الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق الكتاب
اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسختين
(1)
نسخة مكتبة بيرم باشا التابعة لنور عثمانية، ورقم المخطوطة فيها (44) وقد رمزت لها بالحرف (ع) . وتقع في 409 ورقات، مسطرتها (22× 32سم) وعدد السطور في الصفحة الواحدة 31 سطراً، ومعدل الكلمات في السطر التام: 12 كلمة، وهي مكتوبة بخط نسخي شديد الوضوح، وفيها قلة عناية بالاعجام، وتصحيف كثير في أسماء الأعلام على وجه الخصوص، ويكثر فيها سقوط عبارات كاملة، والناسخ يضرب على ما يريد حذفه بالقلم متقيد بالطريقة التقليدية في الترميج.
وقد ورد في آخرها أن ناسخها هو محمد بن زين الدين الجيزي الشافعي، وأن الفراغ من تعليقها تم في " عصر اليوم الثاني، ثاني الثاني من ثامن أول تاسع العاشر من الهجرة النبوية "، وهذا اللغز إذا رددناه إلى الأرقام كان يعني أن نسخها قد تم في الثاني من شهر صفر سنة 981.
(2)
نسخة حديثة رمزت لها بالحرف (ص) ، كانت في ملك المرحوم الشيخ محمد نصيف بجدة، وقد نقلت عن نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة (وكان الانتهاء من نق نسخة المدينة 971) فجاءت في 643 صفحة مكتوبة بخط رقعة حديث في الأكثر ومسطرتها 26.5×34 سم وعدد السطور في الصفحة 24 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد 18 كلمة وقد جاء في آخرها تاريخان مختلفان: إذ ذكر أن الفراغ من نسخها في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت قد تم في 11 شعبان سنة 1360 وبعده يذكر الناسخ مصطفى بن عمر بصرى قاروت أن الفراغ من نسخ الكتاب تم على يده في 15 رجب الفرد سنة 1364، وهو أيضاً تاريخ دخول هذه النسخة في ملك الشيخ محمد نصيف بن حسين بن عمر أفندي نصيف، بجدة، وقد اطلع الأستاذ عبد الرزاق آل حمزة على هذه النسخة وقابلها على أصلها المنقولة عنه، " وهو كثير التحريف والغلط والتصحيف " فاجتهد بقدر الطاقة في معرفة ما هو أقرب إلى الصحة، وكتب بازائه حرف (ظ) مختصر " الظاهر " أو " المظنون "؛ وفرغ من ذلك ضحوة 24 شعبان 1364 بقبة الساعات بالمسجد الحرام، بمكة المكرمة. وإذا كان الأصل الذي نقلت عنه النسخة " كثير التحريف والغلط والتصحيف " فإن هذه الصورة المنسوخة عنه لم تخفف مما فيه من أخطاءه؛ ورغم بعض التنبيهات المفيدة التي ذكرها الأستاذ آل حمزة في بعض حواشي النسخة، فإنها ما تزال نسخة سقيمة، لا يمكن الاعتماد عليها وحدها بأية حال، غير أنها سلمت من السقط الذي يكثر في النسخة السابقة، ومن هنا كانت ذات فائدة غير قليلة، أما في قراءة النص نفسه فلم يكن الاعتماد عليها إلا للوقوف على مدى اطراد ذلك النص وانسجامه في النسخة (ع) .
على أن النسختين تتقاربان بعد ذلك كثيراً، وخاصة في الهفوات المشتركة بينهما، كما قال الأستاذ أمبرتو رتزيتانو (1) ، وهذا قد يشير إلى أنهما اعتمدتا على أصل واحد.
ولم يكن في الإمكان إقامة نص سليم في معظمه اعتماداً على هاتين النسختين وحدهما، فإن غلبة التصحيف على الأعلام من قبل الناسخين ولمؤلف قد كان يجعل كل محاولة من هذا القبيل مخفقة لولا اعتمادي على المصادر الجغرافية التي نقل عنها المؤلف نفسه، كذلك فإن ما قام به الأستاذان بروفنسال ورتزيتانو في تحقيق الأماكن الأندلسية والصقلية، قد سهل جانباً من العمل فيما يتعلق بأسماء تلك الأماكن، على أن العالمين المذكورين قد توقفا عند بعض الأعلام التي أوردها المؤلف مصحفة، فلم يستطيعا أن بيتا في أمرها بشيء حاسم.
وقد سرت في تقييد الملاحظات والحواشي على خطة الإيجاز والاقتصاد، وهاهنا أمر يحسن تنبيه القارئ إليه؛ فحين أقول في الحاشية - مثلاً - نزهة المشتاق: 120 أو السيرة 2: 36، أعني أن المؤلف ينقل مادته من هذا المصدر (مباشرة أو بالواسطة) ، حتى إذا انتهى النقل بدأت فقرة جديدة، على هذا جرى تقسيم الفقرات في المادة الواحدة إلا أن أشير منذ البداية إلى أن المادة كلها منقولة عن المصدر الفلاني، وإلا المادة التي نشرها بروفنسال من قبل، فإن تقسيمها إلى فقرات ينظر في الأكثر إلى الوحدات المتوالية. أما إذا صدرت العبارة في الحاشية بقولي: انظر أو قارن فمعنى ذلك أنني أحاول أن أربط ما ورد في الروض بما ورد في المصادر الأخرى دون أن يكون هناك نقل، إذ المقارنة أو الإحاطة هنا إلى مصدر آخر تكون غايتها توثيق التسمية أو ضبط الاسم، أو وجود شبه قوي بين المادتين، أو وجود فرق واضح بينهما. ولم يكن همي في هذا اللون من الحواشي أن أقيم لكل مادة دراسة تطورية حتى أضعها في ضوء المعلومات الجغرافية الحديثة - فذلك ربما كان أمراً معجزاً - وإنما حرصت دائماً أن أضع مادة الروض المعطار بين موضحين: بين المصادر التي نقل المؤلف عنها، وبين المصادر التي نقلت عنه؛ كل ذلك رغبة في ضبط النص على وجه يرضى عنه المحققون والدارسون. على أني وقفت إزاء بعض الأسماء عاجزاً عن استبانة الوجه الصحيح فيها، فأما أشرت إلى ذلك، في الحاشية، معلناً أني لم أجد شيئاً عنها في المصادر، وإما تركتها عابراً دون إشارة وفي النفس منها شيء.
وحيث وقع المؤلف في التصحيف فكتب " خجنده " في حرف الجيم (جخندة) ووضع " علوة " في باب الغين (غلوة) وجعل " باب " و " بابة " في مادة الياء " ياب " و " يابة ".. الخ ما وقع فيه من تصحيفات، فقد أبقيت هذه الأعلام حيث وضعها وأشرت إلى خطأه، ولكني أعتزم - إن شاء الله - أن أجعل الفهرست كفيلاً بردها إلى وجه الصواب. إذ أثبت هنالك مثلاً (غلوة: صوابها علوة فانظره، وهكذا) ؛ أما إذا كان التصحيف في الباب نفسه مثل: وبدار
(1) مجلة كلية الآداب: 136.
(التي أوردها بعد وبار) ظناً منه أن ما بعد الواو باء موحدة، وصحتها وندار أو الزيدان (التي أوردها في باب الزاي المشفوعة بالياء وهي الزبداني) فقد كنت أصححه في المتن، لأن المادة لا تستدعي نقلاً من حرف إلى حرف.
أما الفروق في القراءات فلم أثبت منها إلا ما وجدته ضرورياً أو هاماً، وأضربت عما كان وهماً خالصاً من الناسخين، وكذلك صنعت في عرض الكتاب على مصادره، إذ كان المؤلف في كثير من الأحيان يوجز بالحذف أو التلخيص، كذلك فإني أفدت من الزيادات التي أوردها الأستاذ بروفنسال إذ اعتبرت نشرته بمثابة نسخة أخرى في هذا الصدد وحده ولم أشر إلى ما صوبته في نصه من قراءات أو ما استدركته عليه لنقص في النسخ التي اعتمدها، فذلك يثقل الحواشي بما لا ضرورة له. وليس بين ما نشره الأستاذ رنزيتانو وبين القراءات التي اعتمدتها إلا فروق يسيرة جداً لأنه إنما كان اعتماده على مخطوطة بيرم باشا وعلى أصل النسخة (ص) . وربما كان الاطلاع على مزيد من النسخ كفيلاً بإبراز فروق أخرى، ولكن ذلك مما لم تتحه لي الظروف التي عملت أثناءها في تحقيق هذا الكتاب.
وفي ختام هذه الكلمة أود أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي العلامة الحجة الأستاذ الشيخ حمد الجاسر، فقد كان له الفضل في تنبيهي إلى اعتماد كل من الناصري في رحلته والسمهودي في ملخص وفاء الوفا على الروض المعطار، كما تلطف - حفظه الله - بمراجعة قسم من مواد الكتاب، وزودني بتعليقاته العلمية المفيدة؛ وجزيل شكري لصديقي اعالم الكبير الأستاذ زهير شاويش الذي أذن بتصوير نسخة (ص) حين كانت في حوزته بموافقة الشيخ محمد نصيف رحمه الله، فإنه كان أسخى الناس في تشجيع الأعمال العلمية، وكل ما أتمناه أن يكون ما بذلته من جهد في إخراج هذا الكتاب وفاء بفضل كبير تلقيته من هذين الصديقين العزيزين ومن سائر أصدقائي الذين كانوا يتطلعون إلى روية الكتاب مشمولاً بهذه العناية المتواضعة، والله الموفق.
بيروت في شهر أيار (مايو) 1974 إحسان عباس
الحبل المستطيل من الرمل، وقيل هي الرمال العظيمة، وكثيراً ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل لأن الريح تصنع ذلك، وفي ذلك قال الله تعالى " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف " ونبيهم هود عليه السلام ولما قال قائلهم " هذا عارض ممطرنا " قيل لهم " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " وذلك أن عاداً (1) بغت في الأرض وملكها الخلجان ابن الدهم، كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم هوداً فلم يجيبوا، فمنعوا المطر ثلاث سنين وأجدبت الأرض فم يدر لهم ضرع وكانت في نفوسهم مع ذلك هيبة الصانع والتقرب إليه بالتماثيل وعبادتها لأنها في زعمهم مقربة إليه، وكانوا يعظمون موضع الكعبة وكان بربوة حمراء، فوفدت عاد إلى مكة وفداً يستسقون لهم ويستغيثون وكان بمكة يومئذ العمالق، فأتى الوفد مكة فأقبلوا على الشراب واللهو حتى غنتهم الجرادتان قينتا معاوية بن بكر بشعر فيه حث لهم على ما وردوا من أجله، وهو:
ألا يا قيل قم عجلاً فهينم
…
لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عاداً
…
قد أمسوا لا يبينون الكلاما
وإن الوحش تأتي أرض عاد
…
فلا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
…
نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
…
ولا لقوا التحية والسلاما فاستيقظ القوم من غفلتهم وبادروا إلى الاستسقاء لقومهم، فكان من أمرهم في مجيء السحب واختيارهم لما اختاروه منها ما هو مشهور، وذلك أن الله تعالى أنشأ سحائب: بيضاً وحمراً وسوداً ثم نادى مناد من السحاب: يا قيل اختر لقومك، وكانوا قالوا: اللهم إن كان هود صادقاً فاسقنا، فقال: اخترت السحابة السوداء، فقيل له: اخترت رمداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، لا والداً ولا ولداً، إلا جعلته همداً، وساق الله تعالى السحابة السوداء بالنقمة إلى عاد، وفيهم يقول مرثد بن سعد:
عصت عاد رسولهم فأضحوا
…
عطاشاً ما تبلهم السماء
ألا قبح الإله حلوم عاد
…
فإن قلوبهم قفر هواء فأرسل الله تعالى عليهم الريح العقيم كما قال عز وجل " ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم " خرجت عليهم من واد لهم، فلما رأوا ذلك قالوا " هذا عارض ممطرنا " وتباشروا بذلك، فلما سمع هود ذلك من قولهم قال " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم "، فأتتهم الريح يوم الأربعاء فلم تأتهم الأربعاء الثانية ومنهم حي، فمن أجل ذلك قيل: أربعاء لا تدور ثم انفرد هود ومن معه من المؤمنين، وفي ذلك يقول شاعرهم:
لو أن عاداً سمعت من هود
…
واتبعت طريقة الرشيد
ما أصبحت عاثرة الجدود
…
صرعى على الآناف والخدود وروى الكلبي (2) عن رجاله عن الأصبغ بن فلان (3)، قال: كنا عند علي رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه، فسأل رجل من حضرموت فقال: أعالم أنت بحضرموت؟ فقال: إذا جهلتها فما أعلم غيرها، فقال: أتعرف موضع الأحقاف؟ قال: كأنك تسأل عن قبر هود عليه السلام، قال: نعم، قال: خرجت وأنا غلام في أغيلمة من الحي نريد أن نأتي قبره لبعد صيته، فسرنا في وادي الأحقاف أياماً وفينا من قد عرف الموضع، حتى انتهينا إلى كثيب أحمر فيه كهوف، فانتهى بنا ذلك الرجل إلى كهف منها فدخلناه وأمعنا فيه فانتهينا إلى حجرين قد أطبق أحدهما فوق الآخر وفيه خلل يدخل منه النحيف متجانفاً، فرأيت رجلاً على سرير شديد الأدمة كث اللحية قد يبس على سريره وإذا لمست شيئاً من جسده وجدته صلباً، وعند رأسه كتابة بالعربية: أنا هود الذي آمنت بالله وأسفت على عاد لكفرها وما كان لأمر الله من مرد، فقال علي رضي الله عنه: كذلك سمعته من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
اخميم
(4)
مدينة في البلاد المصرية في الجانب الشرقي من النيل لها ساحل، وهي مدينة كبيرة قديمة فيها أسواق وحمامات ومساجد كثيرة وفيها من البرابي وعجائب المباني والآثار ما يعجز الوصف عنه وهي بصعيد مصر.
وكان سوريد بن سهلون (5) صاحب الأهرام ملكاً عاقلاً عالماً أوتي علماً
(1) ورد خبر عاد في عدة مصادر، انظر الطبري 1: 231 - 244 وأخبار الزمان: 81 - 82، وكتب التفسير (سورة الأحقاف) وكتب الأمثال، والبكري (مخ) :10.
(2)
قارن بمعجم ما استعجم 1: 119.
(3)
الأصبغ بن نباتة عند البكري.
(4)
الاستبصار: 84.
(5)
أخبار الزمان (108) : فيلمون؛ حسن المحاضرة: سهلوق؛ الاستبصار: 52 شوندين بن سلمون.
وحكمة، فكان يتعهد مصالح رعيته، واتخذ مرآة من أخلاط أقامها على منار في وسط قصره بمكان ينظر فيها جميع الأمم والأقاليم ويقابل ذلك بما يصلحه، وقد كان عهد إلى رئيس كهنته أن يأمرهم بالنظر في كل يوم فيما يحدث في العالم ويخلد ذلك في كتاب، فجمع إليه العلماء والكهناء والمنجمين من جميع الأقطار وعملوا له ما أراد من جميع الطلسمات وغير ذلك. وفي أيامه بنيت الأهرام (1) التي بأرض مصر بسبب أن هذا الملك كان رأى رؤيا هالته: رأى الكواكب البابانية (2) في صور طير بيض كأنها تخطف العالم وتلقيهم بين جبلين وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة كاسفة كلها، فأخبر بذلك كهانه وعلماءه، فأولوا ذلك على أنه يدل على آفة نازلة من السماء مفسدة للأرض وأهلها وحيوانها وقالوا له: هي آفة محيطة بأقطار الأرض إلا اليسير، وذلك إذا نزل قلب الأسد في أول دقيقة من السرطان وتكون الشمس والقمر في أول دقيقة من الحمل، فقدر الملك أن ذلك غرق يأتي على الأرض ومن فيها، فأمر ببناء الأهرام والبرابي لتخليد علومهم وصناعاتهم وسير ملوكهم وسنتهم في رعيتهم، وأمر ببناء أعلام عظام تكون خزائن أموالهم وكنوزهم وذخائرهم وقبوراً لهم تحفظ أجسادهم من الفساد، وأمر أن يكون ذلك كله في حجر صلد لا تغيره الدهور ولا يفسده الطوفان، وقيل أمر ببناء هذه الأهرام والبرابي من حجارة ومن طين، فإن كان هذا الحادث ماء ذهبت التي هي من طين وبقيت التي هي من حجارة، وإن كانت ناراً ذهبت التي هي من حجارة وبقيت التي هي من طين، فكان ذلك الحادث ماء فذهبت الطين وبقيت الحجارة، ثم اختار موضعاً لبناء تلك الأعلام، بقرب النيل في الجانب الغربي منه، وجعل طول حائط الهرم مائة وخمسين ذراعاً في عرض مثل ذلك، وارتفاعه في السماء أربعمائة ذراع وعمقها تحت الأرض مثل ارتفاعها فوق الأرض، وعرض الحائط عشرين ذراعاً. فلما تم بنيان الأهرام والبرابي أمر الملك أن يكتب على حيطان البرابي وسقوفها جميع الأشياء وغوامض الأمور ودلائل النجوم وعللها وسائر الطبائع وعمل الأدوية وتأليفها ومعرفة العقاقير وأسماؤها وصورها وعلم صنائع الكيمياء وغيرها مما ينفع ويضر، كل ذلك ملخصاً مفسراً لمن عرف كتابتهم، وفهمها، ونقش في حيطانها وسقفها جميع الطلسمات، وكتب على كل طلسم خاصيته ونفعه وضرره ولما وضع، وجعل في تلك الأهرام فنوناً من الذهب والفضة والكيمياء وحجارة الزبرجد الرفيعة والجواهر النفيسة، فلما تمت هذه الأهرام والبرابي على ما أراد الملك قال لهم: انظروا هل تفسد هذه الأعلام؟ فنظروا فوجدوها باقية لا تزول، فقال لهم: هل يفتح فيها موضع أو يدخل إليها؟ فنظروا وقالوا: يفتح في الهرم الفلاني في الجانب الشمالي منه، فقال: حققوا النظر في معرفة الموضع نفسه، فنظروا وعرفوه أنه يكون لمدة أربعة آلاف دورة للشمس، والدورة سنة، فقال لهم: انظروا مقدار ما ينفق في فتح هذا الموضع، فنظروا فعرفوه فقال: اجعلوا في الموضع الذي يوصل إليه من داخل الهرم ذهباً مقدار ما ينفق على فتحه، ثم حثهم على الفراغ من بناء الأهرام والبرابي ففرغوا منها في ستين سنة، وأمر أن يكتب عليها: بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد هدمها في ستمائة سنة على أن الهدم أهون من البناء، ثم قال لهم: انظروا هل يكون بمصر بعد هذه الآفة آفة أخرى، فنظروا فإذا الكواكب تدل على وقت نظرهم على آفة أخرى نازلة من السماء تكون في آخر الزمان وهي ضد الأولى: نار محرقة لأقطار العالم، فقال لهم: هل توقفونا على أمر آخر بعد هذه الأمور؟ فنظروا فقالوا: إذا قطع قلب الأسد ثلثي دورة وهو آخر دقيقة من العقرب لم يبق من حيوان الأرض متحرك إلا تلف، فإذا استتم أدواره تحللت عقد الفلك. فقال لهم: في أي يوم تنحل عقد الفلك؟ فقالوا له: اليوم الثاني من حركة الفلك، فعجب من ذلك وأمر بتخليد ما قاله العلماء من هذه الحكم في الكتب وأن تستودع في تلك الأهرام، فيقال ان فيها علوم الأولين والآخرين.
قالوا (3) : فلما كان في زمن المأمون بن الرشيد أراد هدم الأهرام، فعرفه بعض شيوخ المصريين أن ذلك غير ممكن ولا يحسن بأمير المؤمنين أن يطلب شيئاً لا يبلغه، فقال: لا بد أن أعلم ما ما فيها، ثم أمر بفتح هرم من أعظمها، ففتح فيه ثلم في جانبه الشمالي لقلة دوام الشمس على من يعمل فيه، فعملوا فيه فوجد حجراً صلداً يكل فيه الحديد، فكانوا يقدون النار عند الحجر
(1) ورد الحديث عن الأهرام في كثير من المصادر، وأنظر بخاصة تحفة الألباب: 74 - 77 وخطط المقريزي 1: 30، وحسن المحاضرة 1: 29 - 34،وكثير مما أورده السيوطي أيضاً، ولعل المؤلف ينظر في النقل غلى كتاب الاستبصار: 52 وما بعدها.
(2)
كذا في ص ع؛ وفي الاستبصار: الكوكب المعروف بالبانية.
(3)
متابع للاستبصار: 56.
فإذا حمي رش بالخل ورمي بالمنجنيق بزبر الحديد، وأقاموا على ذلك أياماً حتى فتحوا الثلمة التي فيها الآن، فدخلوا ذلك الهرم فوجدوا بنيانه بالحديد والرصاص، ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعاً، ووجدوا بالقرب من الموضع الذي فتحوا مطهرة من حجر أخضر فيها مال، فقال المأمون: زنوه، فوزنوا الجملة فوجدوا، فيها مالاً معلوماً، وكان المأمون فطناً فقال: ارفعوا ما أنفقتم على فتح هذه الثلمة، فوجدوه موازياً لما وجد من المال، فعجب المأمون من معرفتهم بالموضع الذي يفتح على طول الزمان، وازداد بعلم النجوم غبطة، ووجد المأمون في الهرم صنماً أخضر ماداً يده وهو قائم فلم يعلم خبره، ونظر إلى الزلاقة والبئر التي في الهرم وأمر بالنزول فيه، فأفضوا إلى صنم أحمر عيناه من جزعتين سواد في بياض كأنهما حدقتا إنسان ينظر إليهم، فهالهم أمره وقدروا أن له حركة فجزعوا منه وخرجوا، ويقال إنه وجد فيها مالاً كثيراً. وسأل المأمون من وجد بمصر من علمائها هل لهذه الأهرام أبواب فقيل لها أبواب تحت الأرض في آزاج مبنية بالحجارة كل واحد منها عشرون ذراعاً له باب من حجر واحد يدور بلولب إذا أطبق لم يعرف أنه باب، وصار كالبنيان لا يدخل إليه الذر ولا يوصل إليه إلا بكلام وقرابين وبخورات معروفة، وإن في هذه الأهرام فنوناً من الذهب والفضة والكيمياء وحجارة الزبرجد الرفيع والجواهر النفيسة ما لا يسعه وصف واصف، وفيها من الكتب المستودعة فيها طرائف الحكمة وكمال الصنعة ومن التماثيل الهائلة من الذهب الملون على رؤوسها التيجان الفاخرة مكللة بالجواهر النفيسة ما يستدل به على عظم ملكهم، وجعلوا على ذلك من الطلسمات ما يمنع منه ويدفع عنه إلى أوقات معلومة، وقصدوا بذلك أن تكون تلك الأشياء ذخيرة لأعقابهم ولمن يكون بعدهم ليروا عظيم مملكتهم، ووضعوا أساس تلك الأعلام وقت السعادة، وجعلوا في أساس كل علم منها صنماً، وزبروا في صدورها دفع المضار والآفات عنها، وفي يد كل صنم منها آلة كالبوق وهو واضعه على فيه، والخبر عن هذه الأهرام والبرابي مذكور في المطولات.
ويقال (1) إن ذا النون الإخميمي الزاهد إنما قدر على ما قدر عليه من علوم البربى حتى عمل الصنعة الكبيرة لأنه خدم راهباً كان بإخميم مدة صباه فعلمه قراءة الخط الذي في البربى وعلمه القربان والبخور واسم الروحاني وأوصاه أن يكتم ذلك، فلما علم ذا النون ما علم من علم الكيمياء وغيرها عمد إلى طين الحكمة فطمس به على صنعة الكيمياء حتى لا يبلغ إليها أحد غيره وهو طين لا ينقلع أبداً.
وفي (2) بعض الأخبار أن قوماً قصدوا الأهرام فنزلوا في تلك الآبار وطلبوا أن يدخلوا من تلك المضايق التي تخرج منها تلك الرياح، واحتملوا معهم سرجاً في أواني زجاج، فلما حصلوا في تلك المضايق التي تخرج منها الرياح، خرجت عليهم ريح شديدة فأخرجتهم منها، وأطفأت أكثر سرجهم، فأخذوا أحدهم وكان أقواهم جأشاً وأشدهم عزماً وأصلبهم قلباً، فربطوا وسطه بالحبال وقالوا له: ادخل فإن رأيت شيئاً تكرهه جذبناك، فلما دخل المغرور وزاحم تلك الرياح انطبق عليه الفتح فجذبوه فانقطعت حبالهم وبقي ذلك الرجل في ذلك الشق وهم لا يعلمون له خبراً، فصعدوا هاربين حتى خرجوا من تلك البئر واغتموا لما أصاب صاحبهم، فجلسوا عند الثلمة مفكرين في أمر صاحبهم وفي أمرهم وما أقدموا عليه، فبينا هم كذلك إذ انفرجت من الأرض فرجة كالكرة وأنارت لهم ذلك الرجل عرياناً مشوه الخلق جامد العينين وهو يتكلم بكلام عجيب لا يفهم، فلما فرغ من كلامه سقط ميتاً، فازداد وجلهم وتضاعف حزنهم، وعلموا أنهم خلصوا من أمر عظيم، فاحتملوا صاحبهم واتصلت أنباؤهم بوالي مصر وهو يومئذ ابن المدبر وفي أيام المتوكل، فسألهم عن أمرهم فأخبروه، فعجب من ذلك وأمر أن يكتب الكلام الذي قاله ذلك الرجل الذي مات حسبما قاله، وأقام ابن المدبر يطلب من يفسره له، إلى أن وجد رجلاً يعرف شيئاً من ذلك اللسان، ففسره: هذا جزاء من طلب ما ليس له وأراد الكشف عما لم يخبأه، فليعتبر من رآه قال: فمنع حينئذ ابن المدبر أن يتعرض أحد للأهرام.
وفي خبر آخر (3) أن جماعة دخلوا الهرم فوجدوا في بعض البيوت زلاقة إلى بئر، فنزلوا فيها، فوجدوا سرباً فساروا فيه نصف يوم حتى انتهوا إلى حفير عميق وفي عدوته باب لطيف، فكانوا يتبينون فيه شعاع الذهب والفضة والجواهر النفيسة، ومن رأس الحفير مما يليهم إلى ذلك الباب المحاذي لهم الذي فيه الذهب والجوهر عمود حديد قد ألبس محوراً من حديد يدور عليه ولا يستمسك
(1) الاستبصار: 58.
(2)
الاستبصار: 59.
(3)
المصدر نفسه: 60.