الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونزل الططر عليها سنة ثمان عشرة وستمائة، فاستعد لهم أهلها، وهم خلق مشهورون بالشجاعة واقتناء العدد، فهابهم الططر وراسلوا سلطان الران، فحمل لهم أموالاً وهدايا فعدلوا عنه.
الكعبة:
قال الله تعالى " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس " وهو البيت الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً ".
قال وهب بن منبه (1) : لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض حزن واشتد بكاؤه على الجنة، فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة، فوضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة، وكانت الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة، فيها قناديل من ذهب، ونزل معها الركن، وهو ياقوته بيضاء، وكان كرسياً لآدم عليه السلام يجلس عليه، فلما كان الغرق زمن نوح عليه السلام رفع ومكثت الكعبة خراباً ألفي سنة، حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يبني بيته فجاءته السكينة كأنها سحابة فيها رأس يتكلم له وجه كوجه الإنسان، فقالت: يا إبراهيم، خذ ظلي فابن عليه، فبنى هو وإسماعيل عليهما السلام البيت ولم يجعل له سقفاً، وحرس الله تعالى البيت بالملائكة، فالحرم مقام الملائكة يومئذ، ولم تزل خيمة آدم عليه السلام إلى أن قبض ثم رفعها الله إليه، وبنى بنو آدم بعده في موضعها بيتاً من الطين والحجارة ثم نسفه الغرق فعمي مكانه حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام وحفر عن قواعده وبناه على ظل الغمامة، فهو أول بيت وضع للناس وبنته قريش قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
قال أبو عبيدة: مما أراد الله عز وجل به تكرمة قريش أن الكعبة كانت وقعت حين غرق قوم نوح عليه السلام فأمر الله تعالى إبراهيم خليله وإسماعيل نبيه عليهما الصلاة والسلام أن يعيدا بناء الكعبة على أسه الأول، فأعادا بناءها لما أراد الله تعالى من تكرمة قريش، كما أنزل الله تعالى في القرآن فقال عز وجل " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، ثم أمر الله سبحانه إبراهيم عليه السلام أن ينزل ابنه إسماعيل بالبيت لما أراد من كرامة قريش ففعل، فهو قوله " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " فكان إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان البيت بعد عهد نوح عليه السلام، ومكة يومئذ بلاقع، كما قال تعالى " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود "، فنكح إسماعيل امرأة من جرهم، وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي:
وصاهرنا من أكرم الناس والداً
…
فأبناؤه منا ونحن الأصاهر فولي البيت بعد إبراهيم ابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم وليه بعده ابنه نابت بن إسماعيل، أمه جرهمية، ثم وليه بعده مضاض بن عمرو، وفي ذلك قال:
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
…
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة، وهما أخوان، ورئيس قطورا السميدع، ورئيس جرهم مضاض، ومنزل جرهم بأعلى مكة بقعيقعان فما حاز، ومنزل قطورا أسفل مكة بأجياد فما حاز، فكان السميدع يعشر من دخل مكة من أسفلها، ومضاض يعشر من دخلها من أعلاها، ثم بغى بعضهما على بعض وتنافسا الملك، ومع مضاض بنو اسماعيل، وإليه ولاية البيت دون السميدع، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً فقتل السميدع وفضحت قطورا، ثم اصطلحوا وأسلموا الأمر إلى مضاض، فبقيت جرهم ولاة البيت نحو ثلثمائة سنة، ثم أنهم بغوا بمكة واستحلوا حرمتها وظلموا من دخلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، ولم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذا لم يجد مكاناً يزني فيه دخل الكعبة فزنى بها، فزعموا أن إسافاً بغى بنائلة في جوف الكعبة فمسخا حجرين، وهو اساف بن سهل (2) ونائلة بنت عمرو بن ذؤيب (3) . وكان ماء زمزم قد نضب لما أحدثت جرهم بمكة، حتى امحى مكان البئر ودرس، ثم جاء عمرو بن لحي فغير دين إبراهيم عليه السلام وبدله، وبعث العرب على عبادة التماثيل، وعمر خمساً وأربعين وثلثمائة سنة، وكان له من الولد وولد الولد ألف، ثم وليت البيت
(1) قارن بالأزرقي 1: 8، وراجع مادة ((بكة)) في ما تقدم.
(2)
الأزرقي: سهيل.
(3)
الأزرقي: ذئب.
عبشان من خزاعة، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوت متفرقة في قومهم من بني كنانة.
وانهدم البيت بعد بناء إبراهيم عليه السلام، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبناه قصي وهدمه هو وبناه بناء لم يبن أحد ممن بناه مثله، وسقف الكعبة بخشب الروم الجيد وجريد النخل، وبناها على خمس وعشرين ذراعاً.
قالوا: ومما رجت به قريش أن الله عز وجل قد رضي ما كانوا أجمعوا عليه من هدم الكعبة أن حية كانت في بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما كان يهدى إليها، فجاءت عقاب فاختطفتها.
ولما احترقت (1) الكعبة واحترق الركن الأسود فتصدع حتى شده ابن الزبير بالفضة، ضعفت جدران الكعبة، حتى إن الحمام ليقع عليها فتتناثر حجارتها، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعاً والحصين بن نمير معهم يحاصرها، فأرسل ابن الزبير رجالاً من أهل مكة إلى الحصين فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة وقالوا: إنكم رميتموها بالنفط، فأنكر ذلك، وقالوا له: قد توفي يزيد بن معاوية فعلام تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر هل يجتمع الناس على صاحبك، يعنون معاوية بن يزيد، فلم يزالوا به حتى لان لهم ورجع إلى الشام، ثم دعا ابن الزبير وجوه الناس فاستشارهم في هدم الكعبة، فأشار عليه أقلهم بهدمها وأبى أكثرهم وكان أشدهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، ولا تزال تبنى وتهدم فيتهاون بحرمتها، ولكن ارفعها فقال ابن الزبير رضي الله عنهما: والله ما يرضى أحدكم أن يرفع بيت أبيه وأمه، فكيف أرفع بيت الله، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله حتى إن الحمام يقع عليه فتتناثر حجارته؟! وكان ممن أشار عليه بهدمها جابر بن عبد الله وغيره رضي الله عنهم، وأقام أياماً يشاور وينظر، ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها، على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قواعد إبراهيم عليه السلام، وعلى ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وأراد أن يبنيها بالورس، ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى له، فقيل له: إن الورس يذهب (2) ولكن ابنها بالفضة، فأخبر أن فضة صنعاء أجود الفضة، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار ليشترى له بها فضة ويكترى عليها، ثم سأل رجالاً من أهل العلم بمكة: من أين أخذت قريش حجارتها، فأخبروه بقلعتها فنقل له من الحجارة ما يحتاج إليه، فلما أراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى فأقاموا بها ثلاثاً فرقاً أن ينزل عليهم عذاب، فأمر ابن الزبير بهدمها فما اجترأ على ذلك أحد، فلما رأى ذلك علاها بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصب بشيء اجترءوا فصعدوا وهدموا، وأرقى ابن الزبير رضي الله عنهما عبيداً من الحبش يهدمون رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرب الكعبة ذو السوبقتين من الحبشة.
وقال ابن الزبير (3) رضي الله عنهما: أشهد لقد سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قومك استقصروا في بناء الكعبة وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر أذرعاً، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض: باباً شرقياً يدخل منه الناس، وباباً غربياً يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها "؟ قالت، قلت: لا، قال:" تعززاً لئلا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعوه يرتقي، حتى إذا كاد يدخل دفعوه فيسقط، فان بدا لقومك هدمها فهلمي لأريك ما تركوا من الحجر منها، فأراها قريباً من سبع أذرع ".
فلما هدمها (4) ابن الزبير وسواها بالأرض وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام وجد داخلاً إلى الحجر نحواً من ست أذرع وشبر كأنها أعناق الإبل آخذ بعضها ببعض، كتشبيك الأصابع، يحرك الحجر من القواعد فتتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك الأساس، وأدخل رجل من القوم كان يقال له عبد الله بن مطيع العدوي عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان كلها جميعاً، ويقال إن مكة رجفت رجفة شديدة حين تزعزع الأساس، وخاف الناس خوفاً شديداً حتى ندم كل من
(1) الأزرقي: 1: 140.
(2)
الأزرقي: يرفت ويذهب.
(3)
الأزرقي 1: 142.
(4)
متابع للنقل عن الأزرقي.