزكية لعدم النية (وقيل) يجوز إذا علم من شخص أنه لا يخرجها بحال وليس حاكم يكرهه على إخراجها. وإذا نوى رب المال بما سرق منه زكاة ماله لم تفده هذه النية لأن شرط النية أن تكون عند عزلها أو دفعها (2).

(1) انظر ص 505 ج 2 مغني ابن قداغمة.

(2)

انظر ص 604 ج 1 - الفجر المنير شرح مجموع الأمير.

ص: 134

(10)

وقت تأدية الزكاة:

يجب إخراجها فورا عند الثلاثة والجمهور، وهو المختار عند الحنفيين (لقول) عقبة بن الحارث النوفلي:"صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم فقام مسرعا فتخطي رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: "ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته" أخرجه البخاري (1). {30}

ففي الحديث دليل على:

(أ) طلب المبادرة بإخراج الزكاة بعد وجوبها كراهة أن يحبس في القيامة على التأخير (قال) ابن بطال: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة.

(ب) أنه ينبغي أن يبادر بالخير، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والتسويف غير محمود. وفي المبادرة تخليص الذمة وبعد من المطل المذموم وحفظ للمال من الدمار (قالت) عائشة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته" أخرجه الشافعي والبخاري في التاريخ وابن عدى والبيهقي والحميدي (2). {31}

(فهو) يدل على أن التراخي عن إخراج الزكاة بعد وجوبها سبب لإهلاك المال وإن كان عازما على إخراجها. وفيه دليل على تعلق الزكاة بعين المال لا بالذمة لأن الزكاة إذا لم تكن في جزء من المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها ولا كونها سببا لإهلاك ما خالطته (وفي) المنتقى: إذا لم يؤد الزكاة حتى مضي حولان فقد أساء وأثم وعليه زكاة حول واحد عند الحنفيين. (وعن) محمد أن

(1) انظر ص 229 ج 2 فتح الباري (من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم) و (التبر) بكسر فسكون: الذهب الذي لم يصغ، ويقال للفضة أيضا.

(2)

انظر ص 211 ج 4 نيل الأوطار (المبادرة إلى إخراج الزكاة) ورقم 7897 ص 443 ج 5 فيض القدير للمناوي.

ص: 135

التأخير لا يجوز وهو نص على الفور. وذكر الجصاص أنها على التراخي لأنه إذا هلك النصاب بعد تمام الحول والتمكن من الأداء لا يضمن، ولو كانت واجبة على الفور لضمن كمن أخر صوم شهر رمضان عن وقته فإنه يجب عليه القضاء. ومعنى التراخي أنها تجب مطلقا بلا تعيين وقت، فمتى أدى في وقت ما جاز، وإذا لم يؤد إلى آخر عمره يتضيق عليه الوجوب (1).

والدليل يشهد للفورية، وعليه فإذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها لم يجز تأخيرها لأنه حق يجب صرفه إلى الآدمي فلم يجز فيه التأخير كالوديعة إذا طلبها صاحبها، فإن أخر الزكاة وهو قادر على أدائها ضمنها لأنه أخر ما يجب عليه مع إمكان الأداء فيضمنه كالوديعة وإن لم يتمكن فله التأخير إلى التمكن فإن أخر بعد التمكن عصى وصار ضامنا، فلو تلف المال كله بعد ذلك لزمته الزكاة، وإن تلف المال بعد الحول وقبل التمكن فلا إثم ولا ضمان عليه اتفاقا، وإن أتلفه المالك لزمه الضمان، وإن أتلفه أجنبي فعلى القول بأن التمكن شرط في الوجوب فلا زكاة، وكذا على أنها تتعلق بالعين فينتقل حق الفقراء إلى القيمة (2).

(11)

قضاء الزكاة:

من وجبت عليه الزكاة وتمكن من أدائها ثم مات لم تسقط عند الشافعي وأحمد والحسن البصري، فيجب إخراجها من ماله (لحديث) فدين الله أحق أن يقضي (3) (وقال) الليث والأوزاعي: تخرج من ثلث ماله قبل الوصايا (وقال) الحنفيون ومالك والشعبي والنخعي وسفيان الثوري: إن أوصى بها أخرجت من ثلث ماله كسائر الوصايا، وإن لم يوص لم يلزم الورثة إخراجها، وإن أخرجها وارث أو أجنبي لا يسقط الواجب لعدم نيته، وفعلهم لا يقوم

(1) انظر ص 3 ج 2 بدائع الصنائع.

(2)

انظر ص 333 ج 5 مجموع النووي.

(3)

تقدم رقم 28 ص 131.

ص: 136

مقام فعله بدون إذنه وتعتبر صدقة تطوع، وإن أوصى معها بوصايا وضاق الثلث عن الكل يوزع بينهم بالسوية (فلو) قال: ثلث مالي لحج والزكاة ولعلي والكفارات قسم الموصى به على أربعة، ولا يقدم الفرض على حق الآدمي لحاجته. (واستدلوا) على سقوط الزكاة بالموت بأنها عبادة محضة شرطها النية فتسقط بالموت كالصلاة (وأجاب) الأولون: بأنها ليست كالصلاة لأنها لا تصح الوصية بها ولا تدخلها النيابة بخلاف الزكاة (1).

(وعلى هذا) الخلاف: إذا مات من عليه صدقة الفطر أو النذر أو الكفارات أو الصوم أو النفقات فإنه لا يستوفى من تركته عند الحنفيين ومالك، ويستوفى عند الشافعي وأحمد، وإن مات من لزمه العشر، فإن كان الثمر أو الزرع باقيا فلا يسقط بالموت في ظاهر الرواية- عند الحنفيين- وإن استهلكه حتى صار دينا في ذمته فهو على هذا الخلاف، وإن أوصى بالأداء يؤدي من ثلث ماله عند الحنفيين ومالك. وعند الشافعي وأحمد يؤدي من جميع ماله. والكلام فيه مبني على أن الزكاة حق الله تعالى عند الحنفيين ومالك وهو لا يتأدى إلا بمباشرة أو إنابة، وعند الشافعي وأحمد: الزكاة حق العبد وهو الفقير فأشبهت سائر الديون وهي لا تسقط بموت المدين فكذا الزكاة ولو مات من عليه الزكاة في خلال الحول انقطع حكم الحول عند الحنفيين ومالك. وعند الشافعي وأحمد لا ينقطع الحول بل يبنى الوارث عليه، فإذا تم الحول أدى الزكاة (2).

(فائدة) من لزمته زكاة ثم مرض ولا مال له لزمه أن ينوي تأدية الزكاة عند القدرة ولا يقترض، فإن اقترض ودفع الزكاة ناويا الوفاء عند التمكن فقد سقط عنه الواجب (3).

(1) انظر ص 335 ج 5 مجموع النووي. وص 461 ج 1 رد المحتار.

(2)

انظر ص 53 ج 2 بدائع الصنائع.

(3)

انظر ص 337 ج 5 مجموع النووي.

ص: 137