المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) وقت الصوم: - الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق - جـ ٨

[السبكي، محمود خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌(10) محظورات القبر

- ‌(11) سؤال القبر وفتنته

- ‌(12) عذاب القبر ونعيمه وضغطته

- ‌(13) المشي بالنعلين بين القبور

- ‌(14) دفن أكثر من واحد في القبر

- ‌(15) نبش القبر

- ‌(16) نقل الميت

- ‌(17) إعداد القبر

- ‌(18) وضع الجريد على القبر

- ‌(الشهيد)

- ‌(أ) تعريفه:

- ‌(ب) تجهيز الشهيد:

- ‌(جـ) الشهيد غير المكلف:

- ‌(د) الشهيد غير الطاهر:

- ‌(هـ) كفن الشهيد:

- ‌(و) من لا يعتبر شهيدا:

- ‌يتصل بما يتعلق بالميت أربعة أصول:

- ‌(أ) التعزية

- ‌(ب) صنع الطعام لأهل الميت ومنهم

- ‌(جـ) زيارة القبور

- ‌(د) القرب تهدي إلى الميت

- ‌الزكاة

- ‌(أ) زكاة النعم

- ‌(ب) زكاة الأثمان

- ‌(جـ) زكاة العروض

- ‌(د) زكاة الزروع والثمار

- ‌(هـ) المعدن والركاز

- ‌الصيام

- ‌(1) فضل الصيام:

- ‌(2) وقت الصوم:

- ‌(3) شروط الصيام

- ‌(4) أقسام الصيام

- ‌(أ) صيام رمضان:

- ‌(ب) الصوم الفرض غير المعين

- ‌(جـ) الصوم المنهي عنه

- ‌(د) صوم التطوع

- ‌(5) آداب الصيام

- ‌(6) ما يباح للصائم

- ‌(7) ما يكره للصائم:

- ‌(8) ما لا يفسد الصوم

- ‌(9) ما يفسد الصوم

- ‌(10) الأعذار المبيحة للفطر

- ‌(11) بدع رمضان

- ‌(12) الموضوع في الصيام

- ‌(13) الاعتكاف

الفصل: ‌(2) وقت الصوم:

وهو محمول على من لا يتضرر بالصوم ولا يفوت به حقاً ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات الغزو وإلا تعين الفطر ولا ثواب له إن صام.

(وعن) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيهن فيشفعان" أخرجه احمد والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح (1). {5}

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكر الغناء والكفاية لمن أراد سلوك سبيل السعادة. والله ولي التوفيق والهداية.

(2) وقت الصوم:

هو نوعان: ما يرجع إلى أصل الوقت، وما يرجع إلى وصفه:

(أ) فالذي يرجع إلى أصله هو بياض النهار من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، فلا يجوز الصوم في الليل لأن الله تعالى أباح تناول المفطرات في الليل إلى طلوع الفجر، ثم أمر بالصوم إلى الليل.

قال تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب الله عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا

(1) انظر ص 216 ج 9 - الفتح الرباني (فضل الصيام) وص 181 ج 3 - مجمع الزوائد (فيشفعان) بضم الياء وشد الفاء: أي يقبل، الله شفاعتهما ويدخله الجنة، وهذا يحتمل الحقيقة بأن يخلق الله في الصيام والقرآن النطق، ويحتمل المجاز والتمثيل.

ص: 320

واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" (1).

والمراد بالخيط الأبيض بياض النهار وبالأسود ظلمة الليل (قال) عدي بن حاتم رضي الله عنه: لما نزلت "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لين فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال:"إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" أخرجه الشيخان وأبو داود (2){6}

فكان هذا تعيين الليالي للفطر والنهار للصوم، ولأن الحكمة التي لها شرع الصوم من التقوى وتعرف قدر النعم الحامل على شكرها لا يحصل بالصوم في الليل لأن ذلك لا يحصل إلا بفعل شاق على البدن مخالف للعادة وهوى النفس ولا يتحقق ذلك بالإمساك في حالة النوم فلا يكون الليل محلاً للصوم (3).

(ب) والذي يرجع إلى وصف الوقت من الخصوص والعموم ثلاثة أقسام:

(الأول) وقت صوم التطوع وهو السنة كلها ما عدا يومي العيد وأيام التشريق ورمضان، فيجوز صوم التطوع خارج رمضان في كل أيام السنة

(1) سورة البقرة: آية 187 "وابتغوا ما كتب الله لكم" أي اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد أو الرخصة بإباحة الطعام وغيره طول الليل، وسيأتي بيان الآية إن شاء الله تعالى.

(2)

انظر ص 93 ج 4 - فتح الباري (قول الله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) وص 200 ج 7 - نووي (الدخول في الصوم بطلوع الفجر) وص 70 ج 10 المنهل العذب المورود (وقت السحور)، و (العقال) بكسر العين: الحبل يعقل بن البعير (إنما ذلك) إشارة إلى ما ذكر من قوله: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض .... إلخ، وعند مسلم وأبي داود: عن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار.

(3)

انظر ص 77 ج 2 - بدائع الصنائع.

ص: 321

غير أيام العيد والتشريق (لحديث) أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر، فأنزل الله تعالى تصديق ذلك في كتابه: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" اليوم بعشرة أيام" أخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه (1){7}

فقد جعل الدهر كله محلاً للصوم من غير فصل ولأن المعاني التي كان الصوم لها حسناً وعبادةً موجودة في سائر الأيام فكانت الأيام كلها محلاً للصوم عدا ما تقدم على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(الثاني) وقت الصوم غير المعين كقضاء رمضان والكفارات وهو كل السنة إلا يومي العيدين وأيام التشريق الثلاثة ويوم الشك ورمضان. أما الخمسة الأولى فلورود النهي عن صيامها لما فيه من الإعراض عن ضيافة الله تعالى، فأوجب ذلك نقصاناً في صومها. والواجب في ذمته صوم كامل فلا يتأدى بالناقص. وأما يوم الشك فلأنه يحتمل أن يكون من رمضان وأن يكون من شعبان فإن كان من شعبان يكون قضاء هما لزم في الذمة، وإن كان من رمضان لا يكون قضاء، فلا يكون قضاء مع الشك (2).

(الثالث) وقت صوم رمضان: وهو شهر رمضان فلا يجوز في غيره إلا قضاء، لقوله تعالى:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه" أي فليصم في الشهر. ثم الكلام ينحصر في ستة فصول:

(1) انظر ص 327 ج 1 - مجتبي (صوم ثلاثة أيام من الشهر)، وص 268 ج 1 - ابن ماجه، وص 60 ج 2 - تحفة الأحوذي.

(2)

انظر ص 79 ج 2 - بدائع الصنائع.

ص: 322

(1)

ما يثبت بالهلال: يجب على الناس وجوباً كفائياً طلب رؤية الهلال في التاسع والعشرين من رجب وشعبان ورمضان وذي القعدة، لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً (روي) نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" أخرجه مسلم واحمد وزاد: قال نافع فكان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر فإن رؤى فذاك. وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب أو قتر أصبح مفطراً. وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً (1){8}

(فإن) رؤى هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان، صام الناس لزوماً. وإن لم ير الهلال لنحو غيم أو غبار، لزم إكمال شعبان ثلاثين يوماً (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان

(1) انظر ص 190 ج 7 نووي (وجوب صيام رمضان لرؤية الهلال) وص 250 - ج 9 الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال)(فلا تصوموا حتى تروه) يعني هلال رمضان (ولا تفطروا حتى تروه) أي هلال شوال (فإن غم) بض فشد ويقال أعمى- بضم فيكون فكسر- أي وجد مانع من رؤية الهلال (قدروا له) امر من قدرت الشيء أقدره بكسر الدال وضمها أي قدروا له تمام الثلاثين أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين يوما. وبهذا قال الحنفيون ومالك والشافعي والجمهور لقوله في رواية لمسلم: فاقدروا له ثلاثين وفي رواية وقدروه تحت السحاب ولذا أوجب الصيام من الغد إذا لم بر الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وكان بالسماء مانع من الرؤية من غيم ونحوه. (والفتر) بفتحتين الغبار (وأصبح صائماً) يدل على أن ابن عمر كان يرى صوم يوم الشك. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ص: 323

ثلاثين يوماً" أخرجه احمد والشيخان والنسائي والدارمي (1){9}

(وعن) عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحفظ من هلال شعبان مالا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام" أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح. وفيه معاوية بن صالح وثقه أحمد وإن قال أبو حاتم لا يحتج به (2){10}

والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى في رؤية هلال شعبان وعد أيامه محافظة على صوم رمضان تحرياً لا يتحراه في غيره من الأشهر التي لا يتعلق بها أمر شرعي كالحج والأضحية. فإن رؤى هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان صام رمضان وإن حال بين رؤيته غيم اكمل شعبان ثلاثين يوماً.

(وعن) طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى جعل هذه الأهلة مواقيت للناس صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأتموا العدة" أخرجه أحمد والطبراني في الكبير. وفيه محمد بن جابر اليماني وهو صدوق (3){11}

(1) انظر ص 248 ج 9 - الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال) وص 87 ج 4 فتح الباري (إذا رأيتم الهلال فصوموا) وص 193 ج 7 نووي (وجوب صيام رمضان لرؤية الهلال) وص 301 ج 1 مجتبي (إكمال شعبان ثلاثين إذا كان غيم) وص 3 ج 2 دارمي (الصوم لرؤية الهلال).

(2)

انظر ص 254 ج 9 - الفتح الرباني (إكمال شعبان إذا غم الهلال) وص 42 ج 10 - المنهل العذب المورود (إذا أغمى الشهر) وص 423 ج 1 مستدرك وص 227 الدارقطني.

(3)

انظر ص 247 ج 9 - الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال) وص 145 ج 3 مجمع الزوائد (الأهلة وقوله صوموا لرؤيته).

ص: 324

والمعنى أن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت ليعلم الناس بها أوقات الحج والعمرة والصوم والإفطار وآجال الديون وغير ذلك. فصوموا لرؤية هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال. وليس المراد الصيام والإفطار من وقت الرؤية بل المراد الصوم من فجر الليلة التي رؤى فيها هلال رمضان والإفطار بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان سواء رؤى الهلال قبل الغروب أو بعده. والمراد رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل إنسان بل يكفي رؤية عدلين أو عدل في الصوم. أما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل (1)

ففي هذه الأحاديث الأمر بصوم رمضان عند رؤية هلاله وإن كان شعبان ناقصاً وبالفطر من رمضان برؤية هلال شوال وإن كان رمضان ناقصاً. وفيها النهي عن صوم رمضان قبل رؤية هلاله ولم يكمل شعبان والنهي عن الفطر قبل رؤية هلال شوال إذا لم يكمل رمضان

(فائدة)"قوله" في حديث ابن عمر فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه (2)"ظاهره" إيجاب الصوم والفطر للرؤية وجدت ليلاً أو نهاراً وحمله الجمهور على اليوم المستقبل في الصوم والفطر مطلقاً. وبيانه

(أ) انه إن رؤى في التاسع والعشرين بعد الزوال، تكون الرؤية لليوم المستقبل اتفاقاً. (ب) وإن رؤى يوم الثلاثين قبل الزوال فهي للماضية عند أبي يوسف وحكى عن احمد وهو المختار. فيلزم صوم ذلك اليوم إن كان في آخر شعبان وفطره إن كان في آخر رمضان

(وقال) النعمان ومحمد ومالك والشافعي: لا نعتبر للماضية بل للمستقبلة وهو المشهور عن أحمد (لقول) أبي وائل: جاءنا كتاب عمر- ونحن بخانقين-

(1) انظر ص 190 ج 7 نووي مسلم.

(2)

تقدم رقم 8 ص 323 (ما يثبت به الهلال).

ص: 325

إن الأهلة بعضها أعظم من بعض فإذا رأيتم الهلال لأول النهار فلا تفطروا حتى تمسوا إلا أن يشهد رجلان ذوا عدل انهما أهلاه بالأمس عشية. أخرجه الدارقطني من طريقين (1).

(ب) الشهادة برؤية الهلال: إذا كان بالسماء مانع من الرؤية كغيم وغبار شديد يقبل في هلال رمضان خبر عدل واحد ولو أثنى أو عبداً (2) لأنه أمر ديني، وخبر العدل مقبول في الديانات ويلزم أن يكون المخبر مسلماً مكلفاً، ومستور الحال كالعدل، ولا يشترط لفظ الشهادة ولا الدعوى (لقول) ابن عمر رضي الله عنهما:"تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" أخرجه أبو داود والدارمي والبيهقي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم (3){12}

(قال) الترمذي: والعمل على هذا عند اكثر أهل العلم قالوا: تقبل شهادة رجل واحد في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي واحمد. وقال إسحق: لا يصام إلا بشهادة رجلين، ولم يختلف أهل العلم في الإفطار انه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين (4) فلابد في هلال شوال وذي الحجة من شهادة حرين أو حر وحرتين بشرط العدالة ولفظ الشهادة، لتعلق حق العباد بما ذكر، بخلاف صوم رمضان لأنه حق الشرع ولا تقبل شهادة واحد ولا شهادة النساء فقط ولا السبيل.

(لقول) الحارث بن حاطب: "عهد إلينا النبي صلى الله

(1) انظر ص 232 - الدارقطني. و (خانقين) بكسر النون والقاف، بلد قرب بغداد (وأهلاه) أي رأيا الهلال.

(2)

العدالة ملكة يحمل على ملازمة التقوى والمروءة وأدنى مراتبها ترك للكبائر وعدم الإصرار على الصغائر.

(3)

انظر ص 63 ج 10 - المنهل العذب المورود (شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان) وص 4 ج 2 دارمي. وص 212 ج 4 بيهقي. وص 423 ج 1 مستدرك. (وتراءى الناس الهلال) أي اجتمعوا لرؤيته.

(4)

انظر ص 34 ج 2 تحفة الاحوذي.

ص: 326

عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما، ثم قال: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوماً إلى عبد الله بن عمر فقال: بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه أبو داود والدارقطني مختصراً بسند صحيح (1){13}

(فهذا) الحديث يدل بمفهومه على عدم جواز شهادة رجل واحد في الإفطار، ولا يعارضه منطوق (بل) يؤيده منطوق حديث عبد الملك بن ميسرة عن طاوس قال:"شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس، فجاء رجل إلى وإليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزها وقالا: إن رسول الله صلى وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين" أخرجه الطبراني في الأوسط والدارقطني وقال: تفرد به حفص بن عمر الأبلي وهو ضعيف (2){14}

(وإن) لم يكن بالسماء مانع من رؤية الهلال فلابد في هلال رمضان وغيره- عند الحنفيين- من شهادة جمع عظيم يغلب على ظن القاضي صدقهم لأن خبر غيرهم في مثل هذا الحال ظاهر في الغلط فيتوقف في قبوله

(وروي) عن النعمان الاكتفاء بشهادة اثنين بالرؤية وإن لم يكن بالسماء علة. وأنه يقبل في رمضان شهادة الواحد العدل وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، لأن هذا من باب الإخبار لا من باب الشهادة، بدليل أنه تقبل شهادة

(1) انظر ص 59 ج 10 - المنهل العذب المورود (شهادة رجلين على رؤية هلال شوال) وص 232 - الدارقطني (وننسك) - مضارع نسك كنصر- أي تقرب إلى الله تعالى بالصوم في رمضان والإفطار في أول شوال وبالأضحية وأعمال الحج في وقتها.

(2)

انظر ص 146 ج 3 مجمع الزوائد (الأهلة) وص 227 - الدارقطني.

ص: 327

الواحد إذا كان بالسماء علة. ولو كان شهادة لما قبل لأن العدد شرط في الشهادات. وإذا كان إخباراً لا شهادة فالعدد ليس بشرط في الإخبار عن الديانات وإنما تشترط العدالة فقط (1)

(قال) ابن نجيم: ولم أر من رجحها من المشايخ. وينبغي العمل بها في زماننا لأن الناس تكاسلوا عن ترائي الأهلة فكان التفرد غير ظاهر في الغلط (2)(وقال) الشافعي وأحمد يكفي في هلال رمضان- وإن لم يكن بالسماء علة- رؤية عدل واحد ولو عبداً أو امرأة عند احمد وهو قول للشافعي. ومعتمد مذهبه انه لابد أن يكون حراً ذكراً. ولا يثبت هلال غير رمضان كشوال والحجة إلا بشهادة عدلين حرين لما تقدم

(وقالت) المالكية: يثبت هلال رمضان وشوال برؤية عدلين أو جماعة مستفيضة وأقلها خمسة. وهذا في حق قوم يعنون بأمر الهلال. أما من لم يعن به فيثبت برؤية عدل واحد. ووافقه- في اشتراط العدلين- الأوزاعي والليث وإسحق وداود (وقال) الثوري: يكفي رجلان أو رجل وامرأتان، لحديث الحارث بن حاطب (3)

(قال) النووي: ومحل الخلاف ما لم يحكم بشهادة الواحد حاكم يراه وإلا وجب الصوم ولم ينقض الحكم إجماعاً.

(ج) من رأى الهلال ورد قول: من رأى وحده هلال رمضان وشهد عند القاضي ورد قوله لسبب ما، لزمه الصوم عند الثلاثة وهو المشهور عن احمد لتحقق رؤيته. وإن أفطر قضى فقط لأنه صار مكذباً شرعاً برد خبره ولأنه يحتمل الاشتباه. والكفارة تندرئ بالشبهة (ومن) رأى هلال شوال وشهد عند القاضي ورد قوله لزمه

(1) انظر ص 80 ج 2 بدائع الصنائع.

(2)

انظر ص 268 ج 2 - البحر الرائق.

(3)

تقدم رقم 13 ص 327.

ص: 328

الصوم عند الحنفيين ومالك وأحمد احتياطاً للصوم (ولحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون" أخرجه الترمذي بسند رجاله ثقات وحسنه وأخرجه الدارقطني من طريق الواقدي وقال ضعيف (1){15}

(قال) الترمذي: معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس (2)(وقال) الخطابي معنى الحديث أن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد ثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت أن الشهر كان تسعاً وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر. وكذلك في الحج إذا أخطئوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك (3)

(وقال) الشافعي: من رأى هلال شوال ورد قوله لزمه الفطر عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تفطروا حتى تروه ولكن يخفيه لئلا يتهم. وهو قول للمالكية (وإن) رآه اثنان فلم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما. ولكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر (لقول) عبد الرحمن بن زيد "إني جالست أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنهم حدثوني أنه صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يوماً وإن

(1) انظر ص 37 ج 2 تحفة الاحوذي (الفطر يوم تفطرون) وص 231 - الدارقطني. وأخرجه أبو داود مختصراً بلفظ: وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون. انظر ص 41 ج 10 - المنهل العذب المورود (إذا أخطأ القوم الهلال).

(2)

(وعظم) بكسر العين وفتح الظاء، أي كثرة الناس.

(3)

انظر ص 95 ج 3 معالم السنن (إذا أخطأ القوم الهلال).

ص: 329

شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" أخرجه احمد والنسائي بسند لا بأس به. ولم يذكر النسائي: مسلمان (1){16}

(وإن) شهدا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما، فلمن علم عدالتهما الفطر لأن رد الحاكم هاهنا ليس بحكم منه وإنما هو توقف لعدم علمه. ولهذا لو ثبت عدالتهما يعد ذلك حكم بها وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر إلا أن يحكم بذلك الحاكم لأنه يكون مفطراً برؤيته وحده (2)

(فائدة) إذا صام قوم ثمانية وعشرين يوماً من رمضان بعد إكمال شعبان ثم رأوا هلال شوال. فإن كانوا أكملوا شعبان بعد رؤية هلاله قضوا يوماً واحداً إذا لم يروا هلال رمضان حملا على نقصان شعبان. وإن أكملوه من غير رؤية هلاله قضوا يومين احتياطاً لاحتمال نقصان رجب وشعبان فإنهم لما لم يروا هلاله كملوا بالضرورة رجب (ولو) صام أهل بلد ثلاثين يوماً وصام أهل بلد آخر تسعة وعشرين يوماً (فإن كان) صوم أهل ذلك البلد برؤية الهلال وثبت ذلك عند قاضيهم أو عدوا شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا رمضان فعلى أهل البلد الآخر قضاء يوم لأنهم أفطروا يوماً من رمضان لثبوت الرمضانية برؤية أهل ذلك البلد وعدم رؤية أهل البلد لا يقدح في رؤية أولئك إذ العدم لا يعارض الوجود (وإن) كان صوم أهل ذلك البلد بغير رؤية هلال رمضان أو لم تثبت الرؤية عند قاضيهم ولا عدوا شعبان ثلاثين يوماً فقد أساءوا حيث تقدموا رمضان بصوم يوم وليس على أهل البلد الآخر قضاؤه لأن الشهر قد

(1) انظر ص 264 ج 9 - الفتح الرباني (من يكتفي بشهادته برؤية الهلال) وص 300 ج 1 مجتبي (قبول شهادة الرجل الواحد على هلال رمضان) و (أنسكوا لها) أي تقربوا إلى الله بالصوم والفطر في وقتهما.

(2)

انظر ص 10 ج 3 شرح المقنع.

ص: 330

يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين: هذا إذا كانت المسافة بين البلدين قريبة لا تختلف فيها المطالع. فأما إذا كانت بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم الآخر، لأن مطالع البلاد عند المسافة البعيدة تختلف فيعتبر في أهل كل بلد مطالع بلدهم دون البلد الآخر. (1)

(د) اختلاف المطالع: أي مطلع الشمس وزوالها وغروبها: ولا يعتبر في رؤية الهلال اختلاف المطالع، فإذا رأى الهلال أهل بلد لزم سائر البلاد العمل بمقتضى هذه الرؤية فيصوم المصري برؤية المكي وبالعكس- عند جمهور الحنفيين ومالك وأحمد والليث بن سعد وروي عن الشافعي- لعموم الخطاب في حدث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"(الحديث) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والدارمي (2){17}

وهذا خطاب عام لا يختص بأهل ناحية فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم إذا ثبت عند الغير رؤية من رأى بطريق شرعي موجب للصيام كأن يشهد اثنان فأكثر أن قاضي بلد كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضى بشهادتهما فلهذا القاضي أن يحكم بشهادتهما لأن قضاء القاضي حجة وقد شهدوا به. أما لو أخبر جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان ليلة كذا فصاموا وهذا يوم الثلاثين بحسابهم فلا يباح لمن أخبروا بذلك فطر غد لأن أولئك الجماعة لم يشهدوا بالرؤية.

(1) انظر ص 83 ج 2 بدائع الصنائع.

(2)

تقدم رقم 9 ص 324 (ما يثبت به الهلال).

ص: 331

(والمختار) عند الشافعية وصاحب التجريد وغيره من الحنفيين أن لأهل كل بلد رؤيتهم وهو الأشبه لأن كل قوم يخاطبون بما عندهم فلا يصوم المصري برؤية المكي مثلاً (روي) كريب "أن أم الفضل ابنة الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتموه؟ قلت: رأيته ليلة الجمعة قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه فقلت: أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه أحمد ومسلم والثلاثية والدارقطني وقال: إسناده صحيح. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم (1){18}

يعني أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نعتمد على رؤية غيرنا ولا نكتفي بها بل لا نعتمد إلا على رؤية أهل بلدنا (وأجاب) الجمهور عن هذا الحديث:

(أ) بأن الإشارة في قوله- هكذا امرنا- يحتمل أن يراد بها أنه صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نقبل شهادة الواحدة في حالة الإفطار.

(ب) وبأنه خبر واحد ليس فيه لفظ الشهادة ونصابها اثنان.

(ج) وبأن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده.

(1) انظر ص 270 ج 9 - الفتح الرباني (إذا رؤى الهلال في بلد دون غيره) وص 197 نووي (لكل بلد رؤيتهم) وص 50 ج 10 - المنهل العذب المورود. وص 300 ج 1 مجتبي (اختلاف أهل الآفاق في الرؤية) وص 35 ج 3 تحفة الأحوذي. وص 234 - الدارقطني (وأم الفضل) لبابة امرأة العباس رضي الله عنهما.

ص: 332

والمشار إليه بقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو قوله: فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين (روي) عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا حتى تروه فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا" أخرجه الثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح (1){19}

وهو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين. وعدم عمل ابن عباس رضي الله عنهما برؤية أهل الشام مع اختلاف المطلع إما لعدم ثبوت الشهادة على رؤيتهم، وإما اجتهاد منه وليس بحجة. فالذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه الأولون "ولا يلتفت" إلى قول ابن عبد البر: قد أجمعوا على أنه لا تراعي الرؤية فيما بعد من البلدان كخراسان والأندلس "لأن" الإجماع، لا يتم والمخالف مثل الحنفيين ومالك وأحمد (وقال) ابن الماجشون: لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع.

(فائدة) دل حديث كريب (2) على أن من رأى هلال رمضان في جهة ثم انتقل إلى أخرى رؤى فيها الهلال في ليلة بعد الأولى فصام ثلاثين ولم ير هلال شوال في هذه الجهة، لزمه الصوم مع أهلها لأنه صار منهم. وأن أفطر لزمه القضاء عند من أخذ بظاهر الحديث. أما من لا يعتبر اختلاف المطالع فإنه يقول: يلزم أهل الجهة الثانية موافقته في الفطر إن ثبتت عندهم رؤية البلد

(1) انظر ص 44 ج 10 - المنهل العذب المورود (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين) وص 302 ج 1 مجتبي وص 33 ج 2 تحفة الأحوذي (الصوم لرؤية الهلال) و (لا تصوموا) أي لا تصوموا رمضان حتى تروا هلاله ثم صوموا حتى تروا هلال شوال أو تكملوا عدة رمضان.

(2)

تقدم رقم 18 ص 332.

ص: 333

الأولى بوجه شرعي ولزمهم قضاء اليوم الأول وإن لم تثبت عندهم لزمه هو الفطر سراً والله تعالى ولي التوفيق.

(و) لا يثبت الهلال بقول لحساب:

لا يعتمد في ثبوت الصوم والفطر على قول المنجمين، لأنه خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (روى) نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" الحديث (وفيه) كان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. أخرجه أبو داود والدارقطني (1){20}

(قال) المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: فاقدروا له على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد. والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم (2) وأيضاً فإن الشارع لا يعول على الحساب ولا يعتمد عليه (روى) ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإتهام في الثالثة: والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي (3){21}

(1) انظر ص 33 ج 10 - المنهل العذب (الشهر يكون تسعاً وعشرين). وص 229 - الدارقطني. وتقدم رقم 8.

(2)

انظر ص 189 ج 7 نووي مسلم.

(3)

انظر ص 252 ج 9 - الفتح الرباني (ثبوت الشهر برؤية الهلال) وص 89 ج 4 فتح الباري (قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا نكتب ولا نحسب وص 192 ج 7 نووي (وجوب صيام رمضان لرؤية الهلال) وص 31 ج 10 - المنهل العذب (الشهر يكون تسعاً وعشرين) وص 302 ج 1 مجتبي و (أمية) أي منسوبة إلى الأم باعتبار البقاء على ما ولدتنا عليه أمهاتنا لم يتعلم الكتابة والحساب. وهذا بالنظر للغالب في العرب (وعقد الإبهام) أي أنه أشار بيديه ثلاث مرات ناشراً أصابعه وفي المرة الثالثة قبض الإبهام إشارة إلى أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ثم أشار بيديه ثلاث مرات ناشراً أصابعه ولم يقبض إبهامه في الثالثة إشارة إلى أنه يكون ثلاثين.

ص: 334

والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم والفطر بالرؤية لرفع الحجر عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو وجد بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً: ويوضحه قوله في الحديث الماضي: فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين (1) ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. وإجماع السلف الصالح حجة عليهم وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل (2) وعلى هذا اتفق أهل الذكر من الفقهاء

(قال) ابن عابدين: ولا عبرة بقول المنجمين- ولو عدولاً- في وجوب الصوم على الناس بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه. وللإمام السبكي الشافعي تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي. وما قاله رده متأخرو أهل مذهبه (منهم) ابن حجر والرملي في شرحي المنهاج (وفي فتاوي) الشهاب الرملي الكبير الشافعي سئل:

(1) تقدم رقم 19 ص 333.

(2)

انظر ص 90 ج 5 فتح الباري (الشرح).

ص: 335

(أ) عن قول السبكي: لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة، عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية. فهل يعمل بما قال؟

(ب) وفيما إذا رؤى الهلال نهاراً قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان، فهل تقبل الشهادة؟ لأن الهلال إذا كان الشهر كاملاً يغيب ليلتين أو ناقصاً يغيب ليلة.

(جـ) أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة. هل يعمل بالشهادة؟

(فأجاب) بأن المعمول به في المسائل الثلاث ما شهدت به البينة، لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين. وما قاله السبكي مردود وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم. ووجه ما قلنا: أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله: "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا"(1).

(وقال) الشيخ عبد الحافظ في شرح مجموع الأمير: ولا يثبت رمضان بقول منجم لا في حق غيره ولا في حق نفسه، لأنه ليس من الطرق الشرعية ونحن مأمورون بتكذيبه، قال الله تعالى:"قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"، وقال صلى الله عليه وسلم:"من صدق كاهناً أو عرافاً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد"(2). والكاهن الذي يخبر عن الأمور المستقبلة. والعراف هو الذي يخبر عن الأمور الماضية أو

(1) انظر ص 10 ج 2 - در المختار (الصوم)

(2)

(روي) أبو هريرة مرفوعاً: من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. أخرجه أحمد والحاكم بسند قوي (انظر رقم 8285 ص 23 ج 6 - فيض القدير).

ص: 336

المسروق أو الضال ونحو ذلك. والمنجم هو الذي يعرف سير القمر وقوس الهلال ونوره، ومثله من يقول: أول الشهر طلوع النجم الفلاني، فإذا قال المنجم: الشهر ناقص أو تام لم يلتفت إلى قوله ولا إلى حسابه، لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال لا بوجوده وإن فرض صحة قوله (1).

(وقال) النووي: إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من رمضان ففيه أوجه (أصحها) لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك. لكن يجوز لهما دون غيرهما ولا يجزئهما عن فرضهما (2). (وقال) الإمام القسطلاني: قالت الشافعية: ولا عبرة بقول المنجم فلا يجب به الصوم ولا يجوز، والمراد بآية "وعلامات وبالنجم هم يهتدون"(3)

الاهتداء في أدلة القبلة. ولكن له أن يعمل بحسابه كالصلاة ولظاهر هذه الآية. وقيل: ليس له ذلك (4)

(1) انظر ص 623 ج 1 - الفجر المنير.

(2)

انظر ص 279 و 280 ج 6 - مجموع النووي.

(3)

سورة النحل: آية 16 ..

(4)

انظر ص 343 ج 3 - إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الهلال فصوموا)(ولا عبرة) أي في ثبوت الصيام عند الإمام وجماعة المسلمين، وقوله:(له أن يعمل بحسابه) أي في خاصة نفسه بشرط المنع من رؤية الهلال لغيم ونحوه، وهذه رواية مخالفة للمعلوم من مذهب الإمام الشافعي مع أنهم اختلفوا عليها في الاجزاء وعدمه، وقوله (كالصلاة) فيه نظر، فقد فرق الإمام القرافي بينهما قال: والفرق هاهنا أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبباً لوجوب الظهر وكذا بقية الأوقات فمن علم سبباً بأي طريق لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع، وأما الأهلة فلم يجعل خروجها من شعاع الشمس سبباً للصوم، بل نصبت رؤية الهلال- خارجاً عن شعاع الشمس- هي السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي ولا يثبت الحكم، لقول النبي صل الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته"(انظر رقم 9 ص 324 - ما يثبت به الهلال) ولم يقل: صوموا لخروجه عن شعاع الشمس، كما قال تعالى في الصلاة:"أقم الصلاة لدلوك الشمس" أي لميلها، ومعلوم أنه يجب الاقتصار- في القضاء والفتوى والعمل- على المشهور أو الراجح وطرح الشاذ والضعيف، والقول بجواز العمل بالحساب قول شاذ ومقيد بخاصة النفس وبالغيم فلا تجوز الفتوى به (وتمامه بص 119 ج 1 - فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش) ..

ص: 337

(فتحصل) مما ذكر أنه لا يعول على حساب ولا تنجيم لا في صيام ولا في إفطار ولو بالنسبة إلى نفس الحاسب والمنجم بل لابد في ذلك من رؤية الهلال أو إكمال العدد "ومن زعم" أن المقصود العلم أو الظن بدخول الشهر وخروجه، وأن الحديث لا يدل على إناطة ثبوت الصوم والإفطار برؤية الهلال "فقد غفل" عن كون الشارع لم يجعل الحساب ولا التنجيم طريقاً للعلم أو الظن بدخول الشهر أو خروجه، وإلا لقال: صوموا لعلمكم أو ظنكم بدخول الشهر أو خروجه مثلاً، والله الهادي إلى سواء السبيل.

(ز) ما يقال عند رؤية الهلال: يستحب لمن رأى هلال رمضان أو غيره أن يقول: (ما في حديث) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "الله اكبر أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى، ربنا وربك الله" أخرجه الدارمي والأثرم (1){22}

(وما في حديث) طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام

(1) انظر ص 3 ج 2 - دارمي (ما يقال عند رؤية الهلال) و (الهلال) يكون في الليلة الأولى والثانية والثالثة ثم يكون قمراً. و (أهله) من الإهلال وهو في الأصل رفع الصوت نقل إلى رؤية الهلال، لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا رأوه بالإخبار عنه. ونبه بذكر الأمن والسلامة، على طلب دفع كل مضرة وبالإيمان والإسلام على جلب كل منفعة على أبلغ وجه وأوجز عبارة.

ص: 338