المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الأول: / صيغ الاستفهام: - العقد المنظوم في الخصوص والعموم - جـ ٢

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثاني: في إقامة الدليل على أن ما تقدم من (الصيغ كلها من) العموم وذلك بأن أقسمها ثلاثة عشر قسمًا

- ‌القسم الأول: / صيغ الاستفهام:

- ‌الباب الخامس عشر في تقرير الجمع بين أقوال العلماء من النحاة والأصوليين فإنها متناقضة في ظاهر الحال

- ‌فائدة:ضابط جمع القلة

- ‌ضابط مسمى جمع الكثرة:

- ‌الباب السادس عشر في حد التخصيص، وتمييزه عن النسخ والاستثناء، وقبول اللفظ العام للتخصيص

- ‌الفصل الأولفي حد التخصيص

- ‌الفصل الثاني في الفرق بين التخصيص والنسخ والاستثناء

- ‌الفصل الثالث في قبول اللفظ العام للتخصص

- ‌الباب السابع عشر في الفرق بين المخصص والمؤكد، والمقيد والأجنبي، والفرق بين النية المخصصة والمؤكدة

- ‌الباب الثامن عشر فيما يصير به العام مخصوصًا على الحقيقة وعلى المجاز، وما هو الأصل في ذلك، وما هو الفرع فيه

- ‌ الفرق بين الصرائح والكنايات

- ‌الباب التاسع عشر في جواز التخصيص ومسائله

- ‌وفيه سبع مسائل:

- ‌الباب العشرون في المخصصات المتصلة، ووقوع التخصيص بها، وما يتفرع عن ذلك

- ‌ الحال

- ‌الفصل الأول في بيان أن هذه الأمور ليست مخصصة للعموم

- ‌الفصل الثاني في التفريع على أن هذه المخصصات المتصلة مخصصة في بيان فروعها وأحكامها

- ‌المخصص الأول: الاستثناء

- ‌المسألة الثانيةيجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه

- ‌المسألة الرابعةفيما اتصل إليه الاستثناء في الكثرة والقلة

- ‌المسألة الخامسة: الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات

- ‌المسألة السابعة: الاستثناء المذكور عقب الجمل

- ‌المخصص الثاني المتصل: الشرط

- ‌المسألة الثالثة: في أن المشروط متى يحصل

- ‌المسألة الرابعة:الشرطان إذا دخلا على جزاء واحد

- ‌المسألة الخامسة:الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين:

- ‌المخصص الثالث المتصل: الغاية

- ‌فيه ثلاث مسائل

- ‌المخصص الرابع المتصل: التقييد بالصفة

- ‌الباب الحادي والعشرون في المخصصات المنفصلة

- ‌القسم الثاني: التخصيص بالحس

- ‌القسم الثالث: التخصيص بالواقع

- ‌القسم الرابع: التخصيص بقرائن الأحوال

- ‌القسم الخامس: التخصيص بالعوائد

- ‌الفصل الثاني: التخصيص بالدلائل السمعية وهي قسمان: قطعية السند متواترة، وظنية السند أخبار آحاد

- ‌القسم الأول: التخصيص بالمقطوع السند، وفيه سبع مسائل:

- ‌المسألة الأولى: تخصيص الكتاب، جائز عندنا، خلافًا (لبعض) أهل الظاهر

- ‌المسألة الثانية:تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة

- ‌المسألة السابعة: التخصيص بالتقرير:

- ‌القسم الثاني: في تخصيص المقطوع بالمظنون

- ‌المسألة الأولى: يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عند الشافعية والمالكية والحنفية

- ‌المسألة الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة وعموم الكتاب بالقياس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرًا

- ‌الباب الثاني والعشرون في بناء العام على الخاص

- ‌الباب الثالث والعشرون فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك

- ‌فيه عشر مسائل:

- ‌المسألة الأولى: الخطاب الذي يرد جوابًا عن سؤال سائل- إما أن لا يكون مستقلا بنفسه، أو يكون

- ‌المسألة الثانية: الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي

- ‌المسألة الثالثة: لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافًا لأبي ثور

- ‌المسألة الرابعة: التخصيص بالعادات

- ‌المسألة الخامسة: كون المتكلم ناطقًا بالخطاب، ومتكلمًا به، لا يقتضي تخصيص العموم بخروجه منه

- ‌المسألة السادسة: العموم المتناول للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة كقوله تعالى: {يا أيها الناس} ،} يا أيها الذين آمنوا} ، يعم الحكم الجميع

- ‌المسألة السابعة: العموم المتناول لما يندرج فيه السيد والكافر، لا يخصص بخروج هذين الفريقين منه؛ لأن العموم شامل لهما، ولا مانع من بقائه على عمومه

- ‌المسألة الثامنة: إذا ورد العموم في سياق المدح والذم، لا يوجب تخصيص العام؛ لأن الموجب للعموم موجود، والجمع بين جميع الأنواع فيه ممكن يوجب التعميم

- ‌المسألة التاسعة: اختلفوا في العموم إذا تعقبه استثناء أو صفة حكم، وكان ذلك لا يتأتى في (بعض ما تناوله) العموم، هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أو لا

- ‌المسألة العاشرة: عطف الخاص على العام هل يقتضي تخصيصه

- ‌الباب الرابع والعشرون في حمل المطلق الكلي على المقيد

- ‌القسم الأول: أن يختلف الحكم والسبب معًا

- ‌القسم الثاني: أن يتفقا معًا

- ‌القسم الثالث: أن يكون السبب مختلفًا والحكم واحدًا

- ‌القسم الرابع: أن يكون الحكم مختلفًا والسبب واحد

- ‌مسألة: إذا أطلق الحكم في موضع، وقيد في موضعين بقيدين متضادين

- ‌فائدة: التقييد والإطلاق اسمان للألفاظ باعتبار معانيهما

- ‌الباب الخامس والعشرون في تحقيق الفرق بين حمل المطلق على المقيد في الأمر والنهي

الفصل: ‌القسم الأول: / صيغ الاستفهام:

‌الفصل الثاني: في إقامة الدليل على أن ما تقدم من (الصيغ كلها من) العموم وذلك بأن أقسمها ثلاثة عشر قسمًا

؛ لألحق كل قسم بما نص عليه من جسنه، ويكون المنصوص حجة على غير المنصوص، ويتضح به.

‌القسم الأول: / صيغ الاستفهام:

وهو نحو ثمانين صيغة، تقدم سردها، منها: خمسون في "أي" وحدها، ومنها: أربع عشرة في "من"، ومنها ثلاثة في "ما"، ومنها:"متى"، و "متى ما" و "كيف"، و "كيفما"، و "أين"، و "أينما"، و "أني"، و "إيانا"، و "كم"، وجميع ما تقدم سرده من هذا النوع.

فأقول: الدليل على أن هذه الصيغ كلها للعموم في الاستفهام ما تقدم من الدليل على أن "من" و "ما" الاستفهاميتان للعموم، وذلك أن نصوص الأصوليين [متضافرة] ونقولهم على أن "من" في سياق الاستفهام للعموم، (مع) أنه يصح أن يقال في جواب من قال:(من) في الدار؟

ص: 5

زيد، ويكون قوله: زيد، جوابًا مطابقًا، مع أن زيدًا يستحيل أن ينطبق على العموم؛ لأن الجزئي المحصور الفرد الواحد يستحيل أن ينطبق على العدد الذي لا يتناهى، ومدلول العموم عدد غير متناه، فلا ينطبق عليه زيد، مع أنه منطبق "عليه" إجماعًا.

وما سبب ذلك إلا أن العموم إنما هو باعتبار شمول الحكم لأفراد غير متناهية، وها هنا في قولنا: من في الدار؟ حكمان: أحدهما: الكون في الدار، والثاني: الاستفهام.

والعموم إنما هو باعتبار حكم الاستفهام، لا باعتبار حكم الكون، فهو- أعني المستفهم- معمم لحكمه في جميع أفراد العقلاء باستفهامه، ومعنى كلامه: أني سائلك عن أي فرد كان من "أفراد" العقلاء هل وجد كونه في الدار أم لا؟ وهل هو على صفة الاجتماع أو الافتراق؟ فجميع رتب أعداد العقلاء وأفرادهم مستفهم عنه وعن عدمه.

فمن هذا الوجه حصل العموم لا باعتبار حكم الكون، فإن حكم الكون قد لا يوجد ألبتة، فضلا عن كونه يعم، ولذلك يحسن في الجواب: ليس في الدار أحد ألبتة، فلا يوجد شيء من الكون.

وقولنا: زيد، ليس هو [منطبق] على الحكم الذي حصل به العموم، بل الحكم الآخر لا عموم فيه وهو الكون.

فقولنا: زيد، مطابق للواقع في المستفهم عنه، لا لحكم العموم، فما فيه المطابقة لا عموم فيه، وما فيه العموم لا مطابقة فيه، فافترق اليابان.

ونظير ذلك أن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} عام فيما لا يتناهى

ص: 6

منهم، ومع ذلك قد لا يوجد منهم إلا واحد فنقتله، ونخرج عن عهدة الأمر، فيكون قتل/ ذلك الواحد مطابقًا للواقع، لا لمدلول صيغة العموم.

فإن قيل: مالا يتناهى يتعذر علينا، ولم نفعله في هذه الصورة التي لم يوجد فيها إلا مشرك واحد.

وكذلك إذا قال: من دخل داري فأكرمه، فدخلها رجل واحد فأكرمه، انطبق فعله هذا على الواقع، وخرج عن العهدة به.

ويقال: إن فعله منطبق وموافق مع أمر الآمر، مع أنه لم يكرم إلا فردًا واحدًا؛ لأن حكم الإكرام ووقوعه لم يقع فيع عموم، بل العموم حاصل باعتبار حكم آخر، وهو ربط الإكرام بالدخول في كل فرد فرد، فهذا الربط هو الحكم الذي وقع باعتباره والتعميم، لا الإكرام نفسه ووقوعه في الوجود، فتأمل ذلك، فهو محتاج إليه خاصة في معرفة كون هذه الصيغ للعموم.

وفي الجواب عن هذا السؤال الصعب، وهو أنها إذا كانت للعموم كيف ينطبق قولنا: زيد على السؤال، مع تعذر انطباق الواحد على العموم، وأجمعوا على أنه مطابق، حتى أن من أراد أن يقيم الدليل على أنها ليست للعموم بأن زيدا ينطبق جوابا لها، استقام له ذلك في الظاهر، ولا جواب له إلا ما تقدم من أن مطابقته للواقع لا لحكم العموم، وأن الحكم الذي وقع به العموم إنما هو حكم الاستفهام، لا حكم الكون ووقوعه.

وإذا تقرر وجه العموم في "من" الاستفهامية باعتبار حكم الاستفهام،

ص: 7

فكذلك هو في "ما"، أي: لم يترك فردا من أفراد ما لا يعقل إلا وهو سائل عنه.

وكذلك قولهم: إن "أين" من أدوات العموم معناه: أنه لم يترك مكانًا واحدًا من فريق من يعقل ولا من فريق ما لا يعقل إلا وهو سائل عنه، فإنها تشمل النوعين، بخلاف "ما" خاصة بما لا يعقل، و "من" خاصة بمن يعقل، كما تقدم بسطه.

فإذا كانت "من" عامة في من يعقل، ما فيما لا يعقل، و"أين" في البقاع، و"متى" في الأزمان، كانت كيف أيضًا عامة في الأحوال.

فإذا قال له: كيف زيد؟ معناه: أني سائلك عن جميع أحواله التي يمكن أن تعرض له، ولم أترك منها حالا إلا وقد تعلق به سؤالي، فيقول له المجيب: مسافر، فيكون قوله: مسافرا، منطبقًا على الواقع من الأحوال، لا مطابقًا للسؤال باعتبار عمومه وشموله بجميع الأحوال كما تقدم بيانه/ في قولنا: من في الدار؟ فيقول: زيد، ويكون جوابًا منطبقًا، مع أنه فرد مشخص.

ص: 8

وكذلك كيفما، فإن العموم مع "ما" هذه أقوى وأكد لوجهين:

أحدهما: أن قاعدة العرب أنها إذا كثرت اللفظ كثرت المعنى، وكذلك فرقت بين السين وسوف للتنفيس، فسوف أبعد.

وفرقت بين لم يقم زيد وبين لما يقم زيد، فلم يقم: نفي للقيام من الزمان المشار إليه في الكلام السابق، و"لما": نفي له من ذلك الزمان إلى زمان التكلم، ونظائره كثيرة نص عليها النحاة واللغويون.

وثانيهما: أن "ما" هذه في هذه المواطن زائدة، وقد نص ابن جني في كتاب الخصائص: أن العرب متى زادت في كلامها حرفا فهو مؤكد ومقو وقائم مقام إعادة تلك الجملة مرة أخرى، فإذا قلنا: كفى بالله شهيًدا، فالتقدير: كفى الله شهيدًا (كفى الله شهيدًا) مرتين.

وكذلك قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} تقديره: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، مرتين.

وكذلك كل حرف زائد، ومعنى زيادة الحرف، أنه لم يستعمل في معنى يخصه، لا حقيقة ولا مجازًا، إلا أنه لا يفيد فائدة، بل يفيد فائدة هي التقوية والتأكيد. فكذلك ها هنا "ما" زائدة، فيكون التقدير:

ص: 9

كيف تصنع أصنع، كيف تصنع أصنع، ولا يزيدونها في الاستفهام، بل في الشرط.

وإذا تقرر أن: "كيف" للعموم في الأحوال، كما أن "أين" للعموم في البقاع، و"متى" في الأزمان، فكذلك تكون "أني" أيضا للعموم في الأحوال، كقوله تعالى:{فأتوا حرثكم أني شئتم} ، قال العلماء: كيف شئتم، عم الأحوال، فكذلك ما يرادفه؛ لأن شأن أحد المترادفين أن تكون فائدته فائدة الآخر بعينها، و"كيف" و"أني" وإن لم يكونا في هذا السياق للاستفهام، بل للإذن والإباحة، غير أن أصل "كيف"، و"أني" للاستفهام، كما أن أصل "أي" الاستفهام، وتقول مع ذلك: أضرب أيهم في الدار، (فيكون في الأمر والإذن)، لا للاستفهام، فالمراعي في هذه الصيغ أصل وضعها في الحكم عليها بأنها من صيغ الاستفهام.

وكذلك النكرة في الاستفهام، نحو: هل في الدار رجل؟ وأرجل في الدار؟ / للعموم أيضًا؛ لأن معناه: أني سائلك عن حقيقة الرجل في جميع مواردها المشخصة لها، هل وجدت في مورد من تلك الموارد أم لا؟

فجميع موارد النكرة قد شملها السؤال، والواقع بعد ذلك في الجواب مطابق للواقع، لا لحكم الاستفهام الذي حصل به العموم.

ص: 10

وكذلك نقول له في: ليس في الدار أحد؟ فيجيب بالنفي العام؛ لأن الواقع وإن كان السؤال إنما وقع عن الوجود، فالحكم الواقع غير المسئول عنه.

وكذلك "كم" الاستفهامية، إذا قال: كم عندك درهمًا؟ فمعناه: أني سائلك عن جميع رتب الأعداد من الدرهم، من الاثنين إلى ما لا يتناهى من المئين والآلاف، غير واقف باستفهامي عند حد.

فحكم الاستفهام شامل لجميع رتب الأعداد، كما أن "متى" شاملة لجميع الأزمنة، والنظائر المتقدمة.

وكذلك "أيان" في مثل قوله تعالى: {يسألونك عن السماعة أيان مرساها} ، معناه: متى تأتي؟ وأي زمان ترسي فيه؟ .

فسؤالهم شامل لجميع الأزمنة بحيث لم يبق زمان إلا وسؤالهم متعلق به، فلو عين بعد ذلك زمان كان كنعيين زيد للكون في الدار، مطابق للواقع لا لحكم الاستفهام الذي وقع به العموم.

وبهذا التقرير يظهر لك أن "من" في الحكاية كيفما تصرفت للعموم، بسبب شمول السؤال لجميع المراتب من الرجال في قوله: جاءني رجال، فتقول: منون، أي: أني سائلك عن جميع أفراد الجماعات، وكذلك في التثنية معناه: أني سائلك عن جميع أفراد التثنية، إذا قال: جاءني رجلان، فتقول: منان، وعلى هذا النحو جميع رتب "من" في الحكايات.

ص: 11

وكذلك "أي" إذا استفهم بها في الحكاية عن المسئول عنه، أو عن نسبه، كما تقدم بسطه، يكون العموم حاصلا باعتبار شمول الحكم السؤال عن جميع رتب المسئول عنه، وإما إذا وقعت في النداء نحو: يا أيها الرجل، فهو أيضًا للعموم، بسبب أنها تتناول ما يحدث بعد "أي" كيف كان، فتقول: يا أيها الرجل، ويا أيها الناس، وهما عامان.

فهي موضوعة تشمل جميع ما يذكر بعدها كيف كان، ثم يتفق في بعض المواد/ أن لا يقع بعدها الأخرى بطريق الاتفاق، وذلك لا يخل بأنها للعموم؛ لأن الخصوص في الواقع لا ينافي العموم في المدلول، كما تقول: من في الدار؟ ويكون الواقع زيد وحده، وقبضت درهمك كله؟ ، فهو جزئي، مع أن صيغة "كل" للعموم، أي لا شيء يفرض من الدرهم والرجل إلا وهو حاصل، واللفظ يشمله.

فقد وضح لك أن ما لأجله حصل العموم في "من" و"ما" و"أين" و"متى"- المنصوص عليها عند الأصوليين- موجود بعينه في "كيف" و"كم" وبقية النظائر، فتكون للعموم كلها، عملا بجود الموجب للعموم فيها، وإلا يلزم الفرق في موضع عدمه والترجيح من غير مرجح بين الأمثال، وكلاهما محال، فتكون هذه الصيغ كلها للعموم، وهو المطلوب.

* * *

ص: 12

القسم الثاني

صيغ التأكيد كلها ندعي أنها للعموم

وهي نحو أربع وعشرين صيغة، قد تقدم سردها من "كل"، وقد نصوا على أنها للعموم، مع حصول الاتفاق على أنا نقول: خطت الثوب كله، وشربت الإناء كله، وهما جزئيان محصوران فكيف تكون للعموم؟ مع أنها حقيقة في جزئي محصور متناه، وذلك يناقض العموم، وهذا السؤال يشبه السؤال الذي تقدم على "من" في قولنا: من في الدار؟ فتقول: زيد، ويكون جوابا منطبقا، مع لأنه شخص محصور يتعذر العم فالإشارة بالخبر عن الخياطة والتأكيد إلى جميع رتب ما يعرض جزء منه، وذلك غير متناه، غير أن الواقع أنه لم يحصل في الثوب من الأجزاء إلا البدن والتخاريس والأكمام،

ص: 13

والنيافق فالواقع حصور.

والمشار إليه بالتأكيد غير متناه، وهو حكم ما يعرض جزءا من الثوب أو الإناء، والمتكلم يعلم أن الواقع هو ما باشره فعله خاصة، فتأمل ذلك فهو عسر على الفضلاء في هذه المواطن.

ولا يمكنك أن تقول: إن صيغة العموم وضعت للعموم في مثل قوله تعالى: {فسجد الملائكة/ كلهم أجمعون} ، وللخصوص في قوله: شربت الإناء كله، أو أنها مشتركة، فإنه لم يقل أحد بذلك، بل القائل بالاشتراك قال به بين العموم والخصوص كيف اتفق.

أما الاشتراك بين هذه المواد فإنه لم يقل به أحد، فلا يتجه لك إلا ما ذكرته لك، وأن "كلا" من صيغ العموم في جميع الحالات، والواقع منها يكون محصورا، ولولا صحة هذا الجواب للزم عدة العموم حيث نصوا عليه في الآية المتقدمة، بسبب أن الملائكة (الذين) سجدوا محصورون في عدد معين مشخص، لا عموم فيه، وتشخيصهم بعددهم المحصور كتشخيص الثوب والإناء بأجزائه المحصورة، غير أن أفراد الملائكة أكثر مع الانحصار، والكثرة مع الحصر لا توجب عمومًا، مع أنهم قد نصوا على العموم إلا أنه مع الحصر في لواقع، فلا سبيل لنا في الجواب إلا ما تقدم بأن نقول: كل ما

ص: 14

نفرض أنه من الملائكة فهو يسجد، ولم نبق من المفروض ملكًا أحدًا فالعموم باعتبار ما يفرض ويتوهم ملكا، لا باعتبار الواقع ولو لم يعتبر قيد عدم النهاية في مفهوم العموم لكانت أسماء الأعداد من صيغ العموم- إن اقتصرنا على مطلق العدد- بل لابد من اعتبار قيد عدم الحصر، والواقع كله كيفما فرض محصور، فلا يكون للواقع (عموم) أبدًا، والواقع من الملائكة في السجود محصور، فلا يكون عاما من جهة (أنه محصور، وإنما يكون عاما من جهة) ما يتوهم واقعا فيهم، وذلك غير متناه، وهذا هو حقيقة العموم.

وإذا تصورت ذلك في "كل" فإنه بعينه متصور في "كلا" و"كلتا"، وإن وقعا في جزئين، وكذلك "أجمع" و"جميع" و"معشر" و "معاشر" في قوله تعالى:{يا معشر الجن والإنس} ، وقوله عليه الصلاة والسلام:"نحن معاشر الأنبياء"، أي: لم يبق فرد من أفراد الجن وما يفرض منهم إلا وقد شمله النداء، ويكون الواقع محصورا غير عام، ومتعلق النداء من حيث العموم غير متناه، وكذلك الحديث النبوي معناه: أن كل من فرض نبيت فإنه لا يورث، والواقع الموصوف بالنبوة محصور، والمفروض وما يمكن أن يفرض نبيًا

ص: 15

غير محصور، فهذا هو طريق الجمع بين العموم والواقع.

وكأن/ معشرًا مشتق من العشير من قولنا: عشيرة فلان، بمعنى: قبيلته ورهطه، والتي تجمع على عثائر، وهذا المشتق مخالف في الوزن لعشيرة، فيجمع على معاشر، وهو بمعنى جميع، فلما كان "كل" و "أجمع" و"جمع" و"جميع" للعموم، كان "معشر" كذلك، غير أنه من هذا القسم؛ لأنه من صيغ التأكيد.

وكذلك يظهر لك أن "أجمعون" و"أكتعون" و"أبصعون" وجميع أقسامها للعموم، بسبب أن هذه الصيغ يؤكد بها العموم كما يؤكد بـ "كل"، وشأن التأكيد أن يكون مقويا لحكم الأصل، ولما كان الأصل للعموم، تكون هذه أيضًا للعموم مثل "كل" حرفًا بحرف.

فإن قلت: إن لفظ "كل" يستعمل في العموم بطريق الأصالة، فتقول: كل عشر زوج، وكل إنسان حيوان، يشمل ذلك ما لا يتناهى من أفراد المذكور. وأما "أجمعون" و"أكتعون" فلا يستعمل ابتداء للعموم، فإن "أجمع" و"أكتع" في لسان العرب لا يتقدمان على كل، ولا ينفردان، فلا تقول: جاء القوم أكتعون كلهم، ولا أكتعون، من غير لفظ كل، بل لا يقعان إلا تبعا للفظ "كل"، وحينئذ يتعين أن العرب لم تضعها للعموم، بل تسوية وتقوية (للشيء

ص: 16

بغيره)، بخلاف "كل" فإنها لما كانت تنفرد بالعموم كانت موضوعة له.

قلت: سؤال حسن، غير أني لا أدعي أنها موضوعة للعموم، بحيث يستعمل ابتداء في العموم وحدها نحو "كل"، بل أدعي أنها تشعر بإحاطة الحكم بما لا يتناهى على وجه التقوية والتأكيد.

والموضوع للعموم أعم من الموضوع له على وجه ينفرد بالدلالة عليه أو يكون مضموما إلى غيره، فهذه موضوعة للعموم مع وصف انضمامها لغيرها، وأنها تفيده وتدل عليه في حال التقوية له، لا في حالة الانفراد به وإذا أفادته ودلت عليه في حالة مخصوصة، فقد دلت عليه لوجوب صدق الأعم عند صدق الأخص، ولو لم تكن دالة عليه ومفيدة له حالة التقوية، لكانت أجنبية منه، وحينئذ تكون كلفظ آخر من جنس آخر ذكر بعد صيغة العموم، ومثل ذلك لا يقوى العموم ولا يؤكده قطعا، وإنما يؤكده إذا كانت فائدته غير فائدة الأول، غير أنها في ثاني رتبه وبعد لفظ متقدم، وذلك غير قادح في قولنا: إنه أشعر بما أشعر به الأول من العموم.

وهذه مضايق/ في صيغ العموم قل أن ينتبه لها، وظهر أن صيغ التأكيد كلها للعموم، وإذا كانت كلها، فقد تؤكد الجزئيات المنحصرة المشخصة.

وكذلك "نفسه" و"عينه"، وجميع ما تقدم ذكره هناك، يجري

ص: 17

الحكم فيه حكم "كل" و"أجمع" و"أكتع" و"أبصع"، وهو المطلوب.

***

ص: 18

القسم الثالث من صيغ العموم

الصيغ المحلاة بلام التعريف

وهي نحو ثلاثين صيغة من أسماء الأجناس، معرفة بلام التعريف، إفرادا وتثنية وجمعًا، والمواصلات مع اللام نحو: الذي والتي، إفرادا وتثنية وجمعًا، وتذكيرًا وتأنيثًا، وقد تقدمت مفصلة بأقسامها ولغاتها.

ونصوص الأصوليين متضافرة على أن المعرف بلام التعريف للعموم، غير أنهم لهم يتعرضوا لاستيعاب أقسامها، وكل ما ذكروه في بعض الأقسام موجود في بقبتها، وقد تقدم في الفصل الأول الأدلة على أن المعرف بلام التعريف للعموم مطلقا في المفرد والجمع، وحكاية الخلاف فيهما، والموصولات، كذلك عند المعممة إجماعا منهم.

غير أن النحاة اختلفوا في سبب تعريف الموصول، هل هو التعريف أو صلته؟

حجة الأول: انعقاد الإجماع على أن لام التعريف معرفة، وهي موجودة في الموصولات، والأصل إذا وجد المقتضى للتعريف لن يوجد أثره، وقد

ص: 19

وجد، فيكون الأثر الحاصل هناك مضافا إليه، وإلا لزم النقض، وهو خلاف الأصل.

حجة الثاني: أن لام التعريف في الموصولات صارت لازمة (لا) تجرد الموصولات منها، فصارت كالجزء منها، وجزء الكلمة لا يعرفها، بل معرفها صلاتها.

ولذلك تضافرت النصوص على أن من شرط اللصة أن تكون معلومة للسامع، وأنه لا تجوز الصلة لجملة مجهولة للسامع، فلا تقول: مررت بالذي أبوه مسافر، والسامع لا يعلم ذلك، وإذا اشترطوا في الصلة أن تكون معلومة، دل ذلك على أنها سبب التعريف؛ لأنه فائدة علم السامع بها، حتى يعرف الموصول بصلته.

وعلى كل تقدير تكون الموصولات من صيغ العموم، إما أنه لا قائل بالفرق، وإما لوجود/ لام التعريف المقتضية للعموم، وإما لأن تلك الأدلة المذكورة في اسم الجنس المعرف بلام التعريف موجودة فيها، وعلى كل تقدير يحصل المطلوب.

* * *

ص: 20

القسم الرابع من صيغ العموم

صيغ النفي

وهي نحو ثمان صيغ: النكرة مع "لا" مثبتة ومرفوعة، والنكرة منفية بغير "لا"، نحو: ليس في الدار أحد، والفعل المتعدي في سياق النفي، والفعل مطلقا، متعديًا كان أو قاصرًا و"لن" و"لا" و"لم"، و"ألما"، فهذه السبع صيغ كلها تفيد العموم.

وبيانه: أن النصوص متظافرة على أن النكرة المثبتة مع "لا" للعموم، وأن النكرة العامة أيضًا للعموم، مع غير "لا"، نحو: ما جاءني أحد، ولا رجل في الدار، وأن الفعل كان متعديا له مفاعيل، أنه يعم مفاعليه، خلافًا لأبي حنيفة.

والفعل في سياق النفي مطلقًا يعن نحو: {لا يموت فيها ولا

ص: 21

يحيى}، وقد تقدمت الأدلة على أنها للعموم مع نقل النصوص.

وأما النكرة المرفوعة مع "لا" نحو: لا رجل في الدار، برفع رجل، فقد نصوا على أنه لا يعم الرجال، وأنك تقول: لا رجل في الدار بل اثنان، نص على ذلك ابن السيد البطليوسي في شرح الجمل، وغيره من النحاة. ومع ذلك فهو للعموم من وجه آخر؛ لأنهم نصوا على أنه نفي للرجل بوصف الوحدة، ومقتضاه أن لا يوجد رجل وحده ألبتة، بل إن وجد في الدار فمع غيره، وهذا حكم يعم جميع الرجال، بحيث لا يبقى رجل إلا وقد أقتضى هذا اللفظ في حقه أن لا يوجد وحده، فقد عم هذا الحكم جميع الرجال.

ومتى وجد حكم عم ما لا يتناهى مدلول عليه بلفظ، كان ذلك اللفظ للعموم جزما؛ لأنا لا نعني بصيغ العموم إلا لفظًا دالًا على ثبوت حكم أفراد غير متناهية، وهذا كذلك، فتكون للعموم من هذا الوجه، وإن لم تكن للعموم من جهة نفي جميع الرجال من الدار، كما هو في قولنا: لا رجل ي الدار، مع البناء، فإنه نفي لجميع الرجال، أما هذا المرفوع فلا يقتضي ذلك، بل يقتضي بمفهومه أن في الدار بعض الرجال، لا بوصف الوحدة، وهو إنما يقتضي العموم من الوجه المتقدم، وإذا اقتضى العموم من وجه، كان للعموم، فإن اقتضاء الصيغة للعموم أعم من اقتضائها/ له من وجهين، فالوجه الواحد كافٍ، وهو المطلوب.

وأما النكرة المنفية بغير "لا" نحو: ما جاء أحد، وليس في الدار أحد،

ص: 22

ونحوهما فقد تقدم ما فيها من الاستثناء والتلخيص وإقامة الأدلة على أنها للعموم.

وأما "لن" و "لا" فإنهما لعموم نفي الفعل في المستقبل، كقوله تعالى:{لا يموت فيها ولا يحيى} ، يقتضي ذلك نفي هذين الفعلين في جميع الأزمنة المستقبلة، ونقل عن سيبويه أنه قال: إنها للعموم، وأن "لن" أبلغ في النفي من "لا" في عموم النفي.

ثم الأدلة المذكورة فيما تقدم على أن الصيغ المنصوصة للعموم، متجه فيها من صحة الاستثناء من الأزمنة المستقبلة، والسبق إلى الفهم، وحسن الثناء على الموافق لها في التعميم، وحسن الذم للمخالف لها، فتقول: لن تزورنا، تريد إلا في يوم الجمعة، وأسافر إلا في الربيع، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب اندراجه في ذلك الحكم، وإذا قال العبد لسيده: لن أخالفك أو لا أخالفك، يفعل ذلك دائمًا، حسن مدحه، وإن خالفه في بعض الأوقات حسن ذمه، وعتب على خلاف ذلك الوعد، وليس ذلك لأجل حق السيادة فقط، بل لو قال ذلك القول أجنبي لأجنبي اتجه ذلك فيه، وهو دليل على أن الذم مضافان للفظ موافقة ومخالفة.

وأما السبق إلى الفهم، فلأنا نجد السابق إلى الفهم من هذه الصيغ

ص: 23

استغراق الأزمنة المستقبلة بنفي ذلك الفعل أبدًا، وإذا كان ذلك هو إلى الفهم كان اللفظ فيه حقيقة؛ لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، وذلك هو المطلوب.

فهذه الوجه الأربعة هي الأدلة المطردة في الدلالة على أن الصيغ للعموم، وهو موجود في هذه الصيغ، فتكون للعموم.

وأما "لما" و"ألما"، فإنهما للعموم في الماضي، كما أن "لا" و"لن" للعموم في المستقبل، غير أنهما مقيدان بقيد، قال النحاة:"لما" جواب لفعل معه قد، ونفي الفعل من زمان ذكر إلى زمان المتكلم، و"لم" تنفي الفعل لزمان ذكر فقط، ولا يشترط أن يكون معه قد، فمن قال: قام زيد أول السنة، وأردت مخالفته في ذلك، قلت: لم يقم زيد، فيكون النفي خاصًا بأول السنة، ولم يتعرض/ بالنفي لما بعد ذلك، وإذا قال: قد قام زيد أول السنة، فقلت: لما يقم زيد، فهي نفي للفعل من أول السنة إلى الزمان التكلم، فالنفي يعم ويشمل ما بينك وبين الزمان الذي نسبت إليه الفعل، وكذلك "ألما".

فـ "لم" لها أربع صور: لم مجردة، بالهمزة من أولها نحو: ألم يقم زيد، و"ما" من أخرها نحو: لما يقم زيد، فيدغم الميم في الميم فتصير "لما"، والهمزة من أولها، و"ما" من آخرها نحو: ألما يقم زيد، فاثنان من

ص: 24

هذه الأربعة للعموم وهما: "لما"، و"ألما"، واثنان ليسا للعموم وهما:"لم" و"ألم"، فإنهما لنفي جزئي، لا عموم فيه، فلذلك لم أذكرهما في صيغ العموم.

وكذلك "ما" و"ليس" هما لنفي الحال، فهو نفي جزئي، لا عموم فيه، كما أن "لا" و"لن" لنفي المستقبل، و"لم" و"لما" لنفي الماضي، فلكل زمان اثنان، فليس فيهما العموم إلا ما تقدم ذكره، وقد وضح ذلك بما ذكرته.

فإن قلت: النفي الواقع مع "لما" و"ألما" محصور بين حاصرين، فهو جزئي كالنفي الواقع بـ "ليس" و"ما" اللتين ساعدت على أنهما ليس للعموم، فلا يكونان للعموم؛ لأنك قد قدمت أن من شرط العموم أن يكون مدلوله غير متناه، وغير محصور، وهذا محصور فلا يكون للعموم.

قلت: الفرق أن زمن الحال فرد معين، لا يقبل العدد ألبتة؛ لأنه لو اجتمع فيه فردان لكان أحدهما ماضيًا إن كان قبل، أو مستقبلًا إن كان بعد، فلا يكون الحاضر حاضرًا هذا خلف، فالحاضر حينئذ يستحيل فيه العدد، وتجب فيه الوحدة المطلقة.

وأما من زمان ذكر فيه الفعل ونسب إلى زمان التكلم، فهو فيه عدد قطعا، قابل لأن يكون ألف سنة، وعشرة آلاف سنة، وغير ذلك من مراتب الأعداد، حتى يمكن أن يندرج فيه الأول الذي هو غير متناه في قول القائل: قد خلق الله المستحيل في الأزل، فيقول الراد عليه: لما يخلق الله المستحيل، ففي هذه الصورة حصل من الأفراد ما لا يتناهي بالفعل، وفي بعضها م يحصل، كما تقدم في مثال السنة، وحينئذ تكون موضوعة لاستغراق النفي من زمن الذكر إلى زمن التكلم كيف كان، ثم يتفق أن الواقع من ذلك العموم في بعض

ص: 25

الصور محصورًا، وقد تقدم ذلك مرارًا أن الحصر في الواقع لا يمنع أن الصيغة للعموم، كقوله تعالى:{فاقتلوا المشركين} / ولا يوجد إلا واحد أو عدد محصور، وتقول: من في الدار؟ ولا يوجد فيها إلا واحد، وتقول: قبضت درهمك كله، والدرهم محصور مشخص، مع أن "كل" موضوعة للعموم، (وهي من أقوى صيغ العموم) عند القائلين بالعموم، ومع ذلك وجودها في جزء محصور لا يقدح في كونها موضوعة للعموم؛ لأنها تصدق في العموم حقيقة إذا استعملت فيه، كذلك:"لما" تصدق حقيقة في العموم إذا استعملت فيه، كما في مثال الأزل، فلا يقدح فيها وجودها في بعض الصور في جزئي محصور، أما الحال فلا يتيسر فيه شيء من ذلك، بل يجب له الإيجاد وامتناع التعدد دائمًا.

فتأمل هذه الفروق، وهذه المباحث، فهي تولد عندك معرفة العموم وتمييزه عن الخصوص، فتمييز العموم عن الخصوص قل من رأيته تحققه من الفضلاء، فقد اتجه أن ما ذكرته من صيغ للعموم، وهو المطلوب.

* * *

ص: 26

القسم الخامس من صيغ العموم

صيغ الشرط

وهي نحو عشرين صيغة: النكرة في الشرط، كقوله تعالى:{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} .

والاسم الموصول، إذا كانت الصلة فعلا أو ظرفًا كقوله تعالى:{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم} .

والنكرة الموصوفة، إذا كانت الصفة فعلا أو ظرفا، نحو قولك" أي رجل يأتيني فله \رهم، أو: كل رجل في الدار فله درهم، والعموم وإن كان حاصلا من لفظ "أي" أو "كل" أو الموصول، غير أنه حاصل أيضًا مما انضم إلى هذه الصيغ من الشرط، و"ما" نحو: ما تصنع أصنعـ و"ما" إذا لحقتها "ما" المزيدة نحو: مهما وأصلها ماما، قلبت الألف الأولى هاء، فقلت: مهما و"من" نحو: من يأتيني به فله درهم، و"أي" نحو: أي شيء تصنع أصنع، و"حيث" بلغاتها الستة، وقد تقدمت في باب سرد صيغ العموم، نحو: حيثما تجلس أجلس، و"كيفما"، نحو: كيفما تفعل أفعل مثله، و"متى ما"،

ص: 27

نحو: متى ما سافر أسافر معك. و"إذا" الشرطية، نحو: إذا جئتني أكرمتك، و"إذما" وهي "إذا" اتصل بها "ما"، فلا تكون للشرط إلا إذا اتصل بها "ما"، بخلاف "إذا" تكون شرطًا وحدها كقول الشاعر:

/إذ ما أتيت (إلى) الرسول فقل له .... حق عليك إذا اطمئن المجلس

فهذه الصيغ كلها للعموم، فمنها ما تظافرت فيه نصوص العلماء وهو:"من"، و"ما"، و"مهما"، و"حيثما"، و"أينما"، والنكرة في سياق الشرط، و"أي"، فهذه نص العلماء على أنها للعموم، واستدلوا على ذلك بأمور، منها: صحة الاستثناء، والسبق إلى الفهم، والثناء على الممتثل، وذم المخالف، إذا قال: من دخل داري فله درهم، فأعطى كل من دخل الدار، استحق المدح، وامتنع الاعتراض عله، وإن حرم بعض الداخلين، استحق العتب، وكذلك في بقية النظائر.

إذا تقرر ما وقع في النصوص، فنقول: هو بعينه موجود في بقية هذه الصيغ، وكذلك أنك إذا قلت: كيفما تصنع أصنع، فقد عممت حكم ربط صنيعك بصنيعه في جميع الصور، هذا هو المتبارد لفهم السامع، ويحسن الاستثناء، فتقول: إلا في صورة كذا (وإلا في يوم كذا).

وكذلك العموم حاصل في "إذا أيضًا، فإذا قلت: إذا جئتني أكرمتك، فقد

ص: 28

ربطت إكرامك بمجيئه في جميع الأزمنة، حتى أنه لو جاءك في زمان ولم تكرمه استحقيت العتب، ولك أن نستثني أي زمان شئت من اللفظ، فتقول: إلا بالليل، وإلا إذا كنت معتكفًا، ونحو ذلك. فالعموم حصل من شمول الشرط بين الفعل في جميع الأزمنة إذا قلت:"إذا" وكذلك إذا قلت "إذما"، وحصل العموم في "كيفما" بين الشبهين الواقعين في الفعلين، في جميع صور الأفعال، ولم يتعرض للأزمان، بخلاف "إذا"، و"إذ ما"، فإن الربط وقع فيه باعتبار الأزمنة والفعال، وشمول الربط لما لا يتناهى هو سر العموم في جميع هذه الصيغ فتأمله تجده فيها كلها.

وإذا وجدت شمول الربط بجميع الأشباه كما في "كيفما"، أو الأزمان كما في "إذا ما"، فقد حصل لك أنها كلها موضوعة للعموم، لأنا لا نعني بالعموم إلا لفظا يقتضي شمول حكم لما لا يتناهى.

فإن قلت: ذلك موجود بعينه في "إن" وفي "إذا" لم تكن شرطًا، بل ظرفًا محضًا نحو قوله تعالى: /} والليل إذا يغشى}، وأنت لم تذكرهما من صيغ العموم.

وينقض ما ذكرته أيضًا، بأن القائل إذا قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار مرة واحدة، طلقت طلقة واحدة، فإذا دخلت بعد ذلك، لم تطلق، ولو كانت الصيغة للعموم لتكرار الطلاق بتكرر الدخول، وهو خلاف

ص: 29

الإجماع، فدل ذلك على أنها مطلقة قل "إذا".

وكذلك إذا قال: متى ما، أو: متى دخلت الدار فأنت طالق، أو: حيث وجدتك فأنت طالق، أو: أين وجدتك فأنت طالق، فإن الطلاق في جميع هذه الصور لا يتكرر، وذلك يقتضي أن هذه الصيغ كلها ليست للعموم.

قلت: هذه أسئلة مشكلة صعبة، يحتاج الجواب عنها إلى نظر دقيق، وقواعد عربية.

فنقول: التعاليق أربعة أقسام من حيث القسمة العقلية: تعليق مطلق على مطلق، وتعليق عام على عام، وتعليق مطلق على عام، وتعليق عام على مطلق.

مثال المطلق على مطلق قولك: إن جئتني أكرمتك، على مطلق الإكرام على مطلق المجيء.

ومثال العام على العام قول العرب: كلما جئتني أكرمتك، وكلما دخلت الدار فأنت طالق، التزم تكرر الإكرام بتكرر المجيء، وتكرر الطلاق بتكرر الدخول، فكل فرد من أفراد الدخول ربط به فرد من أفراد الطلاق، ولم تجعل العرب "متى ما" مثل "كلما"، بل سوت بين "متى" و"متى ما"، وفرقت بين "كل" و"كلما"، فإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق، مقتضى هذه الصيغة لغة أن يلزمه طلقة واحدة في كل امرأة يتزوجها، ولا يتكرر عليه الطلاق فيها، وإذا قال: كلما تزوجت فالمرأة التي أتزوجها طالق، تكرر عليه الطلاق بتكرر الزواج، فهي للعموم في الأفعال والطلاق والنساء، بخلاف "كل" للعموم في النساء فقط، دون الأفعال والطلاق.

ومثال المطلق على العموم قولهم: متى دخلت الدار فأنت طالق، أو حيث

ص: 30

وجدتك، أو أين وجدتك فأنت طالق/، التزم الطلاق في جميع الأزمنة والبقاع، كما لو قال: التزمت طلقة واحدة في كل زمان يحصل الدخول فيه، فالمظروف واحد، والظروف متعددة، فالعموم فيها حاصل، بسبب أن كل زمان أو كل مكان عمه حكم كونه ظرفا لتلك الطلقة، فهذا الحكم شامل لجميع الأزمنة والبقاع على سبيل الجمع لا على سبيل الصلاحية، وهو معنى قولنا: تعليق مطلق على عام.

وأما القسم الرابع وهو تعليق العام على المطلق: فكقولنا: إن دخلت الدار فأنت طالق كل طلقة يمكن وقوعها، أو: فلك كل مال لي، فقد التزم عموم المال وعموم الطلاق بمجرد دخلة واحدة.

إذا تقررت هذه الأقسام الأربعة، ظهر الجواب عن سبب أن الربط إنما حصل فيها بين مطلق ومطلق، فلذلك لم يحصل فيها تكرر طلاق، ولم تكن من صيغة العموم.

ويظهر لك بسبب تقرير هذه القاعدة وجه الجمع بين قول العلماء إن: "حيث" و"أين" و"متى" للعموم، وبين قولهم: إنه لا يتكرر الطلاق بتكرر المعلق عليه، بسبب أنه تعليق مطلق على عام، فلم يتناقض النقلان، بخلاف إذا لم تفهم هذه القاعدة، تقول: كيف يقولون هذه الصيغ للعموم، مع أنهم لم يكرروا الطلاق، وهذا هو شأن الإطلاق، ولا يفهم الفرق بين العموم والمطلق إلا بالتكرار، فإذا قال الله تعالى:{فتحرير رقبة} ، لا يتكرر، وإذا قال:{فاقتلوا المشركين} يتكرر القتل دائمًا، وذلك يقتضي العموم، فلو أنا

ص: 31

قتلنا مشركًا واحدًا ثم وجدنا آخر لم يجب قتله، لأشكل فهم العموم غاية الإشكال، كذلك ها هنا إذا لم يتكرر الطلاق يشكل قولهم بأن هذه الصيغ للعموم.

أما إذا فهمت هذه القاعدة، اتجه لك وجه الجمع بين قولهم بالعموم، وبين قولهم: الطلاق لا يتكرر، بأن يحمل الكلامين على أنه من باب تعليق المطلق على العام، كما لو صرح وقال: التزمت طلقة واحدة، لا يتكرر في جميع الأزمنة، أو في جميع البقاع، فلا خفاء حينئذ أن العموم حاصل من صيغة "كل" و"جميع"، ومع ذلك لا يتكرر الطلاق عليه؛ لأنه صدر بعدم/ التكرار، والتزام مطلق الطلاق فقط من غير تكرر.

فإن قلت: ما مدركهم في قولهم: إن هذه الصيغ للعموم، ولم يجوزوا أن تكون مطلقة مثل "إن" وليس معنا من تكرر الطلاق ما يضطرهم إلى ذلك؟

قلت: مدركهم في ذلك فهمهم عن العرب في موارد الاستعمال العموم هو مدركهم، وهو المدرك في جميع اللغات، فمهما فهم معنى عند إدراك لفظ، قيل: هو مسمى ذلك اللفظ، وهم أمناء فيما يقولون عن فهمهم وحجة في ذلك، فهذا أمر وجداني، يعتمد فيه على الثقة بالناقل ليس إلا، مضافًا إلى صحة الاستثناء، وغير ذلك من الأدلة المذكورة في العموم، فلما تقرر ذلك عندهم في موارد الاستعمال، اعتقدوا العموم في هذه الصيغ، ونحن نقلدهم فيما فهموه ونقلوه، كما نقلدهم في جميع الأوضاع اللغوية.

وأما الفرق بين "إذا" الشرطية و"إن"، فهو أن "إذا" الشرطية تدل على

ص: 32

زمان مبهم، وظرف غير معين، مثل:"متى" و"أين" يدلان على ظرف غير معين، وفيهما تعليق أمر على أمر، وتوقيف دخوله في الوجود على دخول أمر آخر مثل:"متى" و"أين" حرفا بحرف، ولي بينهما ألبتة فرق، فكما كان "متى" و"أين" للعموم، تكون "إذا" أيضًا" للعموم إذا كانت شرطًا، وليس ذلك من باب القياس في اللغة إلا من باب حصول فهم العموم عندها، كما يحصل عندها؛ لأجل حصول المساواة المطلقة، والفهم في موارد الاستعمال، وهو مدرك اللغات للعلماء أجمع، في أن الصيغة للعموم، والأمر للوجوب، والنهي للترك، وغير ذلك من الأوضاع اللغوية. ولما حصل الفهم ها هنا للعموم، والأمر للوجوب، والنهي للترك، وغير ذلك من الأوضاع اللغوية. ولما حصل الفهم ها هنا للعموم، لأجل المساواة المطلقة، وجب اعتقاد أنها للعموم.

وأما "إن" فليس فيها إلا مجرد التعليق من غير ظرف، ومطلق التعليق أعم من التعليق على العموم أو المطلق، وليست مساوية لشيء من صيغ العموم، حتى يلزم أنها للعموم، ولم نجد مطلق الربط في صورة من الصور للعموم، فلذلك لم نعتقد أن لفظ "إن" للعموم، ولأن لفظ "إذا" الشرطية قال النحاة: العامل فيها هو لفظ الجواب، لا لفظ الشرط، فذا/ قلت: إذا جئتني أكرمتك، (فأكرمتك عامل في إذا)، لا جئتني. قالوا: بسبب أن

ص: 33

"إذا" ظرف، والظرف شأنه أن يضاف لما بعده، ولفظ جئتني مضاف إليه، والمضاف ليه معمول المضاف، فإن المضاف يخصصه، فلا يعمل فيه المضاف إليه، لئلا يعمل كل واحد منهما في صاحبه، فيلزم الدور، فإن العامل له رتبة التقدم على العموم، فلو كان معموله عاملًا فيه، لزم تقدم كل واحد منهما على الآخر، وهو الدور، وإذا تعذر فعل الشرط في هذا الظرف، تعين أن يعمل فيه فعل الجواب، هذا هو المشهور.

ومنهم من يجوز عمل فعل الشرط فيه؛ لأن العامل في الظرف شرطه أن يكون واقعًا فيه، وكلًا اللفظين واقع في هذا الطرف، فأوجب صحة عمل فيه، لوجود شرط صحة العمل.

وتصريحهم بالإضافة يقتضي أن المعنى: قد التزمت إكرامك في زمن مجئيك إلي، وزمن المجئ اسم جنس أضيف، واسم الجنس إذا أضيف يعم لقوله عليه الصلاة والسلام:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" فيعم جميع أفراد الماء وأفراد الميتة، وكذلك ها هنا يحصل العموم في هذا الظرف المضاف، فيكون الحكم بظرفيته شاملًا لكل أفراد زمن المجئ، وهو المراد بالعموم.

وأما "إن" فليس فيها لفظ إضافة حتى يثبت العموم لأجلها، فهذا وجه آخر في الدلالة والفرق.

ص: 34

وأما "إذا" لم يكن شرطًا بل ظرفًا محضًا كقوله: آتيك إذا احمر البسر، وإذا قدم الحاج، فليست مساوية لـ "متى" و "أين" في الظرفية والتعليق، لانخرام أحدهما وهو التعليق، وإذا انتفت المساواة تردد الفعل ووقف عن التسوية في الحكم.

فإن قلت: ما قدمته من إضافة اسم الزمن واقتضائه للعموم موجود هاهنا، فهو نقض على ذلك الدليل، والأصل عدم النقض، فإن الظروف كلها مضافة لما بعدها بإجماع النحاة، كانت شرطًا أم لا، واسم الجنس إذا أضيف يعم ما تقدم.

قلت: الإضافة موجودة، غير أن الجزئي قد يضاف، كقولنا: عبدي حر، وامرأته طالق، ودرهمه/ زائف، ونحو ذلك. وقد تضاف الحقيقة الكلية من حيث هي هي، فيحصل العموم في الثاني دون الأول، والعلم بأن المضاف جزئي أو كلي يرجع إلى فهم السامع في موارد الاستعمال، فلا يهم أحد في تلك المثل من العبد والزوجة إلا الجزئي، ولا يفهم أحد من قوله صلى الله عليه وسلم في المياه والميتة إلا العموم، وأن المضاف الماهية الكلية، دون القصد إلى جزئي.

ولو قيل: ما الدليل على ذلك، لعجزنا عن إقامته، لسبب أن الوجدانيات يتعذر إقامة الدليل عليها، فلا يقدر أحد أن يقيم دليلا على أنه مغتم أو مسرور أو جائع، ونحو ذلك، وقد قال العلماء: أربعة لا يقام فيها الدليل، ولا يقال فيها: لم؟ ولا يطالب فيها بدليل: الحدود،

ص: 35

والإجماع، والعوائد، وأحوال النفوس، فهذه منها، وهي حالة يجدها الإنسان في نفسه، فهو مؤتمن عليها، إن كان ممن يقلد في ذلك.

إذا تقرر هذا، فالمفهوم من قولنا: آتيك إذا احمر البسر، أو قدم الحاج، والمراد زمن جزئي خاص بتلك النسبة، ولا نجد في أنفسنا من مجرد هذا القول أن جميع أزمنة احمرار البسر وقدوم الحاج إلى يوم القيامة، فقد يعرض هذا المتكلم لها، بل هو مشير إلى مقدم سنته، واحمرار بسر سنته تلك، هذا هو المفهوم في عرف الاستعمال، وقد تحفه قرائن تقتضي خلاف ذلك، كما أنه قد تحتف قرائن في "إذا" الشرطية، تقتضي التخصيص بفرد واحد من أمنة ذلك الفعل، كقوله: إذا جئتني بعبدي الآبق فلك دينار، إنما يتناول زمنا فردا، لقرينة أن الإتيان بالعبد لا يتكرر.

فإن قلت: قوله تعالى: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} ظرف محض، لا شرط فيه، وهو في موضع نصب على الحال، تقديره: أقسم بالليل في حالة غشيانه، وبالنهار في حالة تجليه، أو في زمن تجليه؛ لأن هاتين الحالتين هما أعظم أحوال الليل والنهار، والقسم تعظيم، والتعظيم إنما يكون في حالة

ص: 36

عظم المعظم، فقد جعل الله التعظيم في هذه الحالة، لأجل عظمها، فحيث وجدت وجد/ التعظيم فيها، فيحصل العموم.

فلت: القسم إنشاء، وهو الواقع في هذه الحالة، والإنشاء شيء وقع، لا تكرر فيه، والحال ليس من شرطها التكرر، وإذا انتفى التكرر من القسمين، انتفى العموم بطريق الأولى، فقد اندفعت النقوض، وحصلت الأجوبة.

* * *

ص: 37

القسم السادس من صيغ العموم

صيغ الخبر في الثبوت بغير لام ولا ظرف

وهي نحو من اثنين وعشرين صيغة تقدمتها في التأكيد "كل"، و"وكلا"، "وكلتا" فإنها تستعمل خبرًا، نحو: كل القوم مسافر، وكلتا المرأتين منطلق، وخبرها مفرد، قال الله تعالى:{كلتا الجنتين أنت أكلها} ، واسم الجنس إذا أضيف، قال صاحب كتاب الروضة: هو يقتضي العموم، كان مفردًا أو تثنية أو جمعًا، ولفظ "جميع" نحو: جميع القوم منطلق، و"معشر" بمعنى جميع، كقوله تعالى:{يا معشر الجن والإنس} ، وجمعه (معاشر) نحو قوله عليه الصلاة والسلام:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث"، وكأنه مشتق من العشيرة التي هي بمعنى القبيلة، والقبيلة هي للعموم، و"ذو" في لغة طئ، فإنها تكون بمعنى الذي، قال الشاعر:

لا نتحين للعظم ذو أنا عارقه

ص: 38

أي: الذي أنا عارقه، و"ذات" مؤنثة ذو الطائية، و"ذوا" تثنيته، و"ذواتا" تثنيته مؤنثة في الرفع، و"ذواتي" تثنيته في النصب والجر، و"ذوو" جمع ذو الطائية في الرفع، و"ذوي" في النصب والخفض، و"ذوات" بضم التاء، جمع مؤنث في الرفع، و"ذوات" بخفض التاء في النصب والخفض، حكاها كلها ابن عصفور في المقرب.

و"ما الموصولة" نحو: رأيت ما عندك، و"ما الزمانية" نحو: لا واليتك ما طرد الليل والنهار، و"ما المصدرية" إذا وصلت بفعل مستقبل، نحو: يعجبني ما تصنع، ويتقبل الله من المتقين ما يعلمون، وصيغة "أبدًا" في قوله تعالى:{خالدين فيها أبدًا} ، وكذلك "سرمدا"، ودائمًا" "كقولنا: نعيم الجنة سرمدًا ودائمًا، ولفظ "من" بكسر الميم، التي هي حرف جر، في قولك: ما جاءني من رجل، ولفظ "من" بفتح/ الميم، التي هي اسم في قولك: رأيت من عندك ولفظ "قاطبة" في قولك: جاء القوم قاطبة، وكذلك "كافة" في قولك/: جاء الناس كافة، ومن خصائصهما أن لا يكونا إ منصوبين على الحال، ولا يقبلان الإضافة ولا صدر الكلام.

وقد رد على الحريري في قوله: قاطبة الكتاب، ولفظ "سائر"

ص: 39

على رأي الجوهري الذي جعله بمعنى جميع، ووافقه على ذلك بعض المتأخرين، وهو عندهم مأخوذ من سور المدينة بغير همز، الذي معناه المحيط، وعند غيرهم من السؤر، بمعنى البقية، بالهمز، فلا تكون للعموم عند هؤلاء، وهم الجمهور.

فهذه كلها للعموم، فمنها ما تقدم النقل فيه عن العلماء، وإقامة الدليل عليه نحو:"كل"، "واسم الجنس إذا أضيف"، "وجميع"، "وما الموصولة" كقوله تعالى:{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} ، تقدم تقرير العموم فيها، وحديث ابن الزبعري وجوابه، وكذلك تقدم الفصل في "من" التي هي اسم، وأنها من صيغ العموم، غير أنهم خصصوها بالشرط أو الاستفهام، ليحترزوا به من لفظ "من" إذا كانت نكرة موصوفة، فإنها ليست للعموم، نحو: مررت بمن معجب لك، أي: برجل معجب لك، غير أن هذا الشرط وإن نفعهم في إخراج النكرة، ضرهم في إخراج الموصولة، فإنها عندهم للعموم اتفاقًا منهم، وكذلك "ما" الموصولة، خرجت باشتراطهم

ص: 40

فيها الشرط والاستفهام، وهي عندهم للعموم، فكان الصواب لهم أن يقولوا:"من" و"ما" للعموم، إذا لم (تكن) نكرة أو حرفًا، فيندرج جميع الأقسام معهم في العموم، فهذه كلها لا تحتاج لإقامة الدليل على أنها للعموم، لوجود النصوص والأدلة على أنها للعموم، وقد تقدم ذلك في إقامة الدليل على أصل العموم، وحكاية الخلاف فيه.

وأشرع الآن فيما ليس فيه نص لهم، نحو:"معشر"، و"معاشر"، فإنه بمعنى "جميع"، و"جميع" للعموم، فيكون ما في معناه كذلك؛ لأن العموم ليس لذات اللفظة من حيث هي تلك اللفظة، إنما هي باعتبار مسماها كلية، مشتملة على أفراد غير متناهية، فكل لفظ وجدناه كذلك كان للعموم، ولفظ (معشر) كذلك، / كما تقدم من الأدلة على أن تلك الصيغ للعموم، وتيسر تقررها في هذه اللفظة.

وكذلك (ذو) في لغة طيء، مفردًا وتثنيةً وجمعًا ومذكرًا ومؤنثًا؛ لأنه بمعنى "الذي" الموضوع للعموم عند المعممة، فما (كان) بمعناه وجب أن يعتقد أنه للعموم، كما أنا وجدنا لفظا مدلوله مدلول لفظ الحيوان أو الإنسان، قلنا: هو موضوع للحيوان أو الإنسان.

وأما "ما" الزمانية في قولك: لأطيعن الله ما طرد الليل النهار، فلأن المعنى: أطيعن الله في أزمنة طرد الليل النهار، فتكون هذه الأزمنة كلها ظروفًا للطاعة، وهي غير متناهية من حيث دلالة اللفظ، وإن كان الواقع منها دائمًا

ص: 41

متناهٍ، وقد تقدم أنه لا تناقض بين كون لفظ العموم مدلوله غير متناه، والواقع منه متناهٍ، فيكون لفظ (ما) الزمانية للعموم، وهو المطلوب.

وأما المصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل، نحو قولك: يتقبل الله من المتقين ما يعملون، فتقدير الكلام: يتقبل الله تعالى من المتقين عملهم، وهذا عام في جميع أعمالهم المستقبلة، وهي غير محصورة، فتكون للعموم، وكذلك قولك: يعجبني ما تصنع، أي: يعجبني صنيعك، وهذا اسم جنس أضيف، فيعم بالنقل والأدلة المتقدمة، فكذلك ما في معناه، فتكون "ما" المصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل للعموم، وهو المطلوب، أما إذا وصلت بفعل ماضي، نحو قولك: أعجبني ما صنعت، فإنك تشير بلفظك هذا إلى صنيع جزئي خاص وقع في الوجود، وكل ما وقع في الوجود هو متناهٍ، ومدلول العموم غير محصور ولا متناهٍ، فلذلك اشترطت في صلتها أن تكون بفعل مستقبل، ليكون المشار إليه غير محصور وغير متناهٍ، وباعتبار دلالة اللفظ، وأن الواقع منه دائم محصور، وقد تقدم أن ذلك لا يضر ولا يقدح في أن الصيغة للعموم.

وأما بقية أقسام "ما"، نحو:"الكافة"، و"المهيئة"، و"النافية"،

ص: 42

و"ما" حرف من الحروف، فلم أجد فيه شيئًا مدلوله مدلول العموم، حتى أقول هو للعموم، وكذلك/ "التعجبية" في قولك: ما أحسن زيدًا، فإنها تكون نكرة، معناها شيء عند الجمهور، وتقدير الكلام: شيء حسن زيدًا، والنكرة في سياق الإثبات لا تصلح للعموم، فلا تكون "ما" التعجبية للعموم، أما من جعلها بمعنى الذي موصولة، فهي عندهم يلزم أن تكون للعموم؛ لأن "الذي" هو للعموم، فكل لفظ يكون معناه معنى لفظ العموم هو للعموم، لكن هذا المذهب عندهم رديء، بسبب أنها إذا كانت موصولة كان ما بعدها صلتها، والصلة مع الموصول كلمة واحدة، والكلمة الواحدة لا تستغل كلامًا يحسن السكوت عليه (لكن هذه يحسن السكوت عليها) فلا تكون موصولة، فيحسن السكوت على قولنا: ما أحسن زيدًا، من غير حاجة إلى زيادة، فلذلك هي نكرة مبتدأ، وما بعدها خبرها، فيحسن السكوت على المبتدأ والخبر.

فالذي يصلح للعموم من أقسام "ما": "الموصولة"، و"الزمانية"، و"المصدرية" إذا وصلت بمستقبل، و"الشرطية" بأقسامها، (والاستفهامية بأقسامها)، وما عدا ذلك لا يصلح للعموم؛ لأنه ليس فيها شيء وضع لما وضع له من لفظ العموم.

وأما صيغة "أبدا"، فإنها موضوعة للعموم، بسبب أنها موضوعة لاستغراق الفعل المذكور معها الأزمنة المستقبلة، كقوله تعالى:{خالدين فيها أبدا} فالخلود يشمل جميع الأزمنة المستقبلة، فتكون صيغة "أبدا". موضوعة للعموم

ص: 43

في الأزمنة المستقبلة، وهو المطلوب.

وقد بالغ بعض العلماء فقال: إن الفعل المذكور بلفظ "أبدًا"، لا ينسخه، نحو قوله: افعلوا هذا أبدًا، ورأى أن قوة استغراقه يمنع من النسخ.

وردوا عليه: بأن لفظ "أبدًا" من صيغ العموم في الأزمان، والعموم ظاهر من الظواهر، والنسخ جائز على النصوص، فضلا عن الظواهر.

وكذلك لفظ "سرمدًا" و"دائمًا" وإن كانا نكرتين يقتضيان استغراق الأزمنة المستقبلة، فيكونان للعموم فيها، كقوله: افعل هذا أبدًا أو سرمدًا، معناه: في جميع الأزمنة المستقبلة، وهذا هو معنى العموم.

وأما "من" بكسر الميم -التي هي حرف جر- فإنها للعموم، لأجل أنها

ص: 44

موجب العموم، وتدل عليه في قوله: ما جاءني من رجل، وأنك لو حذفت "من" لم يكن/ اللفظ للعموم، كما تقدم النقل فيه عن الجرجاني وغيره، وأن العموم إنما يحصل بسببها، فتكون مع النكرة في النفي كـ "لام" التعريف والإضافة مع النكرة، فكما تقول: النكرة المعرفة (للعموم، تقول: النكرة) مع "من" للعموم، وتكون "من" أحد موجبات العموم، كما تقدم بيانه.

وأما لفظ "قاطبة" فإنها وإن كانت لا تستعمل إلا حالًا مؤكدة لما قبلها، فإنها تدل على الشمول لغة، في جميع ما تقدم، في قولك: جاء الناس قاطبة، فمعنى قاطبة: أي لم يبق منهم أحد، وهي تؤكد العموم كما يؤكده لفظ "كل"، والمؤكد للشيء يقتضي أن يطابقه في معناه، فلا يؤكد العموم إلا ما كان للعموم، فلفظ قاطبة للعموم.

وكذلك القول في "كافة"، فإنها تؤكد العموم كما تؤكده قاطبة، فتقول: جاءني القوم كافة، فهي تؤكد العموم وتقويه، ومؤكد العموم أولى أن يكون للعموم، قال الله تعالى:{وما أرسلناك إلا كافة للناس} أي: لجميعهم.

وأما لفظ "سائر"، فإذا جعلناه بمعنى جميع الشيء، مأخوذ من سور المدينة، فظاهر أنه للعموم، فإنه حينئذ مرادف لـ "جميع"، وجميع للعموم،

ص: 45

فيكون "سائر" للعموم، لكن المشهور من مذاهب العلماء أنها بمعنى: باقي الشيء، لا جملته، وباقي الشيء لا شمول فيه لذلك الشيء، فلا تكون للعموم على رأي الجمهور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغيلان:"أمسك أربعًا، وفارق سائرهن"، أي باقي النسوة.

فقد اتضح لك إلحاق ما لم ينصوا عليه أنه للعموم (بما نصوا عليه) أنه للعموم وهو المطلوب.

* * *

ص: 46

القسم السابع من صيغ العموم

الظروف

التي هي الجهات الست، وما سردته معها من ظروف الزمان، وجملة من ظروف المكان، وهي نحو أربعين صيغة من ظروف الزمان والمكان، تقدم منها في الشرطيات "أين"، و"متى"، و"حيث" إذا كانت شرطًا، نحو: حيث تجلس أجلس، فإن العموم حاصل فيها، نقله القاضي عبد الوهاب وغيره، أما إذا كانت خبرية، نحو: جلست حيث يجلس زيد، فلا تكون للعموم؛ لأنه مكان جزئي، وظرف معني لا عموم فيه، بخلاف الشرطية، لا تختص بمكان، بل تشمل جميع البقاع/ وهو من باب تعليق المطلق على العام، كما تقدم بسطه في قاعدته في الشرطيات، وتقدم أقسام "حيث" مستوعبة، وتقدم أيضا من الظروف "إذا" الشرطية في الشرطيات، وتقدم أيضا "أينما" و"متى ما" و"حيثما" و"إذ ما"، وبقي ما يختص ذكره بهذا القسم وبيانه وتقرير العموم فيه:"قبل"، و"بعد"، و"فوق"، و"أسفل"، و"يمين"، و"يسار"، و"وراء"، و"قدام"، و"تحت"، و"أمام"، و"خلف"، و"دونك"، و"على"، في قولك: جئت من عليه، أي: من فوقه، وعاليه، كقوله تعالى:{عاليهم ثياب سندس خضر} و"معاليه"، كقولك: جئت من معاليه، ومن معال، أي: من عل، و"علا" بالقصر، لغة في عل، و"علو" بالواو، بمعنى فوق، تقول العرب: جئت من علو، وعلو، حكاها كلها الزمخشري، و"عند"، و"لدي"، و"يمنة"، و"يسرة"، و"صباحا ومساء"،

ص: 47

بالعطف، و"يومًا"، بالعطف، و"عوض"، و"قط".

فهذه ونحوها بأقسامها ولغاتها تدعي أنها كلها للعموم، لقول الله تعالى:{لله الأمر من قبل ومن بعد} يشمل جميع الأزمنة الماضية بلفظ "قبل"، وجميع الأزمنة المستقبلة بلفظ "بعد"، وكذلك إذا قلت: جلست فوق زيد، أو السماء فوق الأرض، يتناول ذلك جميع جهات العلو إلى غير النهاية، فكل شيء يفرض في الجهة العليا -وإن بعد غاية البعد عن الأرض -فإنه يصدق أنه فوق الأرض، وكذلك تحت الأرض، يصدق على ما لا يتناهى من الجهات السفلية، وكذلك إذا قلت: يمين البصرة أو يسار بغداد، فإنه يتناول جهات لا نهاية لها من الجهتين، وهذا هو معنى العموم.

وذلك "وراء"، و"قدام"، يتناول ما لا يتناهى في تلك الجهتين، حتى إنه ما من شيء يفرض في هاتين الجهتين إلا ويصدق عليه أنه وراء زيد وقدامه إلى غير النهاية.

وكذلك "تحت"، و"أمام" و"دونك" هو بمعنى أسفل، وقد صح أن أسفل للعموم، فدونك كذلك، و"عالي"، و"علو" بمعنى فوق، وقد صح أن "فوق" بمعنى العموم، فكذلك ما في معناه.

وكذلك "عند"، تقول: عند زيد مال، وإن فرض في الهند أو الصين أو

ص: 48

غير ذلك من البقاع البعيدة جدًا، فلا غاية لمدلول (عند) من المكان، كما أنه لا غاية لمدلول الجهات الست من الزمان، ومالا غاية له، فهو للعموم قطعًا، وكذا/ إن قلنا: إنها بمعنى عند، فهي للعموم أيضًا، وإن قلنا: إنها تختص بالقريب نحو قوله تعالى: {وألفيا سيدها لدا الباب} ، لا يكون للعموم؛ لأن مفهومها على هذا التقدير محدود محصور فلا يكون للعموم.

وأما "صباحًا مساءً" في قولك: لقيته صباحًا ومساءً، فقال أئمة اللغة: لقيته كل صباح ومساء، وإن العرب تستعمل هذا العطف للعموم، كأنها نبهت بالعطف على أصل الكثرة، ومرادها الكثرة التي لا تتناهى، كما نبهت بالتثنية على أصل الكثرة، ومرادها كثرة غير متناهية في قوله تعالى:{ثم أرجع البصر كرتين} ، أي: أرجعه مرارًا غير متناهية فإنك لا تجد في السماء شقا، وكذلك أهل اللغة.

وأما "عوض"، فهو اسم لجميع الزمان المستقبل، تقول: لا أفعله عوض العائضين ودهر الداهرين، فيشمل جميع الأزمنة المستقبلة، ومسمى المستقبل عوض؛ لأنه يخلف الزمن الحاضر دائمًا، فيذهب الحال والحاضر، ويأتي فرد

ص: 49

من المستقبل عوضه.

تقول: ما فعلته قط، والمراد في جميع الأزمنة الماضية، والأزمنة الماضية غير متناهية، فيكون مدلول "قط" غير متناه، فتكون للعموم، وهو مأخوذ من قولك: قططت القلم، لأن الماضي قد انقطع من المستقبل وانقطع ودخل الوجود، فقد وضح أن الجهات الست ونحوها من الظروف للعموم وأن مسمى الجميع غير متناه وهو المطلوب.

فإن قلت: إن هذه الظروف إنما أفادت العموم لأجل الإضافة، فإنها أسماء أجناس لتلك المفهومات الزمانية والمكانية، وأنها تصدق بفرد واحد من تلك المادة، ولما حصلت الإضافة استوعبت تلك الأفراد، وصارت للعموم -وقد تقدم أن اسم الجنس إذا أضيف عم -فالموجب للعموم الإضافة لا خصوصيات هذه الألفاظ، فلا يكون هذا القسم اسمًا آخر غير ما تقدم من اسم الجنس إذا أضيف، (فتكون عدة) قسمًا آخر -وأن هذه الألفاظ وضعت للعموم -باطلًا.

قلت: لو كان (قبل) لمطلق الزمان المتقدم، ويصدق/ بفرد منه، دون استيعابه، وكان في مسمى هذا اللفظ أفراد، لكانت العرب تثنيه وتجمع

ص: 50

بحسب أفراده، فتقول: قبلان، وقبولك، مثل: فلسان وفلوسك، لما كان فلس اسما لجنس فيه أفراد، فلما امتنعت العرب من تثنية هذه المفهومات وجمعها، دل ذلك على أنها موضوعة لكلية هذه المفهومات، واستيعاب كل فرد منها، لا لمطلق الفرد منها.

وهذا من أعظم البراهين على أن الجهات الست وما معها مما تقدم ذكره ألفاظها صيغ عموم لا خصوص، لسبب أن اللفظ الموضوع للكلية نكرة الأفراد على هذه الصورة، استحال أن يوجد لذلك المسمى ثانيًا، فتعذر تثنيته فضلًا عن جمعه، ولما كانت العرب لا تثني هذه المفهومات ولا تجمعها، دل ذلك على أنها موضوعة للعموم قطعا.

فإن قلت: قد نقل صاحب المقرب وغيره أن العرب لا تجيز تثنية الخمسة ولا الأربعة، فلا تقول: الخمستان ولا الأربعتان، مع أن لفظ الخمسة موضوع لعدد محصور، وكذلك الأربعة، والعدد المحصور مناف للعموم، فينتقض ما ذكرته بهذه الألفاظ.

قلت: الفرق أن المنقول عن العرب، إنما امتنعت من تثنية الخمسة والأربعة، اكتفاء بلفظ العشرة عن تثنية الخمسة، وبلفظ الثمانية عن تثنية الأربعة،

ص: 51

والاختصار والإيجاز شأن العرب، فلذلك امتنع ذلك في تلك الألفاظ، أما هاهنا فليس لنا لفظ آخر يقوم مقام التثنية والجمع، فإن كان اللفظ إنما هو موضوع لجنس تحته أفراد، ومثل هذا قاعدة العرب فيه صحة التثنية والجمع، فمنع هذه القاعدة ومنع الحكم مع وجود المقتضي خلاف الأصل، فدل ذلك على أن المانع كون الصيغة للعموم، وأنها إذا كانت كذلك استحال فيها التثنية والجمع، وعلى هذا لم تنتقض القاعدة، وهو الحق الواضح.

ويؤكد هذا التقدير أنا إذا سمعنا (قبل) ونحوه من الظروف، إنما يفهم سبقًا غير متناه، غير/ أنا نتوقف في أن هذا السبق باعتبار أي شيء؟ فإذا قلنا: قبل زيد، أو غير ذلك، استفدنا من الإضافة تعيين ما القبل منسوب إليه، لا أنا نستفيد الاستغراق، وكذلك (فوق) و (عند) وبقية الظروف، وإذا كان السابق إلى الفهم من لفظ الظرف هو الاستغراق قبل الإضافة، كان اللفظ موضوعًا للعموم، لأن الفهم والسبق إليه هو أقوى أدلة الوضع وأكده، تقدر التثنية والجمع فيه لغة.

ومن أسماء الزمان والمكان ما ليس موضوعًا للعموم، نحو: سافرت ميلا،

ص: 52

وبريدًا، ويومًا، وسنةً، وشهرًا، وساعةً، وذات مرة، وبعيدان، بين ولحظةً، وبكرةً، وعشيةً، وسحرًا، وعشاءً، وصباحًا، ونحو ذلك من أسماء الزمان والمكان، بسبب أن مسمياتها جزئيات مخصوصة محصورة، منافية لسلب النهاية والعموم، ولذلك جوزت العرب فيها التثنية والجمع، لأنها موضوعة لما يقبل أن يقع منه أفراد كثيرة غير متناهية.

فإن قلت: اعتمادك على تعذر التثنية والجمع ضعيف، بسبب أن العرب تثني صيغ العموم وتجمعها، فتقول: المشرك، والمشركان، والمشركون (والمشركات)، مع أن صيغة المشرك للعموم عندك، وقد دخلتها التثنية والجمع؛ فبطل ما ذكرته من التعليل.

قلت: لا نسلم أن صيغة العموم ثنيت وجمعت، فإن ذلك مستحيل عقلا، والمستحيل عقلا لا يقع لغة، وأما قوله: المشركان والمشركون، فالتثنية إنما وردت في مشرك الذي هو نكرة وعرفت بعد

ص: 53

ذلك، والنكرة قابلة للتثنية، وأما المشرك فلم يثن ولم يجمع، وكذلك المشركون، ليس هو جمع المشرك المعرف بلام التعريف، إنما هو جمع مشرك المنكر، ثم دخلت لام التعريف عليه، فمن ادعى أن المشرك ثني وجمع، منعناه، وهو منع متجه.

* * *

ص: 54

القسم الثامن من صيغ العموم

أسماء العدد المعدولة

نحو: آحاد، ومثنى، وثلاث، ورباع، وخماس، وسداس، وسباع، وثمان، وتساع، وعشار.

فهذه عشرة ألفاظ موضوعة في لسان العرب للتعبير بها عن معنى قولنا: دخل الجيش واحدًا واحدًا إلى حيث لم يبق منه واحد، فيكون قولنا:(آحاد)، قائم مقام ذكر هذه الألفاظ/ الكثيرة التي تأتي على الاستغراق والشمول والعموم، ويكون قولنا: آحاد، مفيدًا ذلك بعينه، ومرادفًا له، والمفيد للعموم والاستغراق في غير المحصور، يكون موضوعًا للعموم.

وكذلك قولنا: "مثنى"، قام في لغة العرب مقام قولنا: قدم ربيعة أو مضر المدينة اثنين اثنين، إلى أن يأتي عليهم، بحيث لا يبقى منهم اثنان، بألفاظ محصلة للشمول والاستغراق، ويكون لفظ مثنى محصل لما تحصله تلك الألفاظ الكثيرة العدد الاثنية على الشمول، فيكون قولنا: مثنى، مفيدًا للشمول، فيكون للعموم وهو المطلوب.

وكذلك قولنا "ثلاث" قام مقام قولنا: ثلاثة ثلاثة، إلى غير النهاية، فتكون للعموم.

ص: 55

وقولنا "رباع" قائم مقام قولنا: أربعة أربعة، إلى غير النهاية.

وكذلك بقية الألفاظ العشرة، وإذا كان كل واحد منها مفيدا للعموم والاستغراق، كان من صيغ العموم وهو المطلوب.

قال الله تعالى: {جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء} ، أي: فريق من الملائكة كلهم له جناحان إلى آخرهم، وفريق منهم كل واحد منهم له ثلاثة أجنحة، ثلاثة، ثلاثة، إلى آخرهم، وفريق له أربعة أجنحة، أربعة، أربعة، إلى آخرهم، فاكتفى بقوله تعالى:{مثنى وثلاث ورباع} عن تكرير الألفاظ.

وكذلك قول النجاة: إن المانع لمثنى وأخواته من الصرف الصفة والعدل، أي: العدول عن الألفاظ المكررة إلى هذا اللفظ الواحد.

وكذلك قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} ، أي: انكحوا اثنين اثنين، إلى آخركم، (أو ثلاث نسوة إلى آخركم)، (أو أربع نسوة إلى آخركم)، فكل واحد منا مخير بين الواحدة، والاثنين، والثلاث، والأربع، وقد غلط من قال: إن مقتضى هذه الآية جواز التسع، وهو اثنان وثلاث خمس، ورباع، يصرن تسعة.

ص: 56

وقيل: إن مقتضى اللغة ليس هو هذا، اثنان وثلاثة وأربعة، بل مثنى غير اثنين، وثلاث غير ثلاثة، ورباع غير أربعة، وتحت كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة عدد غير متناه، بخلاف اثنين وثلاث وأربع، إنما تحته عدد محصور، وهو نص فيه، كسائر الأعداد، فقد صح أن هذه الصيغ المعدولة/ عن أسماء الأعداد للعموم وهو المطلوب.

* * *

ص: 57

القسم التاسع من صيغ العموم

صيغ النواهي

والصحيح من المذاهب أنها للتكرار، وإذا كانت للتكرار، كانت لاستغراق الأزمنة المستقبلة كلها، وهي غير متناهية، فيكون اللفظ دالًا على شمول الترك لها، وهو حقيقة العموم، غير أن دلالة لفظ النهي على استغراق الأزمنة دلالة تضمن، بسبب أن لفظ النهي يدل مع الزمان على الترك، فالترك جزء مسمى صيغة العموم، واستغراق الأزمنة الجزء الآخر، فيكون اللفظ دالًا على كل واحد منهما دلالة تضمن، وعلى مجموعهما مطابقة.

وهذا بخلاف ما تقدم من صيغ العموم، فإنها تدل على العموم مطابقة، ولكن المطوب حاصل من التضمن، فإن الدال على العموم (أعم من الدال على العموم) مطابقة أو تضمنًا أو التزامًا.

* * *

ص: 58

القسم العاشر من صيغ العموم

صيغ الأمر

إذا قلنا: بأنها للتكرار، فإنها تدل على استغراق الأزمنة التي يمكن إيقاع الفعل فيها في الاستقبال، وهي غير محصورة، فتكون الصيغة دالة عليها تضمنًا؛ لأن طلب الفعل هو جزء مسماها، مع استغراق الزمان، فهي دالة تضمنًا كصيغ النواهي، وتمتاز على صيغ النواهي بوصفين:

أحدهما: أن القائلين بأن النهي للتكرار أكثر.

والثاني: أنا نشترط الأزمنة الممكنة فيها دون صيغ النواهي، بسبب أن استغراق الأزمنة بالترك ممكن، أما باستغراقه بالفعل فغير ممكن، بل لابد من قضاء حاجة الإنسان وغيرها من ضروريات الحياة التي تمنع مباشرة الفعل، أما كون الإنسان لا يشرب خمرا، فهذا يمكن المداومة عليه من غير مشقة، فلذلك لم نشترط إلامكان فيها.

ص: 59

القسم الحادي عشر من صيغ العموم

الصيغ المعدولة عن الأمر على وزن فعال

نحو: "نزال" بمعنى انزل، و"متاع" بمعنى امنع، "وتراك" بمعنى اترك، ونحو ذلك مما (تثنيه العرب هذه التثنية)، ومقصودها به الأمر، فإن كون هذه الصيغ للعموم تتخرج على كون صيغ الأوامر للتكرار، كما تقدم/ على (115/ أ) الخلاف فيها، فالمرادف لها في معناها وجب أن يفيد العموم من الوجه الذي تفيده؛ لأن الأصل في حقيقة الترادف ذلك، وهو المطلوب.

* * *

ص: 60

القسم الثاني عشر للعموم

الصيغ الموضوعة لأسماء الأوامر والنواهي

ولم تلتزم العرب فيها بناء معينا، نحو:"إية" بفتح الهاء، معناه اسكت.

فإن نوناه كان نهيًا عن الحديث مطلقًا الذي كان فيه وغيره، فيحصل فيه العموم من وجهين:

الأول: أن أصل النهي للتكرار، فيعم هذه الأزمان.

والثاني: أنه يشمل جميع أنواع الحديث، فيعم تركها كلها مع عموم الأزمان، وإن لم ينونه، قال أئمة اللغة: معناه اسكت عن هذا الحديث فقط، فيعم الأزمنة كما يعمه النهي، ولفظ اسكت، وإن كان أمرًا لا نهيًا، غير أن النهي متى عبر عنه بلفظ أمر معناه النهي، كانت أحكام النهي ثابتة له، نحو: اترك السرقة، فإن هذا اللفظ مساوٍ للفظ لا تسرق لغة.

و"إيه" بكسر الهاء، قال أئمة اللغة: معناه: حدث، وهو أمر بالحديث، عكس مفتوح الهاء، ثم إن نوناه كان معناه حدث من هذا الحديث أو من غيره، وهو أمر بالحديث كيف كان، أما إن لم ينونه مع الكسر، فمعناه حدث من هذا الحديث خاصة.

وكذلك قال أئمة اللغة: إن التنوين في هذه الألفاظ للتنكير وعدمه للتعريف، إشارة إلى أن المراد الحديث المعهود، وإذا كان إيه بالكسر، تخرج

ص: 61

إفادتها للعموم في الأزمنة المستقبلة، التي يمكن وقوع الفعل فيها على كون صيغ الأوامر للتكرار.

وكذلك قولك: رويدًا زيدًا، معناه: أروده وأمهله، فيخرج إفادته للعموم على كون صيغة الأوامر للتكرار.

وكذلك قول العرب: "تيد" زيد، بمعنى: أمهله، فمعناه: رويدًا: وكذلك "هلم" زيدا، أي: قربه، وكذلك هات الشيء، أي: أعطه، قال الله تعالى:{هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وكذلك "ها" زيدا، أي: خذه، و"حيهلا" الثريد، أي: ائته، ومنه حي على الصلاة، فإنه لغة فيها، وكذلك (بله) زيدا، أي: دعه، ومنه قول ابن دريد:

من رام ما يعجز عنه طوقه .... أعجزه نيل الدنا بله القصا

ص: 62

/ أي: أعجزه القريب من المقاصد، فضلا عن البعيد، أي: دع البعيد، لا تتحدث به، فإن عجزه عنه بطريق الأولى.

وكذلك قول العرب: (عليك زيدًا)، أي: الزمه، ومنه قول العرب:"على زيدًا"، أي ولنيه، وكذلك "صه" أي: اسكت، و"مه" أي: اكفف، و"هيت"، أي: أسرع، ومثلها "هيتك"، و"هيك"، و"هيا""هيا"، ومن قول الشاعر.

فقد دجا الليل فهيا هيا

أي: أسرع وقطك، أي: اكتف وانته، و (إليك)، أي: تنح، وسمع أبو الخطاب من يقال له: إليك، فيقول:"إلي"؟ ، كأنه قيل له: تنح، فقال: أتنح؟

وقس على هذا المنوال بقية هذه الصيغ، وكلها إما أمر أو نهي، فيخرج على ما في الأمر والنهي من الخلاف في كونها للتكرار.

ص: 63

القسم الثالث عشر من صيغ العموم

الصيغ المنقولة بالعرف

وهي أسماء القبائل التي أصلها أسماء الأشخاص (معينين أو غير معينين)، نحو: غسان، وقد تقدم من سردها نحو الثمانين، أو نحو ذلك، وثبت أنها لا تقف عند الألف، بل أكثر، فإن فرق القبائل وفروعها شرقًا وغربًا أعظم من أن يحصى عددها، غير أني ذكرت منها أسماء مشهورة، يستند مما يتقول منها على ما يوجد منها، والذي ندعي أنه موضوع للعموم منها هو ما اطرد فيه أن يذكر، يعني لفظ بني فلان، ونحو: ربيعة، ومضر، فلا تجد أحدًا يقول: بني ربيعة، ولا بني مضر، أو كان ذلك غالبا فيه نحو: تميم، وقد يقال:(بنو) تميم، فيقال: فلان من تميم، والأكثر حذف (بني).

وأما ما عادته أن لا يستعمل إلا بلفظ (بني) مطردًا أو أكثريًا، فلا أدعيه، فإنه لم يحصل فيه نقل، فهو باقٍ اسم لذلك الرجل الذي سمي به أولًا، لا اسم للعموم، فتأمل ذلك.

ثم إن كل ما ليس هو بمنقول إلا أن يتوقع فيه أن يصير منقولًا بعد هذا، ويصير من صيغ العموم، وما هو منقول، إلا أن العموم ممكن أن يصير بعد ذلك مردودًا إلى أصل مسماه، ويبطل كونه للعموم، وذلك كله منشؤه غلبة الاستعمال، وجميع العرفيات في جميع الصيغ كذلك، يتوقع فيها النقل وإبطاله،

ص: 64

من صيغ الطلاق والعقود في المعاملات، وألفاظ إنشاء الشهادات وغيرها.

/ إذا تقرر المقصود من هذا القسم، فنقول: إلي يدل على أن الصيغ المنقولة من هذا القسم للعموم، أن يصير موضوعًا لأفراد غير متناهية، فإذا قلنا: هذا وقف علي ربيعة، فلا نفهم إلا العموم، وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قدموا قريشا ولا تقدموها"، فهذا حكم ثبت لكل واحد من قريش، وإذا ثبت لكل واحد منهم، فليس المقتضى له إلا لفظ ربيعة، وهو اسم لرجل معين في أول الأمر، ثم انتقل بسبب العرف إلى ذريته، فشملهم أجمعين، فبقي العموم، بعد أن كان للخصوص.

وكذلك جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل من هذه الأمة ليشفع في مثل ربيعة ومضر)، يعم ذلك جميع أفراد القبيلتين، ولا يفهم من الحديث إلا ذلك، وذلك دليل قاطع على أن هاتين اللفظتين انتقلتا للعموم بعد أن كانتا لشخصين معينين، هما جدًا هاتين القبيلتين.

وكذلك إذا قلنا: خزاعة، ومزانة، ولواته، وصنهاجة،

ص: 65

وهسكورة، وزناتة، وهمدان، وعدنان، لا يفهم من كل لفظة من هذه الألفاظ إلا العموم، وأفراد غير متناهية من كل واحدة من هذه الطوائف، وأن الحكم المرتب على كل واحد من هذه الألفاظ يشمل أفرادًا غير متناهية، وهو المقصود بالعموم، وعلى هذا الأسلوب تجري جميع ألفاظ القبائل إذا وقع الاشتهار فيها والنقل، فتكون للعموم بهذا، وهي ألفاظ لا يحصى عددها، فتكون صين العموم غير معلومة الحصر، أو الحصر للألفاظ المنقولة.

وأما الألفاظ المفيدة للعموم بالوضع الأول من غير نقل فهي معلومة الحصر بالاستقراء، وواقعة عند غاية لا تقبل الزيادة، والمنقولة تقبل الزيادة دائما، فإن كل شخص له اسم علم، يمكن أن يكون له ذرية عظيمة، يشتهر اسمه فيهم، فيصير للعموم، بعد أن كان للخصوص، كما جرى في صدر الزمان، فالباب غير منسد في المنقولات بخلاف اللغويات، فإن الوضع فرع فيها واستقر، وعلمت أو طلبت بالاستقراء، وقد استقريت منها/ فيما تقدم نحو مائتين وخمسين صيغة، على حسب ما وصل إليه الفكر، والله أعلم بما بقي منها، غير أنها محصورة لا تقبل الزيادة، لاستقرار الوضع اللغوي، بخلاف الوضع العرفي، فإن بابه مفتوح أبدا، وقد حصل المقصود بما أردت بيانه من ذلك وهو المطلوب.

* * *

ص: 66