الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمنع منها، بل ليس لها نظير إلا مدينة رندة بالأندلس، فإنها تشبهها في وضعها والخندق المحيط بها والحافات المحدقة بها شبهاً كثيراً، لكن هذه القسنطينة أعظم وأكبر وأعلى، فإنها على جبل عظيم من حجر صلد، قد شقَّ الله تعالى ذلك الجبل فصار فيه خندق عظيم يدور بالمدينة من ثلاثة جوانب، ونهرها الكبير يدخل على ذلك الخندق ويدور بالمدينة فيسمع لجريانه في ذلك الخندق دوي عظيم هائل وصوت مفزع، وقد عقد الأولون على هذا الجبل قنطرة عظيمة طبقات بعضها فوق بعض، وعليها الدخول إلى باب المدينة، وهي متصلة بالباب، وقد بني على طرف القنطرة مما يلي باب المدينة بيت على أقباء يسميه أهل المدينة العبور يعنون الشعرى، لأنه معلق في جوّ السماء، فإذا كنت في وسط هذه القنطرة تعبر إلى الضفة الثانية تظن أنك تطير في الهواء، وترى ماء النهر الكبير في قعر ذلك الخندق البعيد المهوى مثل الجدول الصغير، وهذه المدينة من إحدى عجائب العالم، وهي على نظر واسع كما قلناه، ولها بساتين كثيرة الفواكه، لكنها شديدة البرد والثلوج كثيرة الرياح لعلوها وارتفاعها، وأقرب ما لها من مراسي البحر مرسى القل.
قالوا: وهي على قطعة جبل منقطع مربع، فيه بعض الاستدارة لا يوصل إليه من مكان إلا من جهة باب بغربيها ليس بكبير المنعة (1) ، وهناك مقابر أهلها، ومع المقابر بناء قديم من بناء الأول، وبه قصر تهدم أكثره، وهو دار ملعب من بناء الروم ويحيط بقسنطينة الوادي من جميع جهاتها كالعقد، وليس بها من داخلها سور يعلو أكثر من نصف قامة، ولها بابان: باب ميلة من المغرب، وباب القنطرة في الشرق، والقنطرة من أعجب البنيان لأن علوها يزيد على مائة ذراع، وهي من بناء الروم، قسيّ عليها قسي، عددها في سعة الوادي خمس، والماء يدخل على ثلاث منها مما يلي جانب المغرب، وهي كما قلناه قوس على قوس، فالقوس الأولى يجري فيها الماء أسفل الوادي، والقوس الأخرى فوقها وعلى ظَهرها المشي والجواز إلى البر الثاني، وباقي القوسين اللتين من جهة المدينة مفردتان على الجبل، وبين القوس والقوس أرجل تدفع مضرة الماء ومصادمته (2) عند حملة سيوله، وعلى رقاب الأرجل قسي فارغة صغار ربما زاد الماء في بعض الأوقات فعلا الأرجل ومرّ في تلك الفرجات، وهي من أعجب ما رئي من البناء وليس في المدينة كلها دار كبيرة ولا صغيرة إلا وعتبة (3) بابها حجر واحد، وكذلك عضادات جميع الأبواب، وبناؤها بالتراب وأرضها حجر صلد، وفي كل دار مطمورتان وثلاث وأربع نقراً في الحجر تبقى الحنطة فيها لبردها واعتدال هوائها، وواديها يأتي من جهة الجنوب ليحيط بها من غربيها ويمر شرقاً مع دائر المدينة ويستدير في جهة الشمال إلى أن يصب في البحر في غربي وادي سهر. والقسنطيية من أحصن بلاد الدنيا، وهي مطلة على فحوص ومزارع والحنطة والشعير ممتدة في جميع جهاتها، ولها في داخل المدينة ومع سورها مسقى يستقون منه ويتصرفون منه في أوقات حصارها متى طرقها عدوّ، وبين قسنطينة وبجاية ستة أيام، أربعة منها إلى جيجل، ومن جيجل إلى بجاية خمسون ميلاً.
القسطنطينية
(4) :
كانت رومة في القديم دار مملكة الروم نزلها من ملوكهم تسعة وعشرون ملكاً، ثمِ ملك بها قسطنطين الأكبر ثم انتقل إلى بزنطية وبنى عليها سوراً وسماها القسطنطينية، وقد كان اسمها طوانة ثم نسبت إلى قسطنطين، وبينها وبين عمورية ستون ميلاً في قرى وعمارات.
وخليجها المشهور بها هو الداخل من بحر الشام الواقع في البحيرة التي تتصل بالقسطنطينية، وإلى ذلك الخليج يصل التجار المختلفون من العراق والشام وغيرهما إلى القسطنطينية ويعبرونه في السفن إلى العدوة الثانية، وهو الذي عبر فيه رسول معاوية بن أبي سفيان حين وجهه للاحتيال على البطريق الذي لطم وجه الرجل المسلم في الحكاية المشهورة.
ومدينة القسطنطينية (5) ثلاث نواحي: ناحيتان منها في البحر الأعظم مما يلي القبلة والمشرق والمغرب، والناحية الثالثة (6)
(1) الإدريسي: السعة.
(2)
الإدريسي: ومصادرته.
(3)
ص ع: وعلى.
(4)
في المصادر الجغرافية معلومات مختلفة عن القسطنطينية، انظر التنبيه والإشراف: 138 - 142، وابن خرداذبه: 109، وابن الفقيه: 145، وآثار البلاد: 603، وياقوت (القسطنطينية)، وابن الوردي: 50، ورحلة ابن بطوطة، ولكن المؤلف يتابع أولاً البكري (ح) : 192 (راجع مادة: رومة) ثم يعيد بعض ما ذكره في مادة خليج القسطنطينية معتمداً في معلومات كثيرة على نزهة المشتاق، ثم يتكئ في أكثر معلوماته عن المدينة على ابن رسته 119 - 126، وفي صبح الأعشى 5: 377 نقل عن الروض.
(5)
نزهة المشتاق: 256.
(6)
ص ع: السابعة.
مما يلي البر وفيه باب الذهب، وهي التي تلي الشمال، وطولها من الباب الشرقي إلى الباب الغربي ثمانية وعشرون ميلاً، ولها حيطان من حجارة، وبينهما فضاء تسعون ذراعاً، وعرض السور الداخل اثنتا عشرة ذراعاً، وسمكه اثنتان وسبعون ذراعاً، وعرض السور الخارج ثمان أذرع، وسمكه اثنتان وأربعون ذراعاً وفيما بين السورين نهر يسمى قسطنطيانوس، وهو مغطى ببلاط نحاس، طول كل بلاطة ست وأربعون ذراعاً وعدة ما فيه من البلاطات اثنتان وأربعون ألف بلاطة، وعمق النهر اثنتان وأربعون ذراعاً، وفيما بين باب الذهب، وهو باب مضبب بالحديد، أعمدة بالذهب، وطوله إحدى وعشرون ذراعاً، وبين باب الملك اثنا عشر ميلاً ولها من الأبواب نحو مائة باب أكبرها باب الذهب، وليس يدرى مثلها في الكبر قطر إلا قطر رومة.
وبها القصر (1) الشائع ذكره شماخة بناء واتساع قطر وحسن ترتيب، وفيه البذرون (2) الذي يتوصل منه إلى القصر، وهو من عجائب الدنيا فإنه ملعب وزقاق يمشى فيه بين سطرين من صور مفرغة من النحاس البديع الصناعات، منها على صور الأدميين وضروب الخيل والسباع إلى ما سوى ذلك من الأشكال، وبالقصر وبما دار به ضروب من العجائب المصنوعات، ودون الخليج من جهة بلاد الأرمن أحد عشر عملاً.
ودور قصر الملك فرسخ يحيط به سور منيف، وله ثلاثة أبواب، والذي يظهر يوم الشعانين من صلب الذهب أحد وعشرون ألف صليب، ومن صلب الحديد والنحاس المنقوشة المموهة بالذهب عشرة آلاف ومائتان، ومن المصاحف التي تقرأ في الكنيسة، رقومها من ذهب مكتوبة بالذهب والفضة، ستة آلاف وأربعمائة، وفيها من الشمامسة ومن تجري عليه الأرزاق ثمانية وأربعون ألفاً لا ينقص عددهم، كلما مات أحدهم أقاموا مكانه آخر، ووضع قسطنطين في أعلى هذه الكنيسة آلة مطلسمة، وهو زرزور من نحاس إذا كان وقت الزيتون حشر إليها كل زرزور هناك، فيأتيها الزرزور بثلاث زيتونات اثنتان في مخلبيه وثالثة في منقاره فيضعها عنده ثم ينصرف غادياً، ولا يزال ذلك دأبه طوال أمد الزيتون.
فإذا أراد (3) الملك الخروج إلى هذه الكنيسة العظمى فرش له في طريقه من باب القصر إلى الكنيسة حصر، من فوق الحصر ضروب الرياحين الطيبة، وتزين دور المدينة يمنة ويسرة بالديباج وضروب ثياب الحرير، ثم يخرج بين يديه عشرة آلاف شيخ مشاة، عليهم كلهم ديباج أبيض، ثم يخرج بعدهم عشرة آلاف خادم، عليهم ديباج لون السماء، في أيديهم الطبرزينات الملبسة بالذهب، ثم يخرج بعد ذلك خمسة آلاف من فتيان الصقالبة عليهم ملحم خُراساني أبيض، بأيديهم كلهم صلبان الذهب، ثم يخرج من بعدهم عشرة آلاف غلام أتراك وخزر، عليهم أقبية مذهبة، وبأيديهم رماح وأترسة ملبسة بالذهب، ثم يخرج بعدهم مائة بطريق، عليهم ثياب منسوجة بالذهب، في يد كل واحد منهم قضيب من ذهب ثم يخرج مائة غلام عليهم ثياب مشهورة مرصعة باللؤلؤ، يحملون تابوتاً من ذهب، فيه كسوة الملك لصلاته، ثم يخرج رجل بين يديه يسكت الناس، ثم يخرج شيخ بيده طشت وإبريق من ذهب مرصعان بالدر والياقوت، ثم يخرج الملك ماشياً وعليه ثياب من ابريسم منسوجة بالجوهر كلها، وخفه مرصع بالدر والياقوت، وفي يد الملك حقة من ذهب فيها تراب، فكلما خطا خطوتين يقول له الوزير بلسانهم كلاماً معناه: اذكر الموت والبلى، فإذا قال له ذلك وقف الملك وفتح الحق ونزل إلى التراب وقبَله وبكى، يسير كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة فيقدم الرجل الطشت والإبريق، فيغسل الملك يده ويقول للوزير: إني بريء من دماء الناس كلهم والله لا يسألني عن دمائهم وإني قد جعلتها في عنقك، ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره ويقول له: دن بالحق، ويأمر فيدار به على أسواق القسطنطينية، ويقال له: دن بالحق، كما قال له الملك. ويلبس الملك الثياب التي يدخل بها الكنيسة ويأمر بإدخال أسارى المسلمين الكنيسة، فينظرون إلى تلك الزينة فينادون: أطال الله بقاء الملك سنين كثيرة، ويقولون ذلك ثلاث مرات. ويساق خلف الملك ثلاثة من الخيل تقاد، وقال بعضهم: إنها لا تكون إلا شهباً، ويقال إنها من نسل خيل كانت للإسكندر توارثها ملوك اليونانية وملوك الروم لما غلبوا على المملكة، عليها سروج قرابيسها من الزمرد الأخضر والياقوت الأحمر، وتلك السروج وألبابها وما اتصل بها مرصع من الحجارة وأجلتها من الديباج المرصع بالدر والياقوت، فيدخلونها الكنيسة
(1) النقل مستمر عن نزهة المشتاق.
(2)
ص ع: البذبدون (دون اعجام في ع) ، وفي نزهة المشتاق صورة الكلمة نفسها ((البدندون)) والبذرون كما هو عند ابن خرداذبه وابن رسته يقابل الهيودروم (Hippodrome) .
(3)
متابع للبكري (ح) : 196 وأصله عند ابن رستة: 123.