الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس عشر في تقرير الجمع بين أقوال العلماء من النحاة والأصوليين فإنها متناقضة في ظاهر الحال
فقال أئمة اللغة والنحو: إن جموع السلام مذكرة ومؤنثة نحو: المشركين والمشركات، والمؤمنين والمؤمنات لأقل الجمع وهو العشرة فما دونها، لا يتناول ما فوقها. ومن جموع التكسير ما هو موضوع للعشرة فما دونها، ولا يتناول ما فوقها أيضا، وهو ما تضمنه (قول الشاعر):
بأفعل وبأفعال وأفعلة وفعلة .... يعرف الأدنى من العدد
فأفعل نحو: أفلس، وأكلب، وأفعال نحو: أجمال، وأسلاب، وأفعلة نحو: أجربة، وأدوية، وفعلة نحو: صبية، وغلمة، فهذه كلها عند اللغويين موضوعة للعشرة فما دونها، ولا تتناول ما فوق العشرة ألبتة.
وهذا النقل يقتضي أنها في غاية المنافاة، لاقتضاء العموم، فإن العموم مدلوله غير متناه، وغير محصور، والعشرة فما دونها متناهية ومحصورة، فبين البابين تناف شديد.
وقال الأصوليون: إن المشركين والمؤمنين ونحو ذلك، من صيغ العموم، وكذلك الأحمال والأجمال، والصبية والأفلس، ونحوها، كلها موضوعة للعموم، ويتناول لغة ما لا يتناهى، وما لا ينحصر.
وهذا النقل ظاهر مناقض للنقل الأول، والأصوليون طائفة عظيمة الشأن، كثيرة العدد، لا يمكن تخطئتها في النقل عن العرب، وكذلك النحاة واللغويون، طائفة عظيمة الشأن، وهي تنقل عن العرب أيضًا، ولا يمكن أن يقال: إن النحاة واللغويين أقعد بلسان العرب من الأصوليين، فيقدمون عليهم، لأن ذلك يلزم فيه تخطئة الأصوليين/، ولا سبيل إلى رد ذلك، فإن خطأ مثل هؤلاء بعيد جدًا، فلابد من الفكرة في معنى القولين، حتى يقع الجمع بينهما.
وقد أشار إمام الحرمين في البرهان، والإمام فخر الدين في المحصول، إلى طريق الجمع بينهما، بأن نعتقد أن قول الأصوليين محمول على التعريف باللام، أو الإضافة، نحو: الأجمال، وأجمال القوم، فهذان اللفظان في هذه الصورة للعموم، ويحمل قول اللغويين والنحاة على حالة التنكير، نحو: أجمال، وصبية، ونحو ذلك من هذه الصيغ، إذا وقعت منكرة، فهذه هي الموضوعة للعشرة فما دونها، ولا يتناول ما فوقها.
فأما إذا عرفت هذه الصيغ، فقلنا:"المؤمنين" و"المشركين" ونحو ذلك، فإنها موضوعة للعموم الذي لا ينحصر ولا يتناهى، وحينئذ يذهب التناقض بين القولين، ويجتمع كلام الفئتين في النقل عن العرب، باعتبار حالتين لهذه
الألفاظ، وهذا وجه حسن في طريق الجمع بين النقل.
إشكال عظيم: صعب لي نحو عشرين سنة أورده على الفضلاء والعلماء بالأصول والنحو، فلم أجد له جوابا يرضيني، وإلى الآن لم أجده، وقد ذكرته في شرح المحصول، وكتاب التنقيح، وشرح التنقيح، وغيرها مما يسره الله علي من الموضوعات في هذا الشأن، وهو أن أئمة اللغة لما عينوا صيغ جموع القلة، وضبطوها في جموع السلامة، وتلك الصيغ الأربعة من جموع التكسير، موضوع في لسان العرب للكثرة، وهو الأحد عشر فما فوقه، وأنها حقيقة في ذلك، مجاز فيما دون العشرة، وفي العشرة أيضًا، وأن جموع القلة المتقدمة إنما تستعمل فيما فوق العشرة مجازًا أيضًا، كذلك نص عليه الزمخشري في هذا الموضع، فقال: وقد تستعار كل واحدة منهما للأخرى، وإطلاق الاستعارة إنما تكون في المجاز؛ لأن الحقيقة لا يقال فيها استعارة إجماعًا، وكذلك قال ابن الأنباري في كتابه الموضوع في النحو: إن
جمع القلة قد يستعمل مكان جمع الكثرة مجازًا، وجمع الكثرة قد يستعمل مكان جمع القلة مجازًا، والعلاقة بينهما اشتراكهما في أصل الجمع، يشير إلى أن العلاقة بينهما هي المشابهة، / ومتى كانت العلاقة هي المشابهة، كان المجاز استعارة، باتفاق أرباب علم البيان والأصول، فقد صرح في المغني بالاستعارة، كما صرح بها الزمخشري، واتفقا على أن كل واحد من اللفظين لا يصدق حقيقة فيما ذكر، بل مجازًا.
وكذلك تظافرت مباحث المفسرين والنحاة في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، فقالوا: كيف جمع بين لفظ الثلاثة التي هي دون العشرة، وبين لفظ القرء، الذي وزنه فعول، الذي هو من جموع الكثرة، بخروجه عما تضمنه البيت المتقدم، مع أن الممكن أن يقال: ثلاثة أقراء، على وزن أفعال، الذي هو موضوع لما دون العشرة، فلا يناقض لفظ الثلاثة؟
وأجابوا عن ذلك: بأن اللفظ في الآية مجاز، موضوع موضع أقراء، وهو يؤكد ما تقدم، ولم أر في هذا الباب نقلًا يناقض هذا النقل، وطلبته أنا وجمع كثير من الفضلاء في كتب النحاة والأصوليين فلم نجده.
إذا تقررت هذه النقول، أشكل بعد ذلك قول النحاة والأصوليين والفقهاء
أن الخلاف واقع في أقل الجمع، هل هو اثنان أو ثلاثة؟ ومرادهم بذلك أن مفهوم الجمع له رتب أقلها اثنان، وفوقها الثلاثة والعشرة والمائة والألف والآلاف، وما لا يتناهى، كلها رتب الجمع، فلا خلاف أن أكثر الجمع غير محصور، إنما الخلاف في أقله، هل هو اثنان، أو ثلاثة؟ .
فأقول: إن الخلاف في هذه المسألة غير منضبط، ولا متصور؛ بسبب أن قولهم: أقل الجمع اثنان أو ثلاثة، إن فرض في صيغة الجمع التي هي:"جيم، ميم، عين"، امتنع إتيانها في غيرها من الصيغ، لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم لصيغة ثبوته لغيرها من الأوضاع اللغوية، وإن كان الخلاف في غيرها الذي هو مدلول هذه الصيغة (والجموع) ومدلولها كلها يسمى جمعًا، نحو: رجال، (وحد لهم) وغير ذلك من صيغ العموم.
فنقول: صيغ الجموع قسمان: جمع كثرة، وجمع قلة، كما تقدم بيانه وتحريره، ونصوص العلماء فيه، فإن كان مواطن الخلاف/ في جموع الكثرة، فلا يستقيم؛ لأن أقل مراتب جموع الكثرة أحد عشر؛ لأنها موضوعة لما فوق الشعرة، فأقلها أحد عشر، والاثنان والثلاثة إنما يكون اللفظ فيهما مجازًا، والبحث في هذه المسألة ليس هو في المجاز، فإن إطلاق لفظ الجمع مجازًا على الاثنين لا خلاف فيه، إنما الخلاف في كونه حقيقة، بل لا خلاف أن لفظ الجمع يجوز إطلاقه وإرادة الواحد به مجازًا، فكيف الاثنان؟ وقد قيل في قوله تعالى:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} ..
إن القائل واحد، وقوله تعالى:{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} ، إن الناس هم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن كان الخلاف في جمع القلة، فهو متجه؛ لأن موضوع للعشرة فما دونها، وما دونها يمكن أن يقال: إنه اثنان أو ثلاثة، وهذا وإن تصورناه من حيث الوضع اللغوي، لكنه يستقيم أن يكون هو المراد بخصوصه للعلماء؛ لأنه لو كان مرادهم لخصصوا الاستدلال به في هذه المسألة والفتاوى المفرعة عليها، لكنهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم لم يقولوا في استدلالهم في هذه المسألة: فرقت العرب بين التثنية والجمع، فقالوا: رجلان ورجال، فرجال ونحوه في استدلالهم على أن أقله ثلاثة، لا اثنان، وهو جمع كثرة، وكذلك في الفتاوى، فلم يفرقوا في الأقارير، والوصايا والنذور، والأيمان، والاستدلالات على الأحكام في مقام المناظرة أو الاجتهاد بين جمع القلة، وجمع الكثرة، بل يقولون فيمن قال: لله علي الصدقة بدنانير: يلزمه، كما لو قال: على الصدقة بأفلس، سواء، لا يفرقون بين الصيغيتين، فدل ذلك على أن مرادهم غير معقول، فإن أقل الجمع الذي للكثرة أحد عشر، كما تقدم، فهذا وجه الإشكال.
وأكثر من تعرض للجواب عنه يقول: بحث العلماء في هذه المسألة، ليس
بحسب الحقيقة اللغوية، بل بحسب الحقيقة العرفية، وأهل العرف لا يعتبرون الفرق بين جمع الكثرة وجمع القلة.
وهذا الجواب باطل لوجوه:
الأول: أن البحث في / مسائل أصول الفقه إنما يقع عن تحقيق اللغة، ليحمل عليها الكتاب والسنة، والبحث عن العرف إنما يقع في أصول الفقه تبعًا، وحمل كلام العلماء على الغالب هو المتجه، ولذلك قالوا: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والأمر للتكرار، والنهي للتكرار، والأمر للفور، والأمر يدل على الأجزاء، والصيغة المعرفة باللام، فيحمل كلامهم على هذا القانون.
وثانيها: أنهم إذا استدلوا، لا يقولون: قال أهل العرف: ولا فرق أهل العرف، بل يقولون: فرقت العرب بين التثنية والجمع.
وجميع اعتماداتهم على النعوت والتأكيدات والضمائر وغيرها، التي لا مدخل للعرف فيها، بل لغة صرفة، على أن مقصودهم اللغة الصرفة، وما هو كلام العرب إلا العرف الطارئ، فيقولون: الذي يدل على أن أقل الجمع ثلاثة، أنه لو كان اثنان لجوزت العرب، مررت برجال اثنين، وذلك لا يجوز، بل لا ينعت الجمع إلا بالثلاثة، وكذلك لا تؤكد الاثنان بما يؤكد به الجمع، فلا يقولون: مررت برجلين كلهم، بل كليهما، وقال العرب في ضمير التثنية: فعلًا، وفي ضمير الجماعة: فعلوا، ولا يكون أحدهما مكان الآخر، فدل على أن الجمع لا يصلح للاثنين حقيقة، وكذلك الاثنين لا تصلح للجمع حقيقة.
واحتج (الفريق) الآخر، وهو جمع من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين - والقاضي والأستاذ أبو إسحاق - رحمة الله عليهما -: أن أقل الجمع اثنان، بقوله تعالى:{وكنا لحكمهم شاهدين} ، والمراد داود وسليمان عليهما السلام، وبقوله تعالى:{إذا تصوروا المحراب} ، وكانوا اثنين، وبقوله تعالى:{خصمان} ، وبقوله تعالى:{إذا دخل على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان} ، وبقوله تعالى:{هذان خصمان اختصموا في ربهم} ، وبقوله تعالى في قصة موسى وهارون:{إنا معكم مستمعون} ،
وبقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا} ، والمراد: يوسف وأخوه، وبقوله تعالى:{وغن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} ، ونحو ذلك من الاستدلال بمحض اللغة الصرفة، ولم نجد لهم استدلالًا إلا كذلك في جميع الكتب/ الموضوعة للأصول والفقه، وذلك يدل على أن مقصودهم اللغة، لا العرف.
وثالثها: سلمنا أنهم يبحثون عن الحقيقة العرفية، فما بالهم لا يعرجون على الحقيقة اللغوية ألبتة، ولا يذكرونها أصلًا؟ ! وعادتهم أن كل موطن ذكروا فيه الحقيقة العرفية، فلابد أن يذكروا فيه اللغوية، ونسوا وجه النقل عنها في العرف، هذه عادتهم، وها هنا لم يتعرضوا لذلك أصلًا، بل إنما يذكرون موضوعات العرب في الضمائر والأسماء الظاهرة، وذلك يوجب القطع بأن مرادهم الحقيقة اللغوية، دون العرفية.
ومنهم من يجيب بأن جمع الكثرة يصدق على ما دون العشرة حقيقة، وإنما جمع القلة لا يتعدى العشرة، فعلى هذا يكون أقل الجمع مطلقًا اثنان:
وهذا باطل؛ بما تقدم من النقل عن الزمخشري وغيره: أن لفظ الكثرة والقلة لا يستعمل أحدهما مكان الآخر إلا مجازًا، وكتب التفسير مملوءة من ذلك، خصوصًا الكشاف، فما بقي الخلوص من هذا الإشكال إلا بالطعن في هذه النقول، ولا سبيل إليه، فيبقى الإشكال على حاله.