الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(9) ما يفسد الصوم
هو قسمان ما يوجب القضاء. وما يوجب القضاء والكفارة:
(أ) ما يوجب القضاء فقط: هو أمور المذكور منها هنا ستة عشر:
(1)
الإفطار مكرهاً أو خطأ كأن تمضمض فسبق الماء إلى حلقه فيفسد صومه عند الحنفيين ومالك. وروي عن أحمد، لتذكره الصوم ولأن المكره تناول المفطر لدفع الضرر عن نفسه فأشبه المريض ومن شرب لدفع العطش (وقال) الشافعي. لا يفطر المكره والمخطئ وهو المشهور عن أحمد (لحديث) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجه والحاكم والطبراني والدارقطني. وفيه محمد بن مصطفى وثقه أبو حاتم وفيه كلام لا يضر. وبقية رجاله رجال الصحيح (1){211}
(وأجاب) الأولون عنه بأنه ضعيف. قال أبو حاتم: هذه أحاديث منكرة موضوعة وقد أنكره الإمام أحمد. وعلى فرض ثبوته فالمراد به رفع الإثم، لأن رفع الواقع محال بدليل لزوم الدية والكفارة في قتل الخطأ.
(2)
وصول ما لا نفع فيه للبدن إلى الجوف من منفذ مفتوح أو إلى باطن الرأس عمداً كأن ابتلع حصاة أو حديداً أو ملحاً كثيراً أو لوزة يقشرها فإنه يفطر عند كافة العلماء (2) لما في حديث عائشة من قوله صلى الله تعالى عليه
(1) انظر ص 322 ج 1 - ابن ماجه (طلاق المكره والناسي) ورقم 1809 ص 267 ج 2 فيض القدير.
(2)
(كافة العلماء) وشذ الحسن بن صالح فقال. لا فطر بما ليس طعاماً ولا شراباً وحكى عن أبي طلحة الأنصاري انه كان يتناول البرد (بفتحتين ما ينزل من السحاب يشبه الحصا ويسمى حب الغمام) في الصوم ويقول: ليس بطعام ولا شراب (قال) أنس ابن مالك: مطرت السماء برداً. فقال لنا أبو طلحة: ناولني يا أنس من ذلك البرد فتناولته فجعل يأكل وهو صائم. قلت: ألست صائماً؟ قال: بلى إن هذا ليس بطعام ولا شراب وإنما هو بركة من السماء تطهر به بطوننا. قال أنس: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: خذ عن عمك. أخرجه أبو يعلي. وفيه علي بن زيد وفيه كلام وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه البزار موقوفاً وزاد: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فكرهه وقال: إنه يقطع الظمأ (انظر ص 171 ج 3 مجمع الزوائد- الصائم يأكل البرد) وفي قول سعيد إنه يقطع الظمأ رد على من يقول: إنه ليس شراباً. فالصواب ما ذهب إليه كافة العلماء. من أن هذا ونحوه من المفطرات.
وعلى آله وسلم "إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج" أخرجه أبو يعلي قال الهيثمي. وفيه من لم أعرفه وبقية رجاله ثقات (1){212}
(3)
ويفسد الصوم بالحقنة وهي صب الدواء أو الماء في الدبر أو قبل المرأة. وأما احتقان الدواء في العروق فكالكحل لا يفسد به الصوم على ما تقدم بيانه.
(4)
ويفسد الصوم بالإسعاط وهو إيصال مائع وغيره إلى الجوف من الأنف.
(5)
ويفسد بإقطار مائع ولو ماء في الأذن على الصحيح عند الحنفيين والشافعي وأحمد لأنه وصل الجوف بفعله. أما إن خاض الماء فدخل أذنه لا يفسد صومه إتفاقاً.
(وقالت) المالكية: يفسد الصوم بوصول مائع إلى الحلق من فم وأذن أو عين أو أنف سواء كان المائع ماء أو غيره وصل عمداً أو سهواً أو غلبة كماء غلب من المضمضة أو السواك حتى وصل إلى الحلق أو وصل خطأ كأكله نهاراً معتقداً بقاء الليل أو غروب الشمس أو شاكاً في ذلك ما لم يتبين أن أكله قبل الفجر أو بعد غروب الشمس وإلا فلا يفسد صومه وفي حكم المائع البخور وبخار القدر إذا استنشقها فوصلا إلى حلقه وكذلك الدخان الذي اعتاد الناس شربه فمجرد وصوله إلى حلقه مفطر وإن لم يصل إلى المعدة.
(1) انظر ص 167 ج 3 مجمع الزوائد (القبلة والمباشرة للصائم) و (من لم أعرفه) لعله سلمى البكرية.
وأما دخان الحطب فلا أثر له كرائحة الطعام إذا استنشقها (1).
(6)
ويفسد الصوم بمداواة جائفة - وهو جرح يبلغ الجوف- إذا وصل الدواء إليه.
(7)
ويفسد بمداواة آمة- بالمد والتشديد- وهي شجة تصل أم الرأس إذا وصل الدواء إلى دماغه ومتى وصل إليه وصل إلى جوفه لأن التحقيق أن بين جوف الرأس وجوف المعدة منفذاً أصلياً وهذا إذا تحقق الوصول اتفاقاً وكذا إن شك فيه، وكان الدواء رطباً عند النعمان ومالك، لعموم ما ورد: الفطر مما دخل وليس مما خرج، أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس وأبو يعلي مرفوعاً (2) (وقال) أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد: لا يفسد الصوم بالشك في الوصول أما إذا كان الدواء يابساً فلا فطر اتفاقاً إذا شك في وصوله إلى الجوف.
(8)
ويفسد الصوم بتعمد القيء ولو قليلاً عند الأربعة ومحمد، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ومن استقاء عمداً فليقض"(3)(وقال) أبو يوسف تعمد القيء لا يفسد الصوم إلا إذا ملأ الفم. وهو رواية عن أحمد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولكن دسعة تملأ الفم" ولأن اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفسد الصوم كالبلغم ذكره ابن قدامة وقال: والحديث لا نعرف له أصلاً ولا فرق بين كون القيء طعاماً أو بلغماً أو دماً
(1) انظر ص 530 كتاب الفقه.
(2)
تقدم بعد رقم 191 ص 455 (ما يباح للصائم) من قول ابن عباس وتقدم عن عائشة مرفوعاً رقم 212 ص 478.
(3)
تقدم رقم 21 ص 475 (من ذرعه القيء).
أو غيره لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث (1)(وقال) النعمان ومالك ومحمد: القيء إن كان بلغماً فهو غير مفسد مطلقاً (وقال) أبو يوسف: إذا ملأ الفم أفسد بناء على قوله: إنه ناقض للوضوء (والظاهر) أن قوله هنا أحسن لأن الفطر نيط بما يدخل الجوف أو بالقيء عمداً بلا فرق بين بلغم وغيره.
(9)
ويفسد الصوم- عند الحنفيين والشافعي وأحمد- بإنزال المني عن مباشرة بنحو قبلة أو تبطين أو بجامعة في غير سبيل آدمي حي مشتهي أو بوطء بهيمة أو ميتة أو صغيرة لا تشتهي أو استمناء بالكف وهذا حرام، فإن غلبته الشهوة ففعله لتسكينها فالرجاء ألا يعاقب. وإن خرج منه المني أو المذي لمرض فلا شيء عليه لأنه خارج بغير شهوة فأشبه البول، ولأنه خرج من غير اختيار منه ولا تسبب فيه فأشبه الاحتلام. ولو جامع في الليل فأنزل بعد ما أصبح لم يفطر، لأنه لم يتسبب فيه نهاراً فأشبه ما لو أكل في الليل فذرعه القيء نهاراً (2)
(وقالت) المالكية: يفسد الصوم بإنزال المني أو المذي مع لذة معتادة بنظر أو فكر أو غيرهما كالقبلة أو المباشرة فيما دون الفرج أما إذا خرج المني أو المذي لمرض فلا يفسد الصوم كما لا يفسد بخروج أحدهما بمجرد نظر أو فكر بلا استدامة إذا كان ذلك يكثر عرضه له بأن كان حصوله مساوياً لعدم حصوله في الزمن أو زائداً. أما إذا كان زمن عروضه أقل من زمن ارتفاعه فإنه يفسد الصوم (3).
(10)
ويفسد الصوم- عند الأئمة الأربعة والجمهور- يتناول مفطر مع ظن المبيح وفيه خمس صور:
(1) انظر ص 52 ج 3 مغنى ابن قدامة و (الدسعة) بفتح فكسون- الدفعة من القيء ونسبه في النهاية لسيدنا علي وقال: وجعله الزخشري حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
انظر ص 48 ج 3 مغنى ابن قدامة.
(3)
انظر ص 529 كتاب الفقه.
(ا) فمن تسحر يظن بقاء الليل- وقد طلع الفجر- بطل صومه وعليه الفضاء عند الأربعة والجمهور (قال) مكحول: سئل أبو سعيد الخدري عن رجل تسحر وهو يرى أن عليه ليلاً وقد طلع الفجر. فقال: إن كان شهر رمضان صامه وقضى يوماً مكانه. وإن كان من غير رمضان فليأكل من آخره فقد أكل من أوله ذكره البيهقي. وقال: وقول من قال يقضي أصح لما مضى من الدلالة على وجوب الصوم من وقت طلوع الفجر (1).
(ب) ومن أفطر آخر النهار يظن غروب الشمس ولم تغرب بطل بصومه عند الأربعة والجمهور (قال) شعيب بن عمرو الأنصاري أفطرنا مع صهيب الخير أنا وأبي في شهر رمضان في يوم غيم وطش فبينما نحن نتعشى إذ طلعت الشمس فقال صهيب: طعمة الله أتموا صيامكم إلى الليل واقضوا يوماً مكانه. أخرجه البيهقي (2).
(جـ) وإن أكل شاكاً في طلوع الفجر ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر عند الحنفيين والشافعي واحمد، لقوله تعالى:(وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (3) مد الأكل ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك منه ما لم يعلم بيقين زواله (وقال) مالك: يجب القضاء لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته فلا يسقط بالشك ولأنه أكل شاكاً في النهار والليل فلزمه القضاء كما لو أكل شاكاً في غروب الشمس.
(1) انظر ص 216 ج 4 بيهقي (من أكل وهو يرى أن الفجر لم يطلع ثم بان أنه كان قد طلع).
(2)
انظر ص 217، 218 منه ورقم 1217 ص 379 ج 1 كشف الخفاء و (الطش) المطر.
(3)
سورة البقرة آية 187.
(د) وإن أفطر شاكاً في غروب الشمس ولم يتبين الأمر فعليه القضاء عند الأئمة الأربعة والجمهور لأن الأصل بقاء النهار.
(هـ) وإن أكل ظاناً أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل ولم يتبين الأمر فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد بيقين يزيل ذلك الظن الذي بني عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد ثم شك في الإصابة بعد صلاته (1).
(فائدتان)(الأولى) من جامع قبل طلوع الفجر ثم طلع (فإن نزع) فوراً لم يفسد صومه عند الحنفيين والشافعي وهو مشهور مذهب أحمد، لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به حكمه (وقال) مالك: يفسد صومه ولا كفارة عليه، لأنه لا يقدر على أكثر مما فعله فأشبه المكره.
(وإن لم ينزع) فسد صومه وعليه القضاء اتفاقاً وكذا الكفارة عند مالك والشافعي وأحمد (وقال) الحنفيون: لا كفارة عليه (الثانية) لو جامع يظن أن الفجر لم يطلع وتبين أنه قد طلع فسد صومه وعليه القضاء فقط عند الحنفيين والشافعي وقال مالك وأحمد: عليه الكفارة أيضاً.
(11)
يفسد الصوم بإدخال خرقة أو خشبة أو أصبع مبلولة في الدبر وقيل المرأة إذا لم يبق من المدخل شيء. أما إذا يغيبه كله لا يفسد صومه عند الحنفيين وأحمد ومالك (وقال) الشافعي: يفسد بذلك.
(12)
ويفسد صومه من استنجى فتعمد إيصال الماء إلى داخل دبره بأن بالغ في الاستنجاء أو استرخى.
(13)
ويفسد الصوم بالأكل عمداً بعد أكله ناسياً الصوم فظن أنه أفطر فيلزمه القضاء اتفاقاً لوجود المفطر ولا كفارة عليه عند الحنفيين والشافعي وأحمد للشبهة. وكذا لو علم أن صومه لا يفسد بالفطر ناسياً وبلغه الحديث في
(1) انظر ص 74 ج 3 مغنى ابن قدامة.
ذلك فلا كفارة عليه عند النعمان والشافعي وأحمد مراعاة لخلاف الإمام مالك (وقال) أبو يوسف ومحمد ومالك: عليه الكفارة لعدم الشبهة.
(14)
ويفسد الصوم بالحيض والنفاس إجماعا. والحكمة في عدم صحته معهما أن كلا منهما يضعف البدن كالصوم. واجتماع مضعفين مضر ضرراً شديداً فاقتضت الحكمة ترك الصوم معهما وقد تقدم أنهما يسقطان أداء الصوم دون قضائه.
(15)
ويفسد الصوم بالردة إجماعا وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، لأن الصوم عبادة من شرط النية فأبطلتها الردة كالصلاة والحج ولأنها عبادة محضة ينافيها الكفر (1).
(16)
ويفسد الصوم بنية الفطر عند الأئمة الثلاثة وهو ظاهر مذهب أحمد لأنه عبادة من شرطها النية فيفسد بقية الخروج منه كالصلاة ولأن الأصل اعتبار النية في جمع أجزاء العبادة ولكن لما شق اعتبار حقيقها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه حقيقة وحكمها ففسد الصوم بزوال شرطه. وإن عاد فنوى الصوم قبل الزوال أجزأه عند الحنفيين لأنه يصح بنية قبل الزوال ولا يجزئ عند من يشترط تبييت النية في رمضان. هذا ومن فسد صومه بشيء مما ذكر لزمه (أولاً) إمساك بقية اليوم في غير الحيض والنفاس احتراماً للوقت بالقدر الممكن (وثانياً) قضاء ما أفسده في أيام أخر. والكلام هنا ينحصر في ثلاثة فروع:
(1)
التتابع: لا يلزم في قضاء رمضان التتابع عند الأئمة الأربعة والجمهور، لإطلاق قوله تعالى "ومن كان يمرضاً أو على سفر فعدةُ من أيامٍ أخر" وتقدم الكلام فيه وافياً في بحث مالا يلزم فيه التتابع (2)
(1) انظر ص 53 ج 3 مغني ابن قدامة.
(2)
تقدم ص 380.
(2)
القضاء كالأداء: لا يطلب في قضائه أزيد مما وجب أداؤه عند الأربعة والجمهور - فمن أفطر متعمداً بلا عذر يلزمه صيام يوم واحد قضاء عن اليوم الذي أفطره مع الكفارة إن لزمته وتقدم تمام الكلام على هذا في بحث التفريط في رمضان (1).
(3)
تأخير القضاء: قضاء رمضان واجب على التراخي عند الجمهور لإطلاق الآية (ولقول) عائشة رضي الله عنها "إن كانت إحدانا لتفطر - يعني في رمضان- في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان"أخرجه مسلم (2){213}
والمعنى أن كل واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستعدة لاستمتاعه في أي وقت شاء ولا تدري متى يريد؟ ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن وقد يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه وهذا من كمال الأدب وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فإنه لا يجوز تأخيره عنه (3).
(وقالت) عائشة رضي الله عنها: "ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم" أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح (4). {214}
(1) تقدم ص 367.
(2)
انظر ص 22 ج 8 نووي (تأخير قضاء رمضان).
(3)
انظر ص 22 ج 8 نووي مسلم (تأخير قضاء رمضان).
(4)
انظر ص 131 ج 10 - الفتح الرباني (قضاء رمضان) وص 66 ج 2 تحفة الأحوذي.
(دل) الحديثان على جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان لعذره وبه قال علمة أهل العلم وهو وإن كان من فعل نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع عليه وأقره لتوفر دواعي أن يسأله زوجاته صلى الله عليه وسلم عن أمر الشرع.
أما تأخير القضاء لغير عذر فهو جائز عند الجمهور إن أفطر لعذر كمرض أو سفر أو حيض وإذا بقي على رمضان الثاني بقدر ما عليه من أيام رمضان الأول لزمه القضاء فوراً حينئذٍ. وكذا يلزمه القضاء فوراً عند الشافعية إذا تعمد الفطر بلا عذر (وقال) الحنفيون: يجب قضاء رمضان وجوباً موسعاً بلا تقييد بوقت ولو كان متعمداً الفطر فلا يأثم بتأخيره إلى رمضان الثاني. ويجب العزم على القضاء على الصحيح.
(فائدة) إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر (فإن كان) لعذر بأن دام سفره أو مرضه حتى دخل رمضان الثاني، صام الحاضر ثم يقضي الأول ولا فدية عليه عند الأئمة الأربعة والجمهور (وإن أخر) القضاء لغير عذر (فقال) مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يصوم رمضان الحاضر ويفدي عن الماضي عن كل يوم مداً من طعام ويقضيه (لما روي) عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: من كان عليه قضاء رمضان فلم يقضه وهو قوي على صيامه حتى جاء رمضان آخر فإنه يطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من حنطة وعليه مع ذلك القضاء. أخرجه مالك في الموطإ (1)
(وقال) ابن عباس: من فرط في صيام شهر رمضان حتى يدركه رمضان
(1) انظر ص 116 ج 2 زرقاني الموطأ (فدية من أفطر في رمضان من علة).
آخر فليصم هذا الذي أدركه ثم ليصم ماقاته ويطعم مع كل يوم مسكيناً أخرجه الدارقطني (1).
(وقال) الحنفيون والحسن البصري: من أخر قضاء رمضان حتى جاء آخر يلزمه القضاء فقط ولا فدية عليه ولو كان التأخير لغير عذر، لأن القضاء واجب على التراخي مطلقاً فلا يلزم بالتأخير سوى القضاء وهذا هو الراجح، لأنه لم يثبت في لزوم الفدية عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء بل كل ما ورد فيها آثار لا حجة فيها والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الفدية حتى يقوم دليل ناقل عنها ولا دليل هنا. وعلى القول بلزوم الفدية هل يسقط القضاء بها؟ ذهب الأكثر إلى أنه لا يسقط (وقال) ابن المنذر: قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وسعيد بن جبير وقتادة: يصوم رمضان الحاضر ويفدي عن الفائت ولا قضاء عليه.
(ب) الكفارة في رمضان
هي إعتاق رقبة ولو صغيرة أو معيبة عيباً لا يفوت كل المنفعة كالعور والمرج أو كافرة- عند الحنفيين- لإطلاق الأحاديث (وقال) الأئمة الثلاثة والجمهور يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة حملاً للمطلق في أحاديث كفارة الصيام على المقيد في آية كفارة القتل فإن الرقبة فيها مقيدة بالمؤمنة. فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان ولا يوم منهي عن صومه كالعيدين وأيام التشريق. فإن لم يستطع الصيام أعطى ستين مسكيناً- ولو مراهقين- كل واحد نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر أو شعير أو زبيب أو قيمة ذلك أو أطعمهم أكلتين مشبعتين عند الحنفيين (لما روي) مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ (وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين) يقول: هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع
(1) انظر ص 246 الدارقطني.
الصيام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من حنطة. أخرجه الدارقطني (1) وفي حديث سلمة بن صخر أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكيناً" أخرجه أبو داود (2){215}
والوسق ستون صاعاً (وقال) مالك والشافعي: يعطي كل مسكين مداً من غالب قوت البلد (لما) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فأتى بعرق فيه نمر قدر خمسة عشرة صاعاً أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي (3)(وقال) أحمد يعطي كل مسكين مداً من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير (قال) أبو زيد المدني: جاءت امرأة من يني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المظاهر أطعم هذا فإن مدى شعير مكان مد بر" أخرجه أحمد (4){316}
وبه قال ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وزيد. ولا مخالف لهم في الصحابة ويجزئ الدقيق والسويق وإن غذى المساكين أو عشاهم لم يجزئه عند مالك والشافعي وهو أظهر الروايتين عن أحمد، لأن الشارع قدر ما يعطي لكل مسكين بمد من البر أو نصف صاع من غيره. وإذا أطعمهم لا يعلم أن كل مسكين استوفى ما يجب له (هذا) وظاهر الأحاديث أنه لابد من إطعام ستين مسكيناً ولا يكفي ما دونه وبه قال الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة (وقال) الحنفيون: لو أطعم مسكيناً واحداً في ستين يوماً كفاه، لأن المراد سد حاجة الفقير والحاجة تتجدد بتجدد الأيام.
فكان في اليوم الثاني
(1) انظر ص 205 الدارقطني.
(2)
انظر ص 233 ج 2 عون المعبود (الظهار).
(3)
انظر ص 132 ج 10 - المنهل العذب المورود (كفارة من أتى أهله في رمضان) وص 243 - الدارقطني. وص 226 ج 4 بيهقي (والعرق) بفتحتين، المكتل يسع خمسة عشر صاعاً.
(4)
انظر ص 68 ج 3 مغنى ابن قدامة.
كمسكين آخر. والراجح مذهب الجمهور والمراد بالإطعام الإعطاء ولا يشترط حقيقة الإطعام وهو وضع المطعوم في الفم. بل يكفي الوضع بين يديه اتفاقاً وفي ذكر الإطعام ما يدل على وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم وبه قال الحنفيون. ونظر الشافعي إلى النوع فقال يسلم لوليه (1).
(والحكمة) في جعل الكفارة من هذه الخصال الثلاثة أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يفدي نفسه. (أ) إما بعتق رقبة (لحديث) أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار" أخرجه الشيخان (2){217}
(ب) وإما بالصوم لأنه جنى على الصوم بإفساده. وكان شهرين لأنه لما أفسد يوماً كان كمن أفسد الشهر كله، لأنه كعبادة واحدة فكلف بشهرين زجراً له.
(جـ) وإما بالإطعام، لأن فيه مقابلة كل يوم من الستين بإطعام مسكين. هذا ولزوم القضاء والكفارة على التراخي عند الأئمة الأربعة ومحمد بن الحسن. وهو الأصح. وعلى الفور عند أبي يوسف. هذا والكلام هنا ينحصر في ثلاثة فروع:(الأول) ما يوجب القضاء والكفارة: يوجبهما أمور المذكور منها هنا ثلاثة: (أولاً) الجماع: بتغييب جميع الحشفة أو قدرها من مقطوعها عمداً من مكل مختار لم يطرأ عليه مبيح للفطر بغير صنعه. كمرض- في أداء رمضان وكان ناوياً
(1) انظر ص 118 ج 4 فتح الباري (الشرح).
(2)
انظر ص 477 و 478 ج 11 فتح الباري (قول الله تعالى: أو تحرير رقبة) وص 151 ج 10 نووي (فضل العتق).
الصوم وجامع في أحد سبيلي آدمي حي مشتهي وإن لم ينزل. فيجب القضاء والكفارة على الفاعل والمفعول عند الحنفيين ومالك وهو رواية عن أحمد (وقال) الشافعي: الكفارة على الفاعل فقط ويأتي بيانه. أما القضاء فلإدراك ما فاته (ولحديث) حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي يفطر يوماً في رمضان أن يصوم يوماً مكانه" أخرجه البيهقي (1){218}
(دل) على وجوب قضاء اليوم الذي أفسده. وبه قال الحنفيون ومالك وأحمد وهو مشهور مذهب الشافعي. وعنه انه لا قضاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالقضاء (وقال) الأوزاعي: إن كفر بالعتق أو الإطعام صام مكان اليوم الذي أفطره. وإن صام شهرين متتابعين؛ دخل فيهما قضاء ذلك اليوم.
(وأما) لزوم الكفارة، فلحديث حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت قال: وما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: فهل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا. قال: اجلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال تصدق به فقال: يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أمقر منا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت ثناياه. قال فأطعمه إياهم" أخرجه السبعة. وهذا لفظ أبي داود. وصححه الترمذي (2){219}
وقال الشافعي: وقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أفطر
(1) انظر ص 226 ج 4 بيهقي (من روي الأمر بقضاء يوم مكانه).
(2)
انظر المراجع رقم 64 ص 297 (ما يلزم فيه التتابع) و (اللابتان) تثنية لابة بالياء الموحدة وهي الحرة- بفتح الحاء وشد الراء- أرض ذات حجارة سود.
فتصدق عليه: خذه فأطعمه أهلك، يحتمل معاني: يحتمل أن يكون الكفارة على من قدر عليها. وهذا رجل لم يقدر على الكفارة فلما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً وملكه قال الرجل: ما أحد أفقر إليه منا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذه فأطعمه أهلك لأن الكفارة إنما تكون بعد الفضل عن قوته واختار الشافعي لمن كان على مثل هذا الحال أن يأكله وتكون الكفارة عليه ديناً فمتى ما ملك يوماً كفر. (1)
وهكذا قال الجمهور ومنهم الحنفيون ومالك وروي عن أحمد، لأن الرجل لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يعجزه عن الخصال الثلاث. أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس ولما أتى بعرق التمر أمره بإخراجه في الكفارة. فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمر بإخراجه. فدل هذا على ثبوتها في ذمته. وإنما أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في إطعام عياله، لأنه كان محتاجاً ومضطراً إلى الإنفاق عليهم في الحال. والكفارة على التراخي فأذن له في أكله وبقيت الكفارة في ذمته (وقال) عيسى بن دينار المالكي: تسقط الكفارة بالإعسار لما تقرر أنها لا تصرف على المكفر ولا على عياله. ولم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره وهو ظاهر مذهب أحمد وقول للشافعي (واستدل) له بحديث علي بن أبي طالب "أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. فقال: وما أهلكك؟ قال: أتيت أهلي في رمضان قال هل تجد رقبة؟ قال لا قال فصم شهرين متتابعين. قال لا أطيق الصيام قال فأطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مد قال ما أجد فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً. قال أطعمه ستين مسكيناً قال والذي بعثك بالحق ما بالمدينة أهل بيت أحوج منا. قال فانطلق فكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك" أخرجه الدارقطني (2). {220}
(1) انظر ص 46 ج 2 تحفة الأحوذي.
(2)
انظر ص 251 الدارقطني.
(دل) على عدم استقرار الكفارة في ذمته (وقال) بعضهم: ما أكله الرجل كفارة له خصوصية (ورد) بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل ولا دليل (وأجاب) الجمهور بأن الحديث لا دلالة فيه على سقوط الكفارة بالإعسار، لاحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم تطوع بالتكفير عنه وسوغ له صرفها إلى أهله لبيان أنه يجوز التطوع بالكفارة عن الغير بإذنه وأنه يجوز للمتطوع صرفها إلى أهل المكفر (1).
(فائدة) دلت أحاديث الكفارة على ثلاثة أمور: (أ) وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان عامداً وهو قول عامة العلماء (2)(وأما) من جامع تأسيساً فلا يفطر عند الحنفيين والشافعي لدخول الجماع في عموم الحديث من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة (3)(وهو) يرد على من قال بالقضاء كمالك والثوري وعلى من قال بلزوم القضاء والكفارة وهو أحمد ونافع وابن الماجشون المالكيان (هذا) وقد أجمع العلماء على أن من وطئ في نهار رمضان عامداً وكفر ثم وطئ في يوم آخر فعليه كفارة أخرى. وإن لم يكفر عن اليوم الأول فعليه كفارة واحدة عند الحنفيين وهو رواية عن أحمد لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتتداخل (وقال) مالك والليث والشافعي: عليه كفارتان وهو رواية عن أحمد، لأن كل يوم عبادة مستقلة. فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين. أما من جامع مرتين في يوم واحد ولم يكفر عن الأول فيلزمه كفارة واحدة إجماعاً. وإن كفر عن الأول فلا يكفر ثانياً عند الثلاثة (وقال) احمد: عليه كفارة ثانية. وكذا كل من لزمه الإمساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان وإن لم يكن صائماً- كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد
(1) انظر ص 113 ج 1 كفاية الأخبار.
(2)
(عامة العلماء) وشذ الشعبي وسعيد بن جبير وقتادة في قولهم: عليه القضاء دون الكفارة قال الخطابي بشبه أن يكون الحديث لم يبلغهم.
(3)
تقدم رقم 208 ص 473 (ما لا يفسد الصوم).
طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامداً ثم جامع- فإنه يلزمه كفارة عند أحمد، لأن الصوم في رمضان عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها فتتكرر بتكرر الوطء إذا كان بعد التكفير كالحج (قال) الثلاثة: لاشيء عليه بذلك الجماع، لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلا يوجب شيئاً كالجماع في الليل (1).
(وجملة) القول في هذا عند مالك أن الكفارة تتعدد بتعدد الأيام ولا تتعدد بتعدد المفطر سواء كفر عن الأول أم لا، لبطلان صيامه في ذلك اليوم بالفطر الأول. وأما بالنسبة للمفعول فتتعدد. فإذا جامع امرأتين أو أكثر في يوم واحد تعددت عليه الكفارة بتعدد المكفر عنه (2).
(ب) دلت الأحاديث على أن الكفارة تكون بأحد الخصال الثلاثة على الترتيب. لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقل السائل من أمر إلا بعد عجزه عنه، ولأنه عطف بعض الجمل على بعض بإلغاء التي للترتيب (وبهذا) قال الحنفيون والشافعي وابن حبيب المالكي وهو مشهور مذهب أحمد (وقالت) المالكية: الكفارة واجبة على التخيير وهو رواية عن أحمد (لحديث) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً (الحديث) أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والدارقطني والبيهقي. وفي بعضها ترك التقييد بالتتابع (3){221}
(1) انظر ص 70 ج 3 مغنى ابن قدامة.
(2)
انظر ص 641 ج 1 - الفجر المنير (قال) ابن رشد: والسبب في اختلافهم تشبيه الكفارات بالحدود. فمن شبهها بها قال. كفارة واحدة تجزيء في ذلك عن أفعال كثيرة كما يلزم الزاني جلد واحد ولو زنا ألف مرة إذا لم يجلد لواحد منها ومن لم يشبهها بالحدود جعل لكل واحد من الأيام حكماً منفرداً بنفسه في هتك الصوم فيه، أوجب في كل يوم كفارة. والفرق بينهما أن الكفارة فيها نوع من القربة والحدود زجر محض (انظر ص 214 ج 1 بداية المجتهد).
(3)
انظر ص 99 ج 2 زرقاني الموطأ (كفارة من أفطر في رمضان) وص 93 ج 10 - الفتح الرباني. وص 226 و 227 ج 7 نووي. وص 130 ج 10 - المنهل العذب المورود. وص 251 الدارقطني وص 225 ج 4 بيهقي.
عبر فيه بأول المفيدة للتخيير فدل على أن الترتيب المذكور في غيره من الأحاديث ليس مراداً (وأجاب) الجمهور بأن أو في هذا الحديث ونحوه للتقسيم لا للتخيير تقديره يعتق أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عنهما وتبينه الروايات الأخرى (1).
وعن مالك أنه قال: الإطعام أحب إلى من العتق (2) وعنه في رواية أن الكفارة لا تكون إلا بالإطعام (لحديث) عباد بن عبد الله بن الزبير "أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: أتى رجب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان فقال: يا رسول الله احترقت فسأله النبي صلى الله عليه وسلم ما شأنك؟ فقال أصبت؟ أهلي قال: تصدق قال والله مالي شيء ولا أقدر عليه قال أجلس فجلس فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن المحترق آنفاً؟ فقام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا: فقال يا رسول الله أعلى غيرنا؟ فوا الله إنا لجميع مالنا شيء قال كلوه" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والبيهقي (3){222}
وفي قوله - احترقت وأصبت أهلي- دليل على أنه تعمد الجماع وقد اقتصر فيه على الإطعام فدل على أن الكفارة لا تكون إلا به (ورد) بأن الحديث مختصر فلا حجة فيه على ما ذكر فقد رواه عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر عن عباد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(1) انظر ص 227 ج 7 نووي مسلم.
(2)
انظر ص 117 ج 2 معالم السنن.
(3)
انظر ص 94 ج 10 - الفتح الرباني. وص 215 ج 4 فتح الباري (إذا جامع في رمضان) وص 228 ج 7 نووي. وص 133 ج 10 - المنهل العذب المورود وص 223 ج 4 بيهقي (واحترقت) أي ارتكبت ما يوجب الحرق بالنار ففيه إطلاق اسم المسبب على السبب و (ما شأنك) كذا في رواية أحمد وعند أبي داود (ما شأنه).
كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل فارع فجاءه رجل من بني بياضة فقال. احترقت وقعت بامرأتي في رمضان قال: أعتق رقبة قال لا أجدها قال أطعم ستين مسكيناً قال ليس عندي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه عشرون صاعاً فقال تصدق به فقال ما نجد عشاء ليلة. قال فعد به على أهلك. أخرجه ابن خزيمة والبخاري في التاريخ والبيهقي وقال: الزيادات في هذه الرواية تدل على حفظ أبي هريرة ومن دونه لتلك القصة وقوله فيه عشرون صاعاً، بلاغ بلغ محمد بن جعفر. وقد روي في حديث أبي هريرة خمسة عشر صاعاً وهو أصح (1). {223}
ولم يذكر في هذا الحديث الصيام وقد ذكر في حديث أبي هريرة والقصة واحدة فحفظ أبو هريرة ما لم تحفظه عائشة فالأخذ بحديثه حق. وأيضاً في حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر للرجل الخصال الثلاث.
(جـ) ظاهر الأحاديث أن الكفارة تلزم الرجل دون المرأة وبه قال الأوزاعي والحسن وهو أصح قولي الشافعي مستدلين بإفراده في الحديث في قوله: خذ هذا وتصدق به. وقوله: هل تستطيع هل تجد وبعدم إعلام النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بوجوب الكفارة عليها مع الحاجة إلى البيان (ورد) بأنه لا حاجة تدعو إلى بيان حكم الكفارة في حق المرأة لأنها لم تعترف ولم تسأل. واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لم تعترف وأنها واقعة حال فالسكوت عنها لا يدل على حكم لاحتمال أن تكون المرأة غير صائمة لعذر كمرض أو سفر أو غير مكلفة أو طهرت من حيضها في أثناء النهار.
(1) انظر ص 223 ج 4 بيهقي (كفارة من أتى أهله في رمضان) و (فارع) بالعين المهملة حصن بالمدينة يعرف بحصن حسان بن ثابت (وهو أصح) لا منافاة بين الروايتين لا مكان الجمع بأن من روي عشرين صاعاً أراد أصل ما كان في العرق (بفتحتين) الكتل. ومن روي خمسة عشر أراد ما أخذه الرجل.
والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين (ولذا) قال الحنفيون: الكفارة تلزم المرأة إن كانت مختارة لا مكرهة (وقال) مالك: تلزمها إن كانت مختارة وتلزم زوجها إن كانت مكرهة. وأما الأمة المكلفة فكفارتها على سيدها ولو مختارة (وقال) أحمد: لا تلزم المرأة إن كانت مكرهة وإن كانت مختارة فقيل تلزمها لأنها هتكت حرمة رمضان بالجماع وقيل لا تلزمها (قال) أبو داود: سئل أحمد عمن أتى أهله في رمضان أعليها كفارة؟ فقال ما سمعت أن على امرأة كفارة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة ولم يأمر المرأة بشيء مع علمه بوجود ذلك منها ولأنه حق مالي يتعلق بالوطء من بني جنسه فكان على الرجل كالمهر. وإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها اتفاقاً وعليها القضاء عند الحنفيين وهو المشهور عن احمد والثوري والأوزاعي لأنه جماع في الفرج فأفسد الصوم كما لو أكرهت بالوعيد ولأن الصوم عبادة يفسدها الوطء ففسدت به على كل حال كالصلاة والحج ويفارق الأكل فإنه يعذر فيه بالنسيان بخلاف الجماع وكذا إذا وطئها نائمة وبهذا قال مالك في النائمة.
وقال في المكرهة عليها القضاء وكفارتها على زوجها (وقال) الشافعي وابن المنذر: إن كان الإكراه بوعيد حتى فعلت أفطرت وإن كان إلجاء لم تفطر وكذا إن وطئها وهي نائمة لأنها لم يوجد منها فعل، فلم تفطر كما لو صب في حلقها ماء بغير إختيارها وروي عن أحمد أن كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره وعليه فلا قضاء عليها إذا كانت ملجأة أو نائمة (1).
(فائدة) إن تساحقت امرأتان فلم ينزلا فلا شيء عليهما وإن أنزلتا فسد صومهما وهل يكون حكمهما حكم المجامع فيما دون الفرج إذا أنزل أو لا يلزمهما كفارة مجال فيه وجهان أصحهما أنه لا كفارة عليهما لأن ذلك ليس
(1) انظر ص 58 ج 3 مغنى ابن قدامة.
بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص عليه فيبقى على الأصل وإن ساحق المحبوب فأنزل فحكمه حكم من جامع دون الفرج فأنزل (وإن) جومعت المرأة ناسية الصوم فلا كفارة عليها كما إذا أكرهت وعليه القضاء عند مالك وهو رواية عن أحمد وقال الحنفيون والشافعي لا قضاء عليها وروي عن أحمد لأنه مفطر لا يوجب الكفارة فأشبه الأكل. وإن أكره الرجل على الجماع فسد صومه وعليه الكفارة عند بعض الحنبلية. لأن الإكراه على الوطء لا يمكن لأنه لا يطأ حتى ينتشر ولا ينتشر إلا عن شهوة فكان كغير المكره (وقال) أبو الخطاب: لا كفارة عليه وهو مذهب الحنفيين ومالك والشافعي، لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو ماحية الذنب ولا حاجة إليها مع الإكراه لعدم الإثم (لحديث) إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1).
(وأما) إن كان نائماً بأن كان عضوه منتشراً في حال نومه فاستدخلته امرأته فلا قضاء عليه ولا كفارة وكذلك الملجأ بأن غلبته في حال يقظته على نفسه عند الشافعي لأنه حصل بغير اختياره فلا يفطر به. وظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء وهو مذهب الحنفيين ومالك لأن الصوم عبادة يفسدها الجماع فاستوى في ذلك حالة الاختيار والإكراه كالحج. ولا يصح قياس الجماع على غيره في عدم الإفساد لتأكيد بإيجاب الكفارة وإفساده للحج من بين سائر محظوراته (2).
(ثانياً) تناول مفطر عمداً: يجب القضاء والكفارة- عند الحنفيين- بتناول غذاء أو دواء وكل ما فيه نفع للبدن ويميل إليه الطبع وتنقضي به شهوة البطن كالأكل والشرب
(1) تقدم رقم 211 ص 477 (ما يفسد الصوم).
(2)
انظر ص 59 و 60 و 61 ج 3 مغنى ابن قدامة.
ومنه شرب الدخان المعروف وتناول الأفيون والحشيش ونحوها من المكيفات وكذا ابتلاع ريق زوجته أو حبيبه تلذذاً (وقالت) المالكية: تجب الكفارة بتناول أي مفسد من مفسدات الصيام السابقة ما عدا إنزال المذي مطلقاً وبعض صور إنزال المني بأن خرج بمجرد نظر أو فكر مع لذة معتادة بلا استدامة (لحديث) أبي هريرة أنّ رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعتين أو يطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: خذ هذا فتصدق به، فقال: يا رسول الله ما أحد أحوج مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه وقال له: كله" أخرجه مالك ومسلم والدارقطني والبيهقي وأبو داود (1){224}
هكذا رواه مالك وابن جريج وغيرهما عن الزهري بعموم المفطر الذي يشمل الأكل وغيره.
(وعن) عامر بن سعد عن أبيه أنه قال "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أفطرت يوماً من شهر رمضان متعمداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة أو صم شهرين متتابعين أو أطعم ستين مسكيناً" أخرجه الدارقطني (2){225}
(استدل) الحنفيون ومالك بهذين الحديثين ونحوهما على أن من أفطر متعمداً في رمضان بالأكل وغيره لزمته الكفارة غير أن الحنفيين قيدوا المفطر بما يتغذى به عادة أو يتداوى به أو يميل إليه الطبع. أما ما لم تجر العادة بالتغذي به كالعجين والحصاة والنواة والملح الكثير ففيه القضاء فقط
(1) انظر المراجع رقم 221 ص 387.
(2)
انظر ص 251 الدارقطني.
(وقال) الشافعي وأحمد وداود الظاهري: لا كفارة في مفطر إلا الجماع مستدلين بحديث أبي هريرة السابق أو الباب (1) فإنه صلى الله عليه وسلم رتب فيه الكفارة على الجماع وحملوا الأحاديث التي فيها مطلق الإفطار على المقيدة بالجماع ولأن وجوب الكفارة ثبت على خلاف القياس بالنص والنص عليها ورد في الجماع والأكل والشرب ونحوهما ليست في معناه، لأنه أشد حرمة وفيه الحد إن كان زنا فالنص الوارد فيه لا يشمل غيره.
(ورد) بأن من أوجب الكفارة في غير الجماع أوجبها بالنصوص المتقدمة لا بالقياس (قال) شمس الدين السرخسي: ولنا حديث أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله أفطرت في رمضان فقال من غير مرض ولا سفر؟ فقال نعم أعتق رقبة. وذكر أبو داود أن الرجل قال شربت في رمضان (وقال) علي رضي الله عنه: إنما الكفارة في الأكل والشرب والجماع. ثم نحن لا نوجب الكفارة بالقياس إنما نوجبها استدلالاً بالنص (2).
(ثالثاً) تناول مفطر مع ظن المبيح: ويجب القضاء والكفارة- عند الحنفيين ومالك - على من تناول مفطراً مع ظن المبيح للفطر كمن أفطر عمداً بعد الغيبة ونحوها من كل ما أجمع العلماء على أنه غير مفسد للصوم- كدهن الشارب- ولو بلغه حديث ما صام من ظل يأكل لحوم الناس أخرجه ابن أبي شيبة ولم يعلم أنه مؤول بذهاب الثواب لاتفاق العلماء على عدم الأخذ بظاهره وأن الغيبة غير مفسدة للصوم (وكذا) تجب الكفارة عند الحنفيين على من تناول مفطراً عمداً بعد أن احتجم أو حجم غيره فظن فساد صومه لخطأ ظنه إلا إذا أفتاه ففيه يعتمد على فتواه بفساد الصوم بالحجامة أو بلغه حديث أفطر الحاجم والمحجوم (3)
(1) تقدم رقم 219 ص 384 و 385 (ما يوجب القضاء والكفارة).
(2)
انظر ص 73 ج 3 المبسوط.
(3)
تقدم رقم 196 ص 362 (الحجامة).
ولم يعلم تأويله، فلا كفارة عليه حينئذ وإن علم أنه منسوخ ثم أكل بعد الحجامة تلزمه الكفارة (وقالت) المالكية: لا كفارة عليه، لأنه تأول تأويلاً قريباً مستنداً فيه لموجود وهو الحديث المذكور. ومن أفطر متأولاً بقريب التأويل، لا كفارة عليه لأنه لا انتهاك عنده. وإنما هو جاهل وهناك بعض صوره:
(1)
فمن أفطر ناسياً فظن لفساد صومه الإباحة فأفطر ثانياً عامداً فلا كفارة عليه.
(2)
وكذا من أصبح جنباً فظن إباحة الفطر فأفطر عمداً.
(3)
وكذا من تسخر في الجزء الملاقي للفجر من الليل فظن بطلان صومه فأفطر وأما من تسحر قرب الفجر فظن فساد صومه فأفطر فعليه الكفارة لأنه تأويل بعيد.
(4)
ومن قدم من سفر ليلاً فظن أنه لا يلزمه صوم صبيحة قدومه فبيت الفطر وأصبح مفطراً فلا كفارة عليه.
(5)
وكذا من سافر دون مسافة القصر تظن أن مثل هذا السفر يبيح الفطر فبيته.
(6)
وكذا من رأى هلال شوال نهاراً يوم الثلاثين فاعتقد أنه يوم عيد فأفطر (1)، وأما من أفطر عمداً بلا تأول أو بتأول بعيد- وهو ما استند فيه لمعدوم- فعليه الكفارة ولهذا أمثلة (منها) أن من عادته الحمى في يوم معين فبيت نية الفطر
(1) انظر ص 644 ج 1 - الفجر المنير (فلا كفارة) لاستناده في (1) لموجود وهو الفطر أولاً ناسياً. وفي (2) لاستناده لإصباحه جنباً. وفي (3) لاستناده إلى احتمال الأكل وقد طلع الفجر. وفي (4) لاستناده إلى عدم تبيت النية وفي (5) لاستناده إلى قوله (فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيام أخر) وفي (6) لاستناده إلى حديث: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
من الليل ظاناً أنه مباح فعليه الكفارة ولو حم في ذلك اليوم (ومنها) المرأة تعتاد الحيض في يوم معين فبيتت نية الفطر لظنها إباحته في هذا اليوم لمجيء الحيض فيه ثم أصبحت مفطرة فعليها الكفارة، ولو جاء الحيض في ذلك اليوم حيث نوت الفطر قبل مجيئه.
(الثاني) شروط الكفارة:
يشترط لوجوبها تسعة شروط:
(1)
أن يكون الصائم مكلفاً فلا كفارة على صبي ومجنون، لأنها عقوبة وهما ليسا من أهلها.
(2)
أن يكون مختاراً فلا كفارة على مكره لعدم إثمه بالفطر.
(3)
أن يكون متعمداً الفطر فلو أفطر ناسياً أو مخطئاً فلا كفارة عليه كما تقدم.
(4)
أن يكون عالماً بتحريم الفطر في رمضان ولو جهل وجوب الكفارة عليه فلا كفارة على من جهل حرمة الفطر كحديث عهد بالإسلام أفطر عمداً مختاراً وعليه القضاء عند مالك والحنفيين (وقال) الشافعي: لا قضاء عليه (وقال) أحمدك لا يشترط لوجوبها الاختيار ولا العمد بتحريم الوطء في نهار رمضان. فيجب- عنده- القضاء والكفارة بالوطء في نهار رمضان في قبل أو دبر، أو ميتة أو بهيمة سواء كان الواطئ متعمداً أو ساهياً أو عالماً أو جاهلاً مختاراً أو مكرهاً أو مخطئاً كمن وطئ وهو يعتقد أن الفجر لم يطلع ثم تبين أنه وطئ بعد الفجر لما تقدم.
(5)
ألا يطرأ عليه ما يبيح الفطر من سفرٍ أو مرضٍ، فلو أفطر بعد حصول المرض أو السفر فلا كفارة عليه عند الحنفيين خلافاً للثلاثة، أما لو أفطر قبل حصول المبيح فلا تسقط الكفارة اتفاقاً.
(6)
أن يكون غير مبال بحرمة الشهر وهو من أفطر غير متأول أو
متأولاً تأويلاً بعيداً فإن كان متأولاً تأويلاً قريباً فلا كفارة عليه عند الحنفيين ومالك كما تقدم (1).
(7)
أن يصل المفطر إلى الجوف من الفم، فلو وصل شيء إلى حلق الصائم ورده فلا كفارة عليه، وإن وجب القضاء في المائع الواصل إلى الحلق، وكذا لو وصل شيء من الأذن أو العين أو نحوهما مما تقدم فلا كفارة وإن وجب القضاء على ما تقدم بيانه.
(8)
تبييت النية: فلو لم يبيتها وأفطر نهاراً فعليه القضاء فقط اتفاقاً.
(9)
أن يكون الفطر في أداء رمضان، فإن كان في غيره كقضاء رمضان وصوم المنذور والكفارة والنفل فلا كفارة فيه (قال) ابن رشد: اتفق الجمهور على أنه ليس في الفطر عمداً في قضاء رمضان كفارة- لأنه ليس له حرمة زمان الأداء أعنى رمضان- إلا قتادة فإنه أوجب عليه القضاء والكفارة. وروي عن ابن القاسم وابن وهب عليه يومين قياساً على الحج الفاسد (2) وهو قياس مع وجود النص فلا يعول عليه.
(الثالث) ما يسقط الكفارة: يسقطها أحد أمرين: (1) طرو مبيح للفطر- كحيض أو نفاس أو مرض أو جنون أو سفر- فمن أفطر متعمداً ثم طرأ عليه مبيح مما ذكر تسقط الكفارة عنه عند الحنفيين لأنه صار في آخر النهار على حال لو كان عليهما في أوله يباح له الفطر فتسقط الكفارة للشبهة (وقال) مالك والشافعي وأحمد والليث: من جامع في أول النهار ثم مرض أو جنَّ أو حاضت امرأة أو نفست في أثناء النهار، لم تسقط الكفارة،
(1) تقدم في بحث تناول مفطر مع ظن المبيح ص 498.
(2)
انظر ص 215 ج 1 بداية المجتهد.
لأن ما ذكر معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها كالسفر ولأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ عذر (1).
(ب) حصول شبهة تدرأ الكفارة فلو أخبر جماعة شخصاً بطلوع الفجر وهو يأكل فصدقهم وقال: إذا لم أكن صائماً آكل حتى أشبع ثم ظهر أن أكله الأول قبل طلوع الفجر وأكله الأخير بعد الطلوع فلا كفارة عليه عند الحنفيين؛ لأن إخبارهم بطلوع الفجر أورث شبهة أثرت في كونه صوماً تاماً وإن كان المخبر واحداً فعليه الكفارة- عدلاً كان المخبر أو غير عدل- لأن شهادة الفرد في مثل هذا لا تقبل فلا تورث شبهة (2)(ولو) نوى الصوم في رمضان قبل الزوال ثم أفطر عمداً لا تلزمه كفارة عند النعمان؛ لأن عدم تبييت النية شبهة بها نقص الصوم فتدرأ الكفارة (وقال) الصاحبان: عليه الكفارة؛ لأنه بفطره عمداً بعد نية صحيحة انتهك حرمة الشهر قطعاً وعلى قياس هذا لو صام يوماً من رمضان بمطلق النية ثم أفطر تلزمه الكفارة عند النعمان لمكان الشبهة خلافاً لهما (3).
(1) انظر ص 62 ج 3 مغنى ابن قدامة (قال) ابن رشد: وسبب هذا الخلاف أن المفطر بشيء فيه اختلاف، فيه شبه من غير المفطر ومن المفطر. فمن غاب أحد الشيهين أوجب له ذلك الحكم. وهذان الشبهان أوجبا فيه الخلاف أعنى هل هو مفطر أو غير مفطر؟ ولكون الإفطار شبهة لا يوجب الكفارة عند الجمهور وإنما يوجب القضاء فقط: مال أبو حنيفة إلى أن من أفطر متعمداً للفطر ثم طرأ عليه في ذلك سبب مبيح للفطر أنه لا كفارة عليه كالمرأة تفطر عمداً ثم تحيض باقي النهار وكالصحيح يفطر عمداً ثم يمرض والحاضر يفطر ثم يسافر فمن اعتبر الأمر في نفسه أعنى أنه مفطر في يوم جاز له الإفطار فيه لم يوجب عليهم كفارة وذلك أن كل واحد من هؤلاء قد ظهر أنه أفطر في يوم جاز له الإفطار فيه. ومن اعتبر الاستهانة بالشرع أوجب عليه الكفارة، لأنه حين أفطر لم يكن عنده علم بالإباحة وهو مذهب مالك والشافعي (انظر ص 215 ج 1 بداية المجتهد).
(2)
انظر ص 277 ج 2 البحر الرائق (ما يفسد الصوم وما لا يفسده).
(3)
انظر ص 276 منه.