الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تسمى آبله فسقيت بذلك الماء، وبجوفي مدينة بجانة حمة أخرى أغزر من الحمة الأولى إلا أن الأولى أنجع في الأسقام وأصلح للأبدان، وهم يزعمون أن جرية الأولى على الكبريت وجرية هذه على النحاس، وتذكر الأعاجم أن ملك تدمير وملك ريه في غابر الدهر خطبا ابنة ملك أرش اليمن وما يليه فشرطت ابنة الملك أن من بلغ ماء إحدى الجهتين حتى يدخله في دار سكنى أبيها، وكانت في موضع مدينة بجانة اليوم، أنه أحق ببضعها، فجد كل واحد منهما في ذلك وجهد جهده، وبنيا قنياً يجلبون الماء فيها فاعترض صاحب الحمة الجوفية خندق ولم يكن بد من بناء قناطر عليه فشغله ذلك حتى بلغ صاحب الحمة الشرقية ماءه، فزوجه الملك ابنته، وأثر ما حاولاه من ذلك باق في الجانبين إلى اليوم.
وبين بجانة والمرية خمسة أميال أو ستة أميال، وكانت بجانة في القديم هي المدينة المشهورة قبل المرية فانتقل أهلها إلى المرية فعمرت وخربت بجانة، ولم يبق منها الآن إلا آثار بنيانها ومسجد جامعها قائم بذاته، وحول بجانة جنات وبساتين ومتنزهات وكروم وأموال كثيرة، وعلى ستة أميال منها حصن الحمة، والحمة في رأس جبل، ذكر المسافرون أنه لا نظير لهذه الحمة في معمور الأرض إتقان بناء وسخانة ماء، والمرضى يقصدونها من جميع الجهات ويقيمون عليها حتى يشفوا من أمراضهم، ويرحل إليها أهل المرية في فصل الربيع بنسائهم وأولادهم باحتفال في المطاعم والمشارب والتوسع في الإنفاق، فربما بلغ المسكن في الشهر بها ثلاثة دنانير مرابطية وأقل وأكثر.
وكان السبب في نزول البحريين مدينة بجانة أنه لما اشتدت شوكة بني ادريس بن ادريس الحسنيين بالمغرب أمر خلفاء بني أمية بضبط السواحل وألا تجري في البحر جارية إلا تحت نظر وإشراف، وكان لا يخرج خارج من الأندلس إلا بسراح ولا يدخل أحد حتى يعرف خبره ومن حيث ورد ما الذي أورده ولا تظهر في البحر جارية إلا استخبر أمرها وعرف شأنها ومتى ألفي في البحر قارب يزيد على اثني عشر ذراعاً ممسوح العجز نقض ورد إلى المقدار المذكور، فلم يزل الأمر كذلك إلى أن تحركت الفتن بالأندلس ووقعت الفترة في احتراس البحر وسواحله، فاتخذ قوم من أوباش الأندلس مراكب وكانوا يأتون بها السواحل الخالية ويحملون الناس إلى كل جهة وهم المسمون بالبحريين وكان عظم نزولهم نواحي طرطوشة، فلما قوي أمرهم وكثر جمعهم غزوا أهل مرشانة وأخفروا العهد الذي كان بين الأمير وبينهم، فأصابوا فيهم شيئاً، فلما صدروا بغنائمهم لم يأمنوا على أنفسهم إن نزلوا سواحل الأندلس، فكانوا ينتجعون هناك البلاد وينتهزون الفرص في المراكب إذا أمكنتهم ويغزون سواحل افرنجة، وغيرها، ثم أجمعوا على الانصراف إلى الأندلس واستيطان موضع منها، ثم نزلوا شرقي وادي أرش اليمن وهو خلاء قفر، فخرجوا هنالك ولاطفوا من بإزائه من العرب وهادوهم بتحف المشرق وطرائفه وأوسعوهم براً فأذنوا لهم في النزول فانتشروا على وادي أرش اليمن، وافترقوا في قراه على وجه التصنيف والتجارة، وأظهروا أحسن المعاملة وأداء الطاعة، ثم كثروا وتلاحق بهم من كان تخلف عنهم واشتدت شوكتهم وعظمت على تلك الناحية مضرتهم، حتى تغلبوا على مدينة بجانة وطردوا عنها مشاهير عربها ومن تقدمت له رياسة بها، وفرقوهم في البلاد وابتنوا مدينة بجانة على هيئة مدينة قرطبة واستأذنوا الإمام محمد بن عبد الرحمن في ذلك ورغبوا إليه أن يسجل لرجل منهم ويعقد له بالتأمير عليهم، وكان الأمير محمد مشغولاً بقيام ابن مروان وعمر بن حفصون وغيرهما، فعقد لهم ما أرادوا وكان ذلك في سنة ست وسبعين ومائتين (1) فأحسنوا مجاورة أهل بجانة وأظهروا العدل فيهم، وكان عربها قد أساءوا مجاورتهم وأكثروا الجور فيهم، فتسامع الناس بأمرهم وما بسطوه من عدلهم فأموا مدينة بجانة من الأقاليم القاصية والأقطار النائية وصارت حرماً لمن سكنها وأمناً لمن أوطنها واتخذوا حولها حصوناً كثيرة فلم تزل الولاية تتردد فيهم إلى أن كان آخرهم ولاية عبد الرحمن بن مطرف بن عبد الرحمن بن أصبغ الطائي وكان صالحاً ورعاً قد حج حجات، عقد له الولاية على أهل بجانة أمير المؤمنين عبد الرحمن سنة ثلاث وثلاثمائة ثم اختلفت عليها الولاة بعد ذلك إلى أن فسد النظام واختل الترتيب كما في سائر البلاد.
بجاية
(2)
قاعدة الغرب الأوسط، مدينة عظيمة على ضفة البحر يضرب سورها، وهي على جرف حجر ولها من جهة الشمال جبل يسمى امسيول (3) وهو جبل سام صعب المرتقى، وفي أكنافه جمل من النبات المنتفع به في صناعة الطب مثل البرباريس
(1) لابد أن يكون هذا في عهد المنذر لأن الأمير محمداً توفي سنة 273، ونقل بروفنسال عن مباهج الفكر أن هذا الاستيطان تم سنة 271، وهو الأصوب فيما يبدو.
(2)
الاستبصار: 128، والإدريسي (ب/ د) : 62 - 64/ 90 - 92.
(3)
الإدريسي: مسيون، وقد تقدم أمسيول في باب الهمزة من الروض.
والقنطوريون والراوند والاسفيوس وغير ذلك من الحشائش، وفي هذا الجبل عقارب صفر الألوان قليلة الضرر، وهي عين بلاد بني حماد والسفن إليها متكررة، والسفر إليها براً وبحراً والسلع إليها مجلوبة وأهلها تجار مياسير، ولها بواد ومزارع، والحنطة والشعير بها والتين كثير وسائر الفواكه، وبها دار صناعة لإنشاء الأساطيل لأن الخشب في أوديتها وجبالها كثير، ويجلب إليها من أقاليمها الزيت الطيب والقطران، وبها معادن الحديد الطيب وبها من الصناعات كل غريبة، وعلى نحو ميل منها نهر يأتي إليها من جهة المغرب وهو نهر عظيم يجاز عند فم البحر بالسفن، وكلما بعد عن البحر كان ماؤه قليلاً ويجوزه من شاء في كل موضع. وهي قطب لكثير من البلاد، وهي محدثة بناها ملوك صنهاجة أصحاب قلعة أبي طويل المعروفة بقلعة حماد، وكان سبب بنائها أن العرب لما دخلوا إفريقية وأفسدوا القيروان وأكثر مدن إفريقية وهرب منهم صاحب القيروان المعز بن باديس إلى المهدية وكان ابن عمه صاحب القلعة المنصور بن بلكين بن حماد أشد شوكة من صاحب القيروان وأكثر جيشاً فخرج لنصرة ابن عمه وجيش جيشاً كبيراً، فلقيته العرب بجملتها بفحص سبيبة على مقربة من القيروان، فكان بينهم يوم عظيم حتى هزم المنصور وقتل أخوه وأكثر صنهاجة، وذلك أن أخاه كان أسن منه فنهاه عن مقاتلة العرب وقال له: أنت ببلادك فابعث إليهم وصانعهم يأتوك خاضعين طامعين في حبائك فهذا من خلق العرب قديماً فأبى إلا لقاءهم، فلما كان ذلك اليوم وهزم قال له أخوه: ألم أنهك أن تلقاهم بنفسك ولكن أعطني تاجك والراية اقيم على الجيش وانج بنفسك، فإن كانت السلامة فمن الله تعالى وإلا بقيت أنت للناس فليس منك الخلف، وهذا من أغرب ما يفعله الأخ مع أخيه والمولى مع وليه، وأعطاه عمامته ورايته وكانت مشهورة، فسار بالجيش حتى لحق وقتل. وكانت لملوك صنهاجة عمائم شرب مذهبة يغالون في أثمانها تساوي العمامة منها خمسمائة دينار وستمائة دينار وأزيد، وكانوا يعممونها بأتقن صنعة فتأتي كأنها تاج، وكان ببلادهم صناع لذلك، يأخذ الصانع على تعميم عمامة منها دينارين وأزيد، وكانت لهم قوالب من عود في حوانيتهم يسمونها الرؤوس يتعممون عليها تلك العمائم، فلما جاء المنصور إلى تلك القلعة نزلت عليه جيوش العرب وضيقوا بلاده وكان يصانعهم حتى ضاق ذرعاً بهم، وكان لا يقدر على التصرف في بلاده فطلب موضعاً يبني فيه مدينة لا يلحقه فيها العرب، فدل على موضع بجاية وكان مرسى، ويقال إنه كانت فيه آثار قديمة، وإنها كانت مدينة فيما سلف، فبناها المنصور وسماها المنصورية، وانتقل ملكهم من القلعة إلى بجاية واتخذوها دار ملكهم. وبينها وبين قلعة حماد أربعة أيام، وهي مدينة عظيمة ما بين جبال شامخة قد أحاطت بها والبحر منها في ثلاث جهات في الشرق والغرب والجوف، ولها طريق إلى جهة المغرب يسمى المضيق على ضفة النهر المسمى بالوادي الكبير، وطريق في القبلة إلى قلعة حماد على عقاب وأوعار، وكذلك طريقها إلى الشرق، وليس لها طريق سهلة إلا من جهة الغرب، ولذلك قال الشاعر يعنيها:
بجاية كلها عقاب
…
حل لمن حلها عقاب فلم يكن للعرب إليها سبيل، ولا كان يدخل من العرب إلا من يبعث عند الملك لمصانعة على بلاد القلعة وغيرها فيدخلها أفذاذ وفرسان دون عسكر، فبقي صاحب بجاية في ملك شامخ فإنها على نظر كبير وفائد عظيم لكن إنما عمرت بخراب القلعة التي بناها حماد بن بلكين التي تنسب دولة بني حماد إليها، وهي كانت دار الملك قبل بجاية وفيها كانت ذخائرهم وأموالهم.
ورأيت في خبر آخر أن الناصر بن عالناس (1) صاحب قلعة حماد هو الذي بنى بجاية وصيرها دار ملكه ولهذا تسمى الناصرية وأظن ذلك سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
وبجاية معلقة من جبل قد دخل في البحر يضرب فيه، ولها دار لصناعة المراكب وإنشاء السفن، وبينها وبين صقلية ثلاثة مجار، وهي مرسى عظيم تحط فيه السفن من كل جهة، وبجاية كثيرة الفواكه والخيرات، وهي مشرفة نزهة مطلة على البحر وعلى فحص قد أحاطت به جبال، ودوره نحو عشرة أميال، وتسقيه أنهار وعيون وفيه أكثر بساتينهم، ولها نهر كبير يقرب منها نحو الميلين أو دونهما عليه كثير من جنانهم، وقد صنعت عليه نواعر تسقي من النهر، وله منتزه عظيم.
وفي بجاية موضع يعرف باللؤلؤة وهو أنف من الجبل قد خرج في البحر، متصل بالمدينة فيه قصور من بناء ملوك صنهاجة غاية في الحسن فيها طاقات مشرفة على البحر عليها شبابيك الحديد والأبواب المخرمة المحلاة والمجالس المقرنصة المبنية حيطانها بالرخام
(1) هذا الاسم يكتب أيضاً: ((علنّاس)) و ((أعلى الناس)) .