الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم عاشوراء مفرداً وسبت وأحد (وتطوع) وهو سنة كصوم عاشوراء مع التاسع. ومندوب كصوم ثلاثة أيام من كل شهر. وهاك بيانها مفصلاً:
(أ) صيام رمضان:
فرض صومه يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان من السنة الثانية من الهجرة. وهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال تعالى "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (1) " وقال تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه (2) "(وروي) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وحج البيت" أخرجه أحمد والشيخان (3){34}
(وقال) طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مجد ثائر الرأس نسمع دوى صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم
(1) سورة البقرة. آية 183 و 185
(2)
سورة البقرة. آية 183 و 185
(3)
انظر ص 79 ج 1 - الفتح الرباني (أركان الإسلام) وص 38 ج 1 - فتح الباري (الإيمان) وص 177 ج 1 نووي (أركان الإسلام) وقد أخرجه مسلم من أربع طرق. هذا لفظ الرابع. ولفظ الأول: بني الإسلام على خمسة على أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج. فقال رجل الحج وصيام رمضان: قال (يعني ابن عمر) لا. صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (انظر ص 176 ج 1 نووي) وفيهما كما ترى تقديم الصوم على الحج وفي الثاني والثالث تقديم الحج على الصوم كما عند أحمد والبخاري.
والليلة فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وصوم رمضان. قال: هل علي غيره؟ فقال: لا إلا أن تطوع (الحديث) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وأبو داود وهذا لفظ مسلم (1){35}
والأحاديث في هذا كثيرة، وقد أجمعت الأمة على فرضية صوم رمضان لا يجحدها إلا كافر (وشرع) الصوم لحكم (منها) أنه وسيلة إلى شكر النعمة إذ هو كف للنفس على الأكل والشرب والمفطر، وهي من أجل النعم وأعلاها والامتناع عنها زماناً معتبراً يعرف قدرها إذ النعم مجهولة فإذا فقدت عرفت فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في آية الصوم "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"(2).
(ومنها) أنه وسيلة إلى التقوى لأنه إذا انقادت نفسه للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن
(1) انظر ص 68 ج 1 - الفتح الرباني. وص 72 ج 4 فتح الباري (وجوب صوم رمضان). وص 166 ج 1 نووي (الصلوات أحد أركان الإسلام) وص 79 ج 1 مجتبي وص 276 ج 3 - المنهل العذب المورود و (رجل) هو ضمام بن ثعلبة. و (نجد) قسم من بلاد العرب بين الحجاز والعراق. و (ثائر الرأس) أي منتشر الشعر. و (دوي الصوت) بفتح الدال وكسر الواو وشد الياء- بعده في الهواء. وقيل هو صوت غير مرتفع كصوت النحل. و (رمضان) اسم للشهر المعروف وهو من الرمض (بفتح الميم) شدة الحر. وفيه دليل على جواز أن يقال: جاء رمضان بدون ذكر الشهر. وهو المختار عند المحققين "وما قيل" من أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى "ليس بصحيح" ولم يصح فيه شيء. وقد جاء فيه أثر ضعيف وأسماء الله تعالى توفيقية لا تطلق إلا بدليل صحيح (انظر ص 188 ج 7 نووي مسلم).
(2)
سورة البقرة: آية 185.
الحرام فكان الصوم سبباً للاتقاء عن محارم الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى:"كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"(ومنها) أن فيه قهر النفس وكسر الشهوة لأن النفس إذا شبعت مالت إلى الشهوات. وإذا جاءت امتنعت عما تهوي (روي) ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجالاً" أخرجه الشيخان (1){36}
.. فكان الصوم وسيلة إلى الامتناع عن المعاصي (ومنها) أن فيه كسر النفس وقهر الشيطان، فالشبع نهر في النفس يرده الشيطان والجوع نهر في الروح ترده الملائكة (ومنها) كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين فإن الإنسان إذا ذاق ألم الجوع والعطش في بعض الأوقات تذكر حال المسكين في عمومها فيسارع إلى رحمته ومواساته بما يمكن من ذلك وبه ينال حسن الجزاء من الله تعالى.
(ومنها) ما يترتب على الصوم من رياضة النفس وراحة أعضاء الجهاز الهضمي شهراً من السنة لتقوى وتقوم بما خلقت له خير قيام. ولذا أباح الشارع الفطر لمن لا يلائمه الصوم كالمريض والمسافر. وهذه الحكم إنما تظهر ثمرتها لمن يعتدل في الطعام والشراب ويتحلى بالآداب الشرعية في الصيام. ثم الكلام ينحصر في سبعة فصول.
(1) انظر ص 83 ج 4 فتح الباري (الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة) أي خاف ما ينشأ عنها من الوقوع في الزنا. وص 172 ج 9 نووي (استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه .... ).
(1)
أحوال الصيام: شرع الصوم على ثلاثة مراتب (أ) إيجابه على وجه التخيير، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر- ولو قادراً صحيحاً مقيماً- وأطعم عن كل يوم مسكيناً.
(ب) تحتم الصيام على القادر الصحيح المقيم، وكان إذا غربت الشمس يتناولون المفطر ما لم يناموا، ومن نام قبل أن يطعن ويشرب حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، قال تعالى:"يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدوداتٍ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيامٍ أخر وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين"(1)
(1) معنى الآيتين: اعلموا أيها المؤمنون أن الله فرض عليكم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة فالتشبيه في وجوب الصيام (قيل) كان الصوم على آدم عليه الصلاة والسلام أيام البيض- الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر- وعلى قوم موسى عاشوراء (وقيل) التشبيه في القدر والوقت. والمعنى أن الله تعالى فرض على هذه الأمة صوم رمضان كما فرضه على من قبلهم، لكنهم زادوا في العدد إلى خمسين ونقلوا الصيام من أيام الحر إلى أيام الاعتدال (وقيل) التشبيه في الصفة. وهي ترك المفطر (والمعنى أن الله تعالى فرض عليكم ترك المفطرات كما فرضه على من قبلكم غير أنهم في صيامهم قصروا الإمساك عن المفطر من ذي الروح والمستخرج منه. وقوله تعالى (لعلكم تتقون) أي ليكون الصوم وقاية بينكم وبين العاصي. فإنه يكسر الشهوة التي هي مبدؤها ففي حديث ابن مسعود: ومن لم يستطع (يعني النكاح) فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي قاطع للشهوة. فصوموا أياماً معدودة معلومة وهي رمضان. ومن كان مريضاً مرضاً يشق معه الصوم أو مسافراً سفراً تقصر له الصلاة وبدأه قبل الفجر فله الفطر وعليه صيام أيام أخر قضاء ما أفطر .. أما من سافر نهاراً فلا يباح له الفطر في هذا اليوم (قال) علي رضي الله عنه: من أدرك رمضان وهو مقيم ثم سافر فقد لزمه الصوم، لأن الله يقول "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" أخرجه عبد ابن حميد وابن جرير (انظر ص 86 ج 2 جامع البيان) =
(جـ) التخفيف على الصائم بإباحة تناول المفطرات طول الليل قبل النوم وبعده،
= وقوله "وعلى الذين يطيقونه فدية" أي على من يجهده الصوم لكبر أو مرض لا يرجي برؤه فدية، وهي عن كل يوم نصف صاع من بر أو سويقه أو دقيقه أو صاع من تمر أو شعير أو زينب عند الحنفيين. ومد (أي ربع صاع) من غالب قوت البلد عند غير الحنفيين. وعلى هذا لا نسخ في الآية (فقد) قرأها ابن عباس وقال: ليست بمنسوخة هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكيناً. أخرجه البخاري والنسائي (انظر ص 125 ج 8 فتح الباري- قوله تعالى: أياماً معدودات ..... )(وعنه) قال: يطيقونه يكلفونه فدية طعام مسكين واحد فمن تطوع خيراً طعام مسكين آخر. ليست بمنسوخة (الحديث) أخرجه النسائي (انظر ص 318 ج 1 مجتبي تأويل قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية
…
) و (قيل) المعنى وعلى المطيقين للصوم إن أفطروا بلا عذر فدية كانوا مخيرين بين الصوم والفدية. ثم نسخ التخيير بقوله تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"(قال) سلمة بن الأكوع: لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. أخرجه الخمسة (انظر ص 126 ج 8 فتح الباري - فمن شهد منكم الشهر فليصمه- وص 318 ج 1 مجتبي وص 26 ج 10 - المنهل العذب- نسخ قوله: وعلى الذين يطيقونه) وقوله "فمن تطوع خيراً فهو خير لكم" أي فمن زاد في الفدية فله ثواب أكثر وصومكم أيها المرخص لهم في الفطر خير لكم من تأخير الصيام ومن الفدية إن كنتم تعلمون ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة، لآثرتموه على عدمه. وإنما خص فرض الصيام بشهر رمضان لمزيد فضله: فقد أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر منه. ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة. والقرآن هداية للناس من الضلال وآيات واضحات من جملة الكتب السماوية الهادية إلى الحق والفارقة بينه وبين الباطل بما فيها من الحكم والأحكام. وقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" أي فمن علم الهلال برؤية أو غيرها، فليصم رمضان إلا إذا كان مريضاً أو مسافراً فله الفطر وعليه قضاء ما أفطره وقد أباح الله الفطر للعذر ووسع في القضاء فلم يوجب فيه المبادرة في زمن معين ولا التتابع للتسهيل عليكم ولتكملوا قضاء ما فاتكم بعد زوال العذر ولتحمدوا الله وتشكروا له على ما أولاكم من النعم التي من اجلها الإرشاد لمعالم الدين.
قال الله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل"(1)
(1) سورة البقرة: آية 187. و (الرفث) الجماع وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء. وجعل كل من الزوجين لباساً للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس ولامتزاج كل منهما بالآخر عنده و (تختانون أنفسكم) أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصيام. وسماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم (فتاب عليكم) أي قبل التوبة من خيانتكم لأنفسكم أو خفف عنكم بإباحة الطعام وتناول المفطرات ليلاً. (وعفا عنكم) أي تجاوز عما ارتكبتم من الخيانة أو وسع وسهل لكم في الأمر (وابتغوا ما كتب الله لكم) أي اطلبوا الولد بمباشرة نسائكم والمراد بالخيط الأبيض الفجر الصادق المعترض نوره في الأفق وبالخيط الأسود سواد الليل (وقد) دل على هذه الأحوال حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال (الحديث) وفيه "وأما أحوال الصيام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام فصام سبعة عشر شهراً من ربيع الأول إلى رمضان من كل شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء ثم إن الله تعالى فرض عليه الصيام فأنزل (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه .. ثم إن الله تعالى أنزل الآية الأخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. فهذان حالان. وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا. فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له صرمة بن قبس ظل يعمل صائماً حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح نائماً فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً قال "ما لي أراك قد جهدت جهداً شديداً قال: يا رسول الله إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت وأصبحت صائماً وكان عمر قد أصاب من النساء- من جارية أو من حرة- بعد ما نام وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله تعالى "أحل لكم ليلة الصيام- الآية" أخرجه احمد وأبو داود والبيهقي وهو مرسل صحيح السند فإن ابن ابي ليلى لم يدرك معاذاً (انظر ص 239 ج 9 - الفتح الرباني- الأحوال التي عرضت للصيام. وص 151 ج 4 - المنهل العذب المورود- كيف الأذان).
(2)
مبدأ فرض الصيام: (قال) الحنفيون ومالك وبعض الشافعية: أول ما فرض صيام عاشوراء ثم ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ ذلك بصوم رمضان بالإمساك كل يوم وليلة من بعد النوم إلى غروب الشمس، ثم نسخ ذلك بآية "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وروي عن أحمد (قالت) عائشة رضي الله عنها: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه" أخرجه الجماعة
إلا ابن ماجه وقال الترمذي: صحيح (1){37}
…
(والمشهور) عند الشافعية واحمد: أنه لم يفرض علينا صوم قبل رمضان (قال) معاوية بن أبي سفيان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر" أخرجه مالك وأحمد والشيخان (2){38}
(1) انظر ص 105 ج 2 زرقاني الموطأ (صيام يوم عاشوراء) وص 184 ج 10 الفتح الرباني (عدم تأكد صومه بعد نزول رمضان) وص 175 ج 4 فتح الباري وص 4 ج 8 نووي وص 202 ج 10 - المنهل العذب المورود وص 56 ج 2 تحفة الاحوذي.
(2)
انظر ص 106 ج 2 زرقاني وص 186 ج 10 - الفتح الرباني وص 175 و 176 ج 4 فتح الباري وص 8 ج 8 نووي.
استدلوا به على أنه لم يكن صوم عاشوراء فرضاً قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أنه يريد ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه (1).
(3)
فضل صيام رمضان: صيام رمضان وقيامه لهما فضل كبير وثواب جزيل من أداهما مصدقاً محتسباً: أي طالباً رضاء الله وثوابه، غفرت ذنوبه وضوعفت حسناته ورفعت درجاته (روي) أبو هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال:"من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه السبعة. وزاد احمد في رواية: وما تأخر (2){39}
…
(وعن) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه كفر ما قبله" أخرجه احمد وابن حبان والبيهقي بسند جيد (3){40}
(1) انظر ص 176 ج 4 فتح الباري.
(2)
انظر ص 219 ج 9 - الفتح الرباني (فضل صيام رمضان وقيامه) وص 81 ج 4 فتح الباري وص 40 ج 6 نووي. وص 308 ج 7 - المنهل العذب المورود (قيام رمضان) وص 31 ج 2 تحفة الاحوذي وص 258 ج 1 - ابن ماجه. و (إيماناً) أي تصديقاً بأنه حق. وظاهر الحديث يشمل غفران الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر. وقال الأكثر: المراد غفر الصغائر فقط. قال النووي: وفي التخصيص نظر وإن اجمعوا على الكبائر لا تسقط إلا التوبة أو بالحد. ومعنى غفر الذنب المتأخر أنه يحفظ من الوقوع فيه أو أنه إن وقع مغفوراً. وتقدم- بهامش ص 246 ج 5 - الدين الخالص- بيان الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة.
(3)
انظر ص 221 ج 9 - الفتح الرباني (فضل صيام رمضان وقيامه) وص 304 ج 4 بيهقي (وعرف حدوده) بان صامه راغباً في الثواب خائفاً من العقاب مخلصاً لله (ويحفظ
…
) أي اجتنب اللغو والرفث والخصام والغيبة والنميمة والنظر إلى ما يثير الشهوة.
(وقال) أبو هريرة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه السبعة. وزاد النسائي في رواية "وما تأخر"(1).
(وعن) معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً يصلي الخمس ويصوم رمضان غفر له. قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله؟ قال: دعهم يعملوا" أخرجه أحمد بسند جيد (2){42}
قد دلت هذه الأحاديث على أن صيام رمضان وقيامه يكفر أن الذنوب المتقدمة وفي بعضها والمتأخرة. ويأتي في صوم عرفة أنه كفارة سنتين وفي عاشوراء أنه كفارة سنة وأن رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما وأن العمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وأن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. فكيف الجمع بينهما؟
(والجواب) أن كل واحدة من هذه الخصال صالحة لتكفير الصغائر فإن صادفتها كفرتها (وإن لم) يصادفها ذنب بأن كان عاملها سليماً من الذنوب لكونه غير مكلف أو موفقاً فلم يرتكب صغيرة أو ارتكبها وتاب أو عقبها بحسنة أذهبتها، قال تعالى:"إن الحسنات يذهبن السيئات"(3)
(1) انظر ص 225 ج 9 - الفتح الرباني وص 179 ج 4 فتح الباري وص 40 ج 6 نووي وص 306 ج 7 - المنهل العذب المورود (قيام شهر رمضان) وص 228 ج 1 مجتبي وص 205 ج 1 - ابن ماجه (من غير أن يأمرهم
…
) فيه دليل على عدم وجوب القيام. وأصرح منه حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله فرض صيام رمضان وسننت قيامه (الحديث) أخرجه احمد والنسائي وابن ماجه وفيه النضر بن شيبان ضعيف (انظر ص 244 ج 9 - الفتح الرباني).
(2)
انظر ص 222 ج 9 - الفتح الرباني و (دعهم) أي لا تخبرهم لئلا يتكلوا ويتركوا العمل.
(3)
سورة هود آية: 114.
فهذا (يكتب) له بهذا العمل حسناتٌ ويرفع له بدرجات، ويرجي أن يخفف عنه بعض الكبائر.
(4)
فضل رمضان: رمضان شهر عظيم مبارك أنزل الله في القرآن، قال تعالى:"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"(1)، وهو أفضل الشهور وشهر الصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. فرض الله صيامه وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه. وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر يضاعف الله فيه أجر العاملين ويغفر للصائمين (وقد) جاء في فضله والحث على العمل فيه أحاديث (منها) حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد جاءكم رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتفل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي (2) {
43}
(1) سورة البقرة: آية 185.
(2)
انظر ص 225 ج 9 - الفتح الرباني (فضل رمضان والعمل فيه) وص 299 ج 1 مجتبي. وفائدة فتح أبواب الجنة في رمضان توقيف الملائكة على عمل الصائمين وحمد الله لهم وأن ذلك من الله بمنزلة عظيمة. وأيضاً إذا علم المكلف الموقن بهذا الخير الصادق يزيد في نشاطه ويتلقاه بصدر منشرح واهتمام كامل (وهذا) يدل على أن أبواب الجنة تغلق في غير رمضان. ولا ينافيه قوله تعالى (وإن للمتقين لحسن مآب، جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) سورة ص آية 49 و 50 لأن هذا مع كونه في الآخرة لا يقتضي دوام كونها مفتحة الأبواب (وتغليق) أبواب النار في رمضان يقضي أنها تفتح في غير، ولا ينافيه قوله تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) سورة الزمر: 71 - لأن هذا في الآخرة ولا ينافي أن يكون هناك غلق قبل ذلك (وغلق) أبوابها في رمضان لا ينافي موت الكفرة فيه وتعذيبهم بالنار إذ يكفي فيه فتح باب صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المغلقة (وتغل فيه الشياطين) لتعجيزهم من الإغواء وتزيين الشهوات .. ولا ينافيه وقوع المعاصي والشرور في رمضان لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة وشياطين الإنس فلا يلزم أن تكون كل معصية بوسوسة شيطان. فهذا إبليس لم يسبقه شيطان آخر وسوس له بل كانت معصيته من قبل نفسه.
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين" أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وعندهما: فتحت أبواب الرحمة، بدل أبواب السماء (1){44}
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار في كل
(1) انظر ص 80 ج 4 فتح الباري (هل يقال رمضان)(وص 187 ج 7 نووي (الصيام) وص 229 ج 1 مجتبي والمراد بـ (أبواب السماء) ما يصعد منها إلى الجنة لأنها فوق السماء وسقفها عرش الرحمن كما ثبت بالكتاب والسنة (وأبواب الجنة (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحاجت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقال الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم (بفتح السين والقاف أي ضعفاؤهم والمحتقرون منهم) وعجزهم (بفتحتين جمع عاجز أي العاجزون عن طلب الدنيا والتمكن فيها) فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منكما ملؤها (الحديث) أخرجه مسلم انظر ص 181 ج 17 نووي (جهنم أعاذنا الله منها).
ليلة" أخرجه ابن ماجه والترمذي وفيه أبو بكر بن عياش مختلف فيه (1){45}
(دلت) هذه الأحاديث على أن أبواب الجنة تفتح في رمضان حقيقة. وقيل: المراد بفتحها كثرة الطاعات المستلزمة دخول الجنة من الصيام والصلاة والذكر والقراءة في شهر رمضان.
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه أو أحدهما الكبر فلم يدخلاه الجنة" أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه بسند جيد (2){46}
…
المعنى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره؛ وبر الوالدين وصيام رمضان والعمل الصالح فيه، أسباب لدخول الجنة، فمن بخل بالصلاة
(1) انظر ص 259 ج 2 - ابن ماجه (فضل رمضان) وص 31 ج 2 تحفة الاحوذي (وصفدت) بضم المهملة وكسر الفاء المشددة أي شدت وأوثقت بالأغلال وهو معنى سلسلت وأغلقت (والمردة) جمع ما رد وهو المتجرد للشر. و (يا باغي الخير
…
) أي يا طالب الخير أقبل على فعله فإنك تعطي الثواب الجزيل على العمل القليل و (يا طالب الشر أمسك) وتب فإنه أو أن قبول التوبة. وفائدة هذا النداء- وهو غير مسموع- أن المؤمنين قد علموا به وصدقوا بخبر الصادق الأمين صلى لله عليه وسلم فتذكروا وأقبلوا على الخير وكفوا عن الشر وبه يحصل المقصود من النداء بأن يتذكر الناس كل ليلة أنها ليلة المناداة فيتعظوا بها. ولعل طاعة المطيعين وتوبة المذنبين ورجوع المقصرين في رمضان من أثر هذا النداء ونتيجة إجابة الله تعالى للداعين. ولهذا نرى أكثر المسلمين صائمين وغالب من يترك الصلاة في غير رمضان يصلون فيه ويصومون.
(2)
انظر ص 230 ج 9 - الفتح الرباني (فضل رمضان) ورقم 4459 ص 34 ج 4 فيض القدير (ورغم) بكسر الغين وفتحها أي ذل وأصابه الخزي والهوان وأصله لصق أنفه بالرغام وهو تراب مخلوط برمل.
على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره أو عق والديه أو لم يصم رمضان وقصر في طاعة الله تعالى لم يدخل الجنة مع السابقين وأذله الله وأخزاه.
…
(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة وما يعد المنافقون فيه من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمنين يغتنمه الفاجر" أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي (1){47}
وفي رواية له: "ونقم للفاجر" أي أن الله تعالى ينتقم من الفاجر ويذيقه العذاب الأليم بسوء فعله وإيذائه المسلمين بتتبع عوراتهم في أثناء غفلتهم عن الدنيا وانقطاعهم لطاعة الله، فكأن ذلك غنيمة يغتنمها الفاجر في نظره ولكنها في الحقيقة شر له لو كان يعلم ما أعد له في الآخرة من العذاب الأليم. وأما المؤمن فإنه بعد ما يقويه على الطاعة في رمضان من ادخار ما ينفقه على عياله فيه لأن اشتغاله بالطاعة فيه يمنعه من تحصيل المعاش أو يقلل منه، فهو يحصل ما يلزمه وأولاده من القوت في رمضان قبل حلوله ليتفرغ فيه للطاعة فهو خير له لما اكتسبه فيه من الأجر العظيم والرحمة والمغفرة والعتق من النار.
…
(وعن) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة لتزخرف لرمضان من رأس الحول إلى الحول المقبل، فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة ويجيء الحور العين يقلن يارب اجعل لنا من عبادك أزواجاً تقر بهم أعيننا وتقر
(1) انظر ص 231 ج 9 - الفتح الرباني وص 140 ج 3 مجمع الزوائد وص 304 ج 4 بيهقي (فضل رمضان).
أعينهم بنا" أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار، وفيه الوليد القلانسي وثقه أبو حاتم وضعفه جماعة (1){48}
…
(وعن) أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر" أخرجه مسلم (2){49}
والأحاديث في هذا كثيرة (3)، وفيما ذكر الغناء والكفاية لمن تدبر واتعظ وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
(5)
الطاعة في رمضان: ينبغي لكل عاقل الإكثار من العبادة في رمضان لأنها في الأيام الفاضلة لها مزية على غيرها. ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من العبادة في شهر رمضان ويحث على فعل الخير والإكثار منه فيه (روي) سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائماً على طعام وشراب من حلالٍ صلت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان وصلى عليه جبريل ليلة القدر" أخرجه الطبراني في الكبير والبزار وزاد: ورزق دموعاً ورقة. قال سلمان: إن كان لا يقدر على قوته؟ قال: على كسرة خبز أو مذقة لبن أو شربة ماء كان له ذلك. وفيه الحسن بن أبي جعفر. قال ابن عدي: له أحاديث صالحة وهو صدوق، وفيه كلام (4){50}
(1) انظر ص 142 ج 3 مجمع الزوائد. و (صفق) من باب ضرب أي حركة الريح.
(2)
انظر ص 117 ج 3 نووي (فضل الوضوء والصلاة عقبه). و (إذا اجتنب) مبني للفاعل (الكبائر) مفعول. وروي: إذا اجتنب بزيادة تاء التأنيث مبني للمفعول والكبائر نائب فاعل.
(3)
منها ما تقدم عن سلمان الفارسي رص 251 ج 4 الدين الخالص.
(4)
انظر ص 156 ج 3 مجمع الزوائد (من فطر صائماً). و (مذقة لبن) بفتح بسكون الشربة من لين مخلوط.
(وقال) ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" أخرجه أحمد والشيخان (1){51}
ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسخى الناس وأكرمهم لأن نفسه صلى الله عليه وسلم أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة، فلابد أن يكون فعله أحسن الأفعال، وخلقه أحسن الأخلاق. وكان جوده وكرمه في رمضان أكثر منه في سائر الأوقات. وفي الحديث فوائد: استحباب الإكثار من العطاء في رمضان ولا سيما عند ملاقاة الصالحين للتأثر بلقائهم، واستحباب زيارة أهل الصلاح والفضل ومجالستهم وتكرير ذلك إذا كان فيه مصلحة، وأن قراءة أفضل من التسبيح والتحميد وسائر الأذكار.
(1) انظر ص 228 ج 9 - الفتح الرباني (فضل رمضان والعمل فيه) وص 82 ج 4 فتح الباري (أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان). و (المدارسة) القراءة بالتناوب. والظاهر أن جبريل عليه السلام كان يسمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ويقرؤه عليه ليزداد حفظاً. و (المراسلة) شبه عموم جوده وشمول نفعه بالريح المرسلة. وإنما هذا للتقريب من العقول وإلا فشتان ما بين الأمرين فإن جود النبي صلى الله عليه وسلم يحيي القلوب بعد موتها. والريح تحيي الأرض بعد موتها بما تحمله من الغيث. ولما كان ابن عباس يريد بيان تفاضله صلى الله عليه وسلم في الجود أشار إلى السبب الموجب لكثيرة جوده صلى الله عليه وسلم وهو كونه في رمضان وعند ملاقاة جبريل عليه الصلاة والسلام. أما رمضان فإنه شهر عظيم وفيه الصوم وهو من أشرف العبادات. وأما ملاقاة جبريل عليه الصلاة والسلام فإن فيها زيادة ترقي الغبي صلى الله عليه وسلم في المقامات وزيادة اطلاعه على علوم القرآن. وكان ينزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان ولم ينزل إلى غيره من الأنبياء في هذا الشهر. وكان يدارسه القرآن في رمضان لتجديد العهد واليقين.
(وكان) من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات: كان يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف. وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور حتى إنه كان يواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة. وكان ينهي أصحابه عن الوصال فيقولون له: إنك تواصل. فيقول: "لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني (1). هذا ويستحب للرجل أن يوسع على عياله وأقاربه بلا تكلف ولا التزام ويحسن إلى جيرانه في شهر رمضان لاسيما في العشر الأواخر منه. ويسن الاعتكاف فيه وأكده العشر الأواخر منه (2)، كما يأتي إن شاء الله تعالى في الاعتكاف.
(6)
التفريط في رمضان: يلزم العاقل أن يتحلى بالفضائل ويتخلى عن الرذائل عموماً وفي رمضان خصوصاً، فلا يفطر فيه بلا عذر ولا يشرب فيه خمراً ولا يزني ولا يغتاب ولا يرتكب إثماً أياً كان، وإلا كان من المحرومين من الثواب المطرودين من رحمة رب الأرباب، الذين تضاعف لهم السيئات. وقد جاء في هذا أحاديث (منها) حديث زياد بن نعيم الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن جاء بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن جميعاً: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت" أخرجه احمد مرسلا، لأن زياد بن نعيم ليس صحابياً. وفي سنده ابن لهيعة ضعفوه وله شواهد تعضده (3){52}
(1) انظر ص 154 ج 1 زاد المعاد.
(2)
انظر ص 377 ج 6 مجموع النووي.
(3)
انظر ص 226 ج 9 - الفتح الرباني (وعيد من تهاون بصيام رمضان).
والمعنى أن الله تعالى فرض على كل مسلم مكلف أربع خصال من أركان الإسلام، وهي: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً. من أتى بثلاث منها لم يغنين عن المتروك، لأنه ركن مستقل يثاب على فعله ويعاقب على تركه، فمن أدى الصلاة مثلاً ومنع الزكاة بعد وجوبها عليه، أثيب على تأدية الصلاة وعوقب على منع الزكاة. ومن جاء بهما وترك الصيام، أثيب عليهما وعوقب على ترك الصيام. ومن أتى بالثلاثة وهو مستطيع الحج ولم يحج، أثيب على الثلاثة وعوقب على ترك الحج. ومن أتى بهما جميعاً كان من الناجحين (هذا) ولم يذكر في الحديث النطق بالشهادتين وهو أول أركان الإسلام، لأنه ذكر هنا ما يفترض على كل مسلم ولا يتحقق الإسلام إلا بالنطق بالشهادتين فهو مذكور معنى.
(وقال) البخاري: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه. وبه قال ابن مسعود. وقال سعيد بن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يوماً مكانه (1)(دل) على أن من أفطر في رمضان وهو مقيم صحيح متعمداً بلا عذر فعليه إثم كبير ولا يكفي عن ذلك صيام الدهر كله.
(1) انظر ص 114 ج 4 فتح الباري (إذا جامع في رمضان). و (يذكر عن أبي هريرة رفعه .... ) يشير إلى ما روي أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه. أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارمي والبيهقي والدارقطني وابن خزيمة وصححه والترمذي وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه سمعت محمداً البخاري يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث. ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا؟ انظر ص 135 ج 10 - المنهل العذب المورود. وص 264 ج 1 - ابن ماجه. وص 228 ج 4 بيهقي. وص 45 ج 2 تحفة الأحوذي.
والمراد به عند الجمهور أنه لا تحصل له فضيلة الصوم في رمضان وليس المراد أنه لو صام الدهر ناوياً قضاء ذلك اليوم لا يكفيه ولا يسقط عنه بل لو صام بنية القضاء سقط عنه الواجب عند الجمهور وعليه الكفارة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وعن) ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عري الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان" أخرجه أبو يعلي والديلمي بسند حسن وقال الذهبي: حديث صحيح (1){53}
وهذا بالنسبة للشهادة على بابه. وأما بالنسبة للصلاة والصوم فهو من باب الزجر والتهويل أو محمول على مستحل الترك (قال) الذهبي في الكبائر وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عرض أنه شر من المكاس والزاني ومدمن الخمر. بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال (2).
(وعن) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة لتزين من السنة إلى السنة لشهر رمضان فإذا دخل رمضان قالت الجنة: اللهم اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك سكاناً ويقلن الحور العين: اللهم اجعل لنا من عبدك في هذا الشهر أزواجاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن صان نفسه في شهر رمضان فلم يشرب فيه مسكراً ولم يرم فيه مؤمناً بالبهتان ولم يعمل فيه خطيئة، وزوجة الله كل ليلة مائة حوراء وبني له قصراً في الجنة من ذهب وفضة وياقوتٍ وزبرجدٍ. لو أن الدنيا جمعت فجعلت في ذلك القصر لم تكن فيه إلا كمربط عنز في الدنيا ومن شرب فيه مسكراً أو رمي فيه مؤمناً ببهتان أو عمل فيه خطيئة أحبط الله عمله سنة فاتقوا شهر رمضان،
(1) انظر رقم 5414 ص 311 ج 4 فيض القدير.
(2)
انظر رقم 5414 ص 311 ج 4 فيض القدير.
فإنه شهر الله - أن تفرطوا فيه فقد جعل الله لكم أحد عشر شهراً تنعمون فيها. وجعل لنفسه شهر رمضان فاحذروا شهر رمضان" أخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن الأوزاعي إلا احمد بن أبيض. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمة وبقية رجاله موثقون (1){54}
(ففي هذه) الأحاديث الوعيد الشديد والتشنيع الفظيع على من تعمد الفطر في رمضان بلا عذر أو ارتكب فيه إثماً وأنه يضيع ثوابه ويحبط عمله. ومما يؤلم نفس الغيور ويضيق به صدره، أن يرى مخالفة هذه الأحاديث من بعض من يزعم انهم مسلمون. فيفطرون في رمضان جهاراً في الشوارع والأسواق ولا يجدون من ينهاهم. وإذا نهاهم إنسان قل أن يسلم من أذى فإنا لله وإنا إليه راجعون. ونرى كثيراً من المطاعم والمقاهي في المدن والقرى مفتحة الأبواب للمفطرين نهاراً جهاراً (2)
.. وفي الليل ترى محلات الفجور وحانات الخمور
(1) انظر ص 144 ج 3 مجمع الزوائد (احترام شهر رمضان ومعرفة حقه). و (مربط) - كمقعد ومنزل- موضع تربط فيه الدابة.
(2)
(وقد) سئلت لما نصه: ما قولكم فيمن يفتح محلاً للطعام والشراب ويبيع ذلك للمفطرين في شهر رمضان ويقدم لهم ذلك في محله نهاراً. أيجوز ذلك أم هو حرام؟ أفيدونا مأجورين (فأجبت) قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام. وحرم على غير ذي العذر الإفطار في رمضان. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فإن الله تعالى فرض صيام شهر رمضان على المكلف القادر الصحيح المقيم. والصيام ركن من أركان الإسلام قد ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. والفطر فيه بغير عذر من الكبائر وتقديم الطعام أو الشراب لمن لزمه الصيام حرام، لما فيه من التعاون على المنكر. قال الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وعلى كل مسلم أن ينهي المفطر في رمضان بغير عذر عن الفطر وإلا كان شريكاً له في الإثم ويوشك الله أن يعم الكل بعذاب. قال الله تعالى (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) وقال النبي =
وأماكن الملاهي والقمار يؤمها الأشرار في ليالي رمضان التي هي جديرة بالصلاة
= صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان" أخرجه احمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري .. وقال صلى الله عليه وسلم "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" أخرجه البزار والخطيب والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعون فلا يستجاب لكم" أخرجه الترمذي. فعلى أرباب المطاعم والمشارب والمقاهي إغلاقها نهاراً في رمضان. ويحرم عليهم تقديم الطعام والشراب نهاراً لأي مكاف بالصيام، لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان والتهاون بأحكام الدين وترك النهي عن المنكر. وفي تركه الضرر العام وانتشار المعاصي والتظاهر بها. (وقد) ذهب جمهور العلماء إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وأنهم سيعذبون على تركها عذاباً شديداً زائداً على عذاب الكفر. قال الله تعالى في شأن أهل النار (ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين).
وعليه فيحرم على المسلم تقديم الطعام والشراب في نهار رمضان للنصاري واليهود وغيرهم من الكفار فضلاً عن المسلمين. وعلى ولاة الأمور أن ينتبهوا لهذا وان يأخذوا على أيدي العابئين باحكام الدين المفطرين في رمضان المتجاهرين بالفسق والفجور خشية أن يعم الله الكل بالعذاب. وكفى ما مضي من إهمال وتفريط حتى حل بما ما حل وسلط الله تعالى علينا من لا يرحمنا. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى حظيرة الدين والعمل بأوامره والوقوف عند حدوده. قال الله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها (يا ايها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب" أخرجه أبو داود والترمذي. وذلك أن الهداية لا تتحقق إلا بالقيام بما كلفنا به. ومنه الأمر والنهي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقه الأمة في دينها، وأن يلهم الجميع الرشد والصواب، وأن يوافق الكل لتعرف أحكام الدين واتباع طريق سيد النبيين عليه وعلى آله الصلاة والسلام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. (11 من رمضان سنة 1360 العدد الرابع من السنة الثالثة من مجلة الاعتصام).
والقيام والتوبة من جميع الآثام فلو علم هؤلاء الجهال ما في قيام رمضان من الثواب ونزول الرحمات لرجعوا إلى الله تائبين وعلى ما فرطوا نادمين. ولكن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. نعم نرى المساجد يؤمها في رمضان كثير من الناس ولكنهم قليلون بالنسبة لمن يؤم محلات الفساد والفجور. فالعاقل من خالف نفسه وهواه وتاب إلى مولاه وأقبل في رمضان على طاعة الله وأكثر فيه من الصدقة على أهل الفقه والاحتياج ووصل الأرحام واعتصم بحبل الله الذي لا ينام واستمسك بالعروة الوثقى وبذا يجوز الفصل والرضا ويكون من حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون.
(7)
كف الصائم جوارحه عما لا يرضى ربه: هذا مطلوب من الصائم وغيره إلا انه من الصائم آكد. والجوارح سبعة.
(1)
اللسان: فعلى الصائم حبسه عن النطق بالفحش والبهتان والمراء والخصومة والكذب وغيرها من الآثام. قال الله تعالى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (1) " ويلزم الصمت والاشتغال بالطاعة من صلاة وذكر وتلاوة.
(1) سورة ق آية: 18 و (رقيب) أي ملك يرقب قوله وفعله ويكتبه. و (عتيد) أي حاضر (روي) عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (ما يلفظ من قول غلا لديه رقيب عتيد) قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره. فذلك قوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم (وقال) ابن عباس أيضاً: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب: يا غلام أسرج الفرس يا غلام اسقني الماء. أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه (وروي) عمرو بن ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والبيهقي في الشعب (انظر ص 76 ج 5 فتح القدير الشوكاني).
فهذا هو الذي يعتد به من صوم اللسان (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت" أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه (1){55}
وليحذر الصائم كل الحذر من النميمة واللغو والزور والغيبة. وهي إفهام تنقيص الغير بما فيه. فإن لم يكن فبهتان (روي) أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله اعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي (2){56}
…
ولا خلاف في أن الغيبة من الكبائر قد نفر عنها الشارع تنفيراً قال الله تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (3) "
(1) انظر ص 343 ج 10 فتح الباري (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر- الأدب) وص 19 ج 2 نووي (إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت).
(2)
انظر ص 142 ج 16 نووي وص 420 ج 4 عون المعبود (الغيبة).
(3)
سورة الحجرات: آية 12.
والمعنى لا يأتي أحدكم بما يدل على تنقيص غيره ولو تعويضاً فإن من نقص مسلماً أو ثلم عرضه فهو كآكل لحمه حياً. ومن اغتابه فهو كآكل لحمه ميتاً. وهذا مكروه لديكم قطعاً فينبغي أن تكون الغيبة كذلك فامتثلوا أمر ربكم واحذروا عقابه بتباعدكم عما نهاكم عنه لأنه جل شأنه بليغ في قبول التوبة يجعل التائب كمن لم يذنب ويفيض عليه آثار إحسانه.
(واللغو) الباطل وكل ما لا ثواب فيه وهو والغيبة مذمومان منهي عنهما كل إنسان والصائم أشد نهياً عنهما وعن غيرهما. وقد جاء في تحذيره مما ذكر أحاديث (منها) حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"أخرجه الجماعة إلا مسلماً (1){57}
المراد بالزور الحرام ومنه الكذب والغيبة. والمعنى أن من لم يترك حال صيامه القول الباطل من الكذب والغيبة وشهادة الزور والبهتان والقذف والسب واللعن والميل عن الحق وغير ذلك مما يجب على الإنسان اجتنابه، لا يقبل الله صيامه ولا يثيبه عليه (وقال) عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن امرأتين صامتا وإن رجلاً قال: يا رسول الله. إن هاهنا امرأتين قد صامتا وإنهما قد كادنا أن تموتا من العطش فأعرض عنه أو سكت ثم عاد قال يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا قال ادعهما فجاءتا فجيء
(1) انظر ص 76 ج 10 الفتح الرباني (تحذير الصائم من اللغو والرفث والغيبة) وص 82 ج 4 فتح الباري (من لم يدع قول الزور والعمل به) وص 87 ج 10 - المنهل العذب المورود. وص 266 ج 1 - ابن ماجه وص 39 ج 2 تحفة الاحوذي (التشديد في الغيبة للصائم)(فليس لله حاجة) لا مفهوم له فإن الله تعالى لا يحتاج إلى شيء. وإنما المعنى: فليس لله إرادة في قبول صيامه. فوضع الحاجة موضع الإرادة. وهذا النفي كناية عن عدم القبول أي لا يقبل الله صيامه. وليس المعنى أنه يؤمر بأن يدع صيامه وإنما المعنى التحذير من قول الزور وعمله. ومقتضاه أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه وان ثواب الصيام لا يوازن إثم ما ذكر.
بقدح أو عس فقال لإحداهما قيئ فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً حتى قاءت نصف القدح ثم قال للأخرى قيء فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح. ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جاست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس" أخرجه احمد وأبو يعلي وفيه رجل لم يسم (1){58}
…
(وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم إني صائم، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم (2){59}
…
(ففي) هذه الأحاديث حث الصائم على التحلي بالأخلاق الكريمة لأنه متلبس بعبادة عظيمة وألا يقابل السيئة بالسيئة. فإن سابه أحد أو شاتمه فليعرض عنه قائلاً: إني صائم مرتين وفيها تحذيره من اللغو والرفث وهو الكلام القبيح. وتحذيره من الغيبة ونحوها من كل محرم شرعاً. فإن من ارتكب شيئاً مما ذكر فقد أحبط ثواب صيامه واستحق المقت من ربه.
(2)
البصر: فليغضه عن النظر إلى ما يشغله عن ذكر ربه قال الله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم (3) " وقال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً (4) "
(1) انظر ص 77 ج 10 - الفتح الرباني وص 171 ج 3 مجمع الزوائد (الغيبة للصائم). و (العس) بضم العين وشد السين، القدح العظيم (والعبيط) الطري النيئ الكثير.
(2)
انظر ص 430 ج 1 مستدرك.
(3)
سورة النور: آية 30.
(4)
سورة الإسراء: آية 36.
(روي) حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النظرة سهم من سهام إبليس من تركها مخافة الله أعطاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه" أخرجه الحاكم وصححه وأقره العراقي وضعفه المنذري (1){60}
…
(3) السمع: فيلزم صونه عن الإصغاء لكل ما يحرم قوله أو يكره لأن كل واحد منهما ينافي الكمال المطلوب من الإنسان التحلي به. وقد سوى الله تعالى بين القول الزور والفعل المذموم في التنقير، فقال الله تعالى:"سماعون للكذب أكالون للسحت" فقائل القبيح والمستمع له شريكان في الإثم.
(4)
البطن: الجسد إنما ينمو بما يتناوله الإنسان من الغذاء فليكن من الحلال المطلق فإنه مقلل للحساب مذهب للحسرة والندامة يوم المآب وهو من أعظم الأسباب للقرب من رب الأرباب (روي) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله حق الحياء. قالوا: يا نبي الله إنا نستحي من الله ولله الحمد. قال: ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعي وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" أخرجه احمد والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب. وفيه أبان بن إسحق متكلم فيه ووثقه العجلي. وفيه الصباح بن مرة وهو واه تكلم فيه لرفعة هذا الحديث والصواب وقفة. وقال الترمذي: حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. وأخرجه الطبراني مرفوعاً من حديث عائشة (2). {61}
(1) انظر رقم 2864 ص 328 ج 2 كشفا الأخطاء.
(2)
انظر رقم 973 ص 487 ج 1 فيض القدير (الرأس وما وعى) أي ما جمع من الحواس الظاهرة كالسمع والبصر والفم فلا يستمع ولا ينظر إلى محرم ولا يتكلم بما لا ثواب له فيه. والحواس الباطنة بأن لا يفكر إلا فيما يعود عليه بالسعادة والرفاهية و (البطن وما حوى) أي ما جمعه من القلب والفرج واليدين والرجلين فإنها لاتصال عروقها بالبطن يقال إن البطن حوتها.
فليحذر العاقل أن يتناول عند فطره وفي كل أوقاته شيئاً من الحرام أو ما فيه شبهة فلا ينبغي لمن صام عن الحلال طيلة النهار أن يفطر على الحرام.
(5)
الفرج: فليحفظ مما لا يرضى قال الله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم"(1) فإرسال الطرف مبدأ المحنة، والنظر يريد الزنا، ونهاية المحنة بلوغ النفس وطرها من المنظور إليه بالمباشرة والوطء (وعن) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوي ويتمنى وبصدق ذلك الفرج أو يكذبه" أخرجه مسلم (2). {62}
…
(6 و 7) اليد والرجل: فلا يمدها العاقل- ولا سيما الصائم - لمنهى عن فبذلك يكمل له صومه ويقبل عمله، فكل صوم صينت فيه الجوارح عن اللغو والآثام، ينال به العز والإكرام من الله تعالى في الدنيا ودار السلام. (روي) المطلب عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتكم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم"
(1) سورة النور: آية 30.
(2)
انظر ص 206 ج 16 نووي (قدر على ابن آدم نصيبه من الزنا).