الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول في بيان أن هذه الأمور ليست مخصصة للعموم
وهو فصل جليل غامض، يعسر إدراكه على كثير من الناس، وهو مبني على قاعدة وهي:(أن العام في الأشخاص مطلق في أربعة أمور غير الأشخاص، التي هي مدلولة ذلك اللفظ العام من غير هذه الأربعة)، فإن العموم قد يكون في هذه الأربعة فلا يتصور الإطلاق فيها، وإنما ندعي الإطلاق، وإن كان العموم في غير هذه الأربعة فيدعى الإطلاق فيها حينئذ، وهي الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقة، وقد تقدمت هذه القاعدة وبيانها في الباب السابع عشر غير أني آثرت إعادتها هنا لوجهين:
الأول: أن هذا الموضع -أيضا- محتاج إليها، مثل ذلك الموقع.
الثاني: أن الواقف على هذا الباب قد لا يتفق له الوقوف على ذلك الباب؛ ولأنها غامضة، ولعلها بتكررها تتضح للواقف عليها أكثر بسبب تغيير العبارات وزيادة الألفاظ، فإذا قال الله تعالى:{اقتلوا المشركين} ، كان عاما في قتل كل مشرك، بحيث لا يبقى مشرك، ولا يدل هذا اللفظ من حيث هو هو على أنهم يقتلون في حالة الجوع أو العطش أو السفر أو الإقامة أو غير
ذلك من الحالات، ولا إشعار للفظ بركوب، ولا جلوس، ولا هيئة من الهيئات التي يمكن أن يفرض للمشركين على الخصوص، ومن ادعى أن قولنا: اعتق عبيدي، أنه يدل على أنهم مسافرون على الخصوص أو جياع فقد أبعد، ويدل على ما قلناه وجوه أربعة عقلية ونقلية:
الأول: أن لفظ: (اقتلوا المشركين) لو دل على السفر أو الإقامة أو الجوع أو العطش أو غير ذلك من الأحوال أو الخصوص، لدل إما مطابقة/، أو تضمنا أو التزاما، والثلاثة باطلة، فلا يدل مطلقا. (141/ أ)
أما أنه لا يدل مطابقة، فلأن لفظ المشركين لم يوضع للجوع ولا للجلوس، ما لا يوضع له اللفظ لا يدل عليه مطابقة.
أما أنه لا يدل تضمنا، فلأن الجلوس مثلا ليس جزء مدلول المشركين.
أما أنه لا يدل التزاما، فلأن الجوع أو الجلوس أو غيرهما، لا يلزم أحدهما مفهوم المشركين على التعيين، فإنهم قد يكونوا كلهم في ضد الحالة التي فرضت، بل اللفظ لا يدل على وجود المشركين ألبتة، فضلا عن هيئاتهم، فإن الله تعالى إذا قال:{اجلدوا الزناة المحصنين} ، قد لا يكون في الوجود زان محصن ألبتة، وكذلك بقية العمومات.
نعم قد يكون الواقع أن الدنيا لا تعرى عن مشرك، وأن منهم مسافرين بالضرورة، لكن ليس ذلك من دلالة اللفظ، بل الواقع كذلك، والبحث إنما هو في دلالة اللفظ وإشعاره، فإن التعميم والتخصيص إنما هو متعلق بدلالة اللفظ، ولا يلزم من كون الواقع شيئا، أن يكون اللفظ دالا عليه، وإذا كان
لفظ العموم لا يدل على وجود أفراده، امتنع أن يكون دالا على أحوالهم التي هي تابعة للوجود، فإن عدم الدلالة على المتبوع يستلزم عدم الدلالة على التابع، كما أن عدم المتبوع يستلزم عدم التابع.
وكذلك القول في البقاع، والأزمان، فإن لفظ (المشركين) لا يدل على مدينة خاصة، ولا جميع مدائنهم على الخصوص، وكذلك لا يدل على زمان معين، فقد يوجدون في ذلك الزمان دون هذا، وفي هذا دون ذاك، فإن الدلالة إذا انتفت عن أصل الوجود، انتفت عن تعيين زمان الوجود ومكانه بطريق الأولى.
وكذلك المتعلقات، وهي ما به أشركوا، فلا يدل لفظ (المشركين) على وقوع الشرك بالكواكب مثلا، أو بالبقر، أو بغير ذلك مما يقع الشرك به، بل إذا سمعنا (المشركين) أمكن أن يكونوا كلهم أشركوا بالأصنام أو كلهم أشركوا بالكواكب، وغير ذلك مما يقع به الشرك، فإن اللفظ إذ لم يدل على أصل الوجود، لم يدل على وجود الشرك بشيء، لا بالمطابقة، ولا بالتضمن، ولا بالالتزام، فتبقى الدلالة مطلقا، وإن كان الواقع أن الشرك وقع من المشركين/ على وجه الأرض بالأصنام والكواكب وغير ذلك، لكنك قد علمت أنه لا يلزم من كون الواقع شيئا أن يكون اللفظ يدل عليه، والبحث إنما هو في دلالة اللفظ من حيث هو لفظ دال. (141/ ب)
وإذا تقرر عدم دلالة اللفظ على حالة معينة، وزمان معين، ومكان معين، ومتعلق معين، فنحن نعلم بالضرورة أن المشرك لا يقتل إلا في زمان، ومكان، وحال، وقد يكون شركه واقع بشيء من الأشياء، فيكون اللفظ دالا على قتل كل مشرك في مطلق الحال، ومطلق الزمان، ومطلق المكان، ومطلق المتعلق،
فهذه المطلقات من لوازم القتل ووقوعه، فيكون اللفظ دالا عليها بطريق الالتزام، أما خصوص حالة أو مكان أو زمان أو متعلق فلا دلالة عليه بخصوصه، فضلا عن العموم في ذلك.
فإن قلت: لم لا يكون معنى قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ، اقتلوهم في جميع الحالات، (ويكون قد أمر بقتل كل مشرك في جميع الحالات)، وإن كان قتله لا يتكرر، لكن يكون المجموع كالظرف لتلك القتلة الواحدة، كما (لو) صرح وقال: جعلت جميع الحالات، أو جميع الأزمنة، ظرفا لتلك القتلة المفردة.
كما ولد زيد عام الفيل، (ومات) سنة ثمانين، أو مات عام الفتح، فيجعل جملة السنة ظرفا للولادة، أو الموت، وإن كان لا يتكرر فيها، كذلك تكون جميع الأحوال والظروف محلا لتلك القتلة الواحدة، وإن كانت لا تتكرر فيها، وقد قدمت في هذا الكتاب وغيره أن من أقسام التعليقات المطلق في العام، نحو: متى دخلت الدار فأنت حر، فجميع الأزمنة ظرف ومعلق عليه الحرية، وهي لا تتكرر فكذلك ها هنا.
قلت: أنا لا أمنع أن يراد هذا المعنى ولا أن يصرح به المتكلم، فنقول: اقتلوهم في جميع الأحوال، إنما أنا أمنع أن يكون لفظ العموم من حيث هو لفظ عموم يدل على ذلك الواقع، وكذلك الواقع متضمن لذلك، واللفظ لا
يدل عليه، ويدل على ذلك أن قول القائل: اعتق عبيدي، وطلق زوجاتي، لا يدل هذا اللفظ على سفر ولا إقامة ولا مكان معين ولا زمان معين/ من (142/ أ) المستقبلات لذلك الفعل ألبتة، ولا هنالك واقع يتقاضى شيئا من هذه الأشياء على التعبير ألبتة، بل الباب منسد بالكلية وهو صيغة عموم، وقوله تعالى:{فاقتلوا المشركين} صيغة عموم، فقد اشتركا في صيغة العموم، وامتاز المشركون بأن الواقع من أحوالهم المعلوم، أن منهم مسافرا أو مقيما أو جائعا أو خائفا أو أسيرا، وأن مدائنهم بأرض الأندلس أو بجزيرة العرب، وغير ذلك مما هو معلوم في الواقع، فلو كانت صيغة العموم بما هي صيغة دالة على شيء من ذلك لدلت عليه في: أعتق عبيدي، وطلق نسائي، لوجود المقتضى لذلك، وهو صيغة العموم، وما لم يدل على ذلك، علمنا أن لفظ العموم من حيث هو عموم لا يفيد شيئا من ذلك التعيين، وإنه إنما يدل بالالتزام على مطلقات هذه الأربعة لا معيناتها وهو المطلوب.
الثاني: في الدلالة على ذلك من جهة الوضع اللغوي: أن اللغويين نصوا على أنك إذا عبرت عن المعاني العامة والحقائق العالية، نحو: المخلوق، والوجود والجسم، ونحوهما، فإنك إنما تعبر عنها بلفظ "ما" الموضوعة لما لا يعقل، فإن الأمر العام لا يستلزم الخاص، فلم يندرج في تلك الأمور العامة مفهوم الخاص العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج في صيغة العموم من حيث إنه جسم، وموجود، ومخلوق، ونحوها، لكنه من هذه الجهة غير عاقل، وإذا لم يندرج فيه العقلاء من حيث هم عقلاء، كان اللفظ اللائق به هو لفظ "ما"، دون لفظ "من"، فلا تقول: كل من خلقه الله
تعالى ممكن، وأنت تريد العموم في جميع المخلوقات، بل تقول: كل ما خلقه الله تعالى ممكن، وتقول: ما في الوجود شاهد بوجود الله تعالى وصفاته العلا، ولا تقول: كل من، وأنت تريد الاستيعاب الذي أراده الشاعر في قوله:
وفي كل شيء له آية .... تدل على أنه واحد
فلو أردت أن تضع موضع (كل شيء)"ما"، أو "من"، كان المتعين "ما"، فإن الشيء بما هو شيء لم يندرج فيه مفهوم العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج فيه من حيث هو شيء، وإن قلت: لفظ "من"، لم يكن كلاما عربيا، ولهذه القاعدة قال الله تعالى:{أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء} ، ولم/ (142/ ب) يقل: إلى من خلق الله من شيء، فإن الشيء بما هو شيء لا يستحق لفظ "من"، بل "ما" (وقد) قال تعالى:{ويعلم ما في الأرحام} ، فأتى بلفظ "ما"، ولم يأت بلفظ "من"؛ لأن المستقر في الرحم من حيث هو مستقر في الرحم أعم ممن هو عاقل، بل قد يكون بهيمة، ومن الحشرات، فإذا دخل لفظ العموم، اندرج العقلاء فيه من جهة عامة، وهي
أنهم مستقرون في الأرحام، لا من جهة أنهم عقلاء، وهذه الجهة أعم، والأعم لا يستلزم الأخص، فلم يندرج العاقل فيها من حيث إنه عاقل، بل من حيث إنه مستقر، وهو من هذه الجهة غير عاقل، فكان المتعين التعبير بلفظ "ما"، دون لفظ "من"، وقاتل الله تعالى:{يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد} ، فأتى بلفظ "ما" دون لفظ "من"، بسبب أن حمل الأنثى أعم، والأعم لا يستلزم الأخص، وهو كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب، لا يأتي فيه إلا لفظ "ما"، دون لفظ "من"، وتقول: كل ما سوى الله تعالى محدث، وكل ما سوى الله محتاج إليه، ونحو ذلك من العبارات ولا يأتي بلفظ "من" ألبتة، وإن كنت تريد العموم الذي اندرج فيه العقلاء.
إذا تقررت هذه القاعدة، فنقول لك: في هذه المعاني العامة أربعة أحوال:
أحدهما: أن يريد أحد نوعيها، وهو من يعقل خاصة، فيتعين لفظ "من"
في التعبير عنه.
وثانيهما: أن يريد النوعين من حيث خصوص من يعقل بما هو عاقل، وخصوص ما لا يعقل من حيث هو عاقل، فيتعين التعبير عنهما بلفظ "من"؛ لأن القاعدة العربية: أن المتكلم إذا أراد من يعقل وما لا يعقل بالحكم الذي سيق الكلام لأجله، تعين التغليب لمن يعقل على ما لا يعقل، ويكون التعبير بلفظ "من" لأجل التغليب، كأنهم كلهم عقلاء.
ورابعها: أن تريد العموم وتريد النوعين لا بخصوصهما، بل تقصد استيعاب كل فرد من المخلوقات من حيث هي مخلوقات، أو الأجسام من حيث هي أجسام، فهذه الحالة التي يحصل فيها العموم ويتعين التعبير بلفظ "ما"، وهو المراد بقولنا: كل ما في خلق الله تعالى ومن آثار قدرته، ونحو ذلك، فيندرج/ العقلاء لا من حيث هم من تلك الجهات العامة. (143/ أ)
إذا تقرر ذلك، اتضح أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، بسبب أن العام في الأشخاص لو كان عاما في الأحوال لكان شاملا لحالة العقل وحالة ضدها، وعلى هذا كان يتعين التعبير بلفظ "من"؛ لأجل قاعدة التغليب، والقول بالعموم في الأحوال يقتضي اجتماع من يعقل وما لا يعقل، فيتعين التغليب والتعبير بلفظ "من"، وحيث كان الواقع المنقول هو التعبير بلفظ "ما"، دل ذلك على عدم العموم في الأحوال وهذا متجه أيضا.
وإذا اتضح لك ذلك في الأحوال، اتضح أيضا في الأزمنة والبقاع والمتعلقات، ويكون معنى قوله تعالى:{فاقتلوا المشركين} ، أي اقتلوا كل مشرك في حالة ما، ويكون شركه شيئا ما، على نحو ما.
الثالث: الدال على هذا المطلوب، هو أن اللفظ قد دل على قتل كل
مشرك، والمشرك له أحوال متضادة ومتنافية، كالشبع والجوع، والعطش والري، والإقامة والسفر، والحركة والسكون، والقيام والجلوس، وغير ذلك من الأضداد التي يتعذر الجمع بينها فمن المحال أن يقول الله تعالى: اقتلوا كل مشرك في الحالتين المتضادين؛ لأن ذلك إنما يفرض بطريقتين: إما أن يقتله في حاله اجتماعهما قتلة واحدة، وإما أن يقتله في حالة، ويقتله مرة أخرى في حالة أخرى، وهذا أيضا محال؛ لتعذر تكرر القتل في الشخص الواحد فتعين بالضرورة أن يريد الله تعالى، ويكون مدلول اللفظ أحد هاتين الحالتين على البدل، بأن يقتله إما في هذه الحالة، أو الحالة الأخرى، أيهما وجدت وقع القتل فيها، وإذا كانت إحداهما مرادة بدلا من الأخرى أو بالعكس -والمراد على البدل لا شمول فيه؛ لأن المطلقات كلها كذلك- فإن الله تعالى إذا قال: أعتقوا رقبة، كانت كل رقبة مرادة على البدل، فيعتق إما هذه بدلا عن تلك، أو تلك بدلا عن هذه، وإذا كان الواقع في الأحوال هو هذا المفهوم، كان المقصود حاصلا، وهو أنها مرادة على سبيل الإطلاق والبدل وهو المطلوب، وهو المراد بقولنا: إن الله تعالى أمر بقتل/ كل مشرك في حالة، معناه إما هذا أو تلك. (143 م ب)
وكذلك القول في الأزمنة والبقاع، فإن الجمع بينها متعذر، كما تقدم في الأحوال المتضادة، فلم يبق حينئذ إلا أحوال غير متضادة، مثل: الشبع والقيام، والسفر والجلوس، ونحو ذلك من المختلفات، وبقية المتعلقات أيضا، فإنها يمكن الجمع بينها ويشرك بأشياء كثيرة، وهذه الأمور بخصوصياتها إن
ادعى أحد أن اللفظ يدل على العموم فيها دون غيرها، وأن الوضع اللغوي يشعر بها دون غيرها، فقد أبعد وتحكم من غير مستند.
وأيضا إذا سلم ذلك، فيقال له: إن كان محل النزاع هذه خاصة دون غيرها، فنقول إن كان مراد الله تعالى في هذه الأمور الممكنة الجمع، أن يقتل كل مشرك فيها، فإما أن يريد إذا اجتمعت، أو إذا افترقت، أو مجتمعة ومفترقة، أو لا مجتمعة ولا مفترقة.
فإن أراد تعالى الأمر بالقتل إذا اجتمعت، فتكون حالة الاجتماع شرطا من القتل، ولا يقتل من انفرد ببعضها وهو خلاف الإجماع.
وإن أراد إذا انفردت، يكون الانفراد شرطا، فلا يقتل من اجتمعت في حقه وهو خلاف الإجماع.
وإن أراد مجتمعة ومفترقة، فالاجتماع والافتراق ضدان يتعذر الجمع بينهما، فيتعذر الأمر بالقتل في ذلك، كما تقدم في المتضادات، فيتعين أن يكون المقصود هم القسم الرابع، وهو أن يريد ذلك على البدل، من غير تعرض لشيء من ذلك، وهذا هو الإطلاق بالضرورة.
البرهان الرابع على هذه القاعدة: أن أهل المنطق قد قرروا هذه القاعدة في علم المنطق بأن قالوا: إن صيغة العموم، وهو عندهم موسوم بالكلية الموجبة، كقولنا:"ج""ب"، ففيه مذهبان:
أحدهما: أن معناها: كل ما وجد وكان "ج" بالفعل فإنه "ب"،
كان ذلك الموجود في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولم يشترطوا حصول الوجود في الحال ولا في الماضي، بل أخذوا القدر المشترك بين الأزمنة الثلاثة، وذلك يقتضي صدق الكلية فيما لم يوجد بعد.
المذهب الثاني: أن معنى الكلية/: ما لو كان "ج" بالقوة، فهو "ب"، ولم يشترطوا أصل الوجود، وهذا هو مذهب الفارابي. (144/ أ)
والأول مذهب الجمهور، فظاهر كلامهم، وهذا هو مقتضى اللغوي، في قولنا: كل عدد زوج، وكل إنسان حيوان، ومن له تحقيق في علم المنطق واللغة علم أن مقصود اللغويين والمنطقيين في ذلك واحد.
وعلى هذا المذهب الثاني لا يشترط أصل الوجود، بل يكفي قبول المحل له وإن لم يقع.
وعلى المذهبين، الوجود ليس معتبرا في الكلية، فاللفظ الدال عليها غير دال على عوارض الوجود من الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، فإنها تابعة للموجودات، فالدلالة على المتبوع تستلزم انتفاء الدلالة على التابع، وأما خصوصيات الأزمنة والبقاع والأحوال فبعيدة عن هذين المذهبين بعدا شديدا، فإن تعرضهم للمعنى العام وهو أصل الوجود أو أصل القبول والاقتصار عليه والسكوت عن غيره في تمهيد القواعد عند من يقصد التحرير، دليل على أن ذلك العام هو كمال المراد، وأن غيره غير منظور إليه ولا معرج عليه، فقد وضح اجتماع المعقول والمنقول في تحرير هذا المقصد واجتماع الفرق بين المنطقيين
واللغويين فيه يكون حقا، وهو المطلوب.
وإذا تقررت هذه القواعد واتضحت، ظهر حينئذ بطلان الغاية والشرط وما ذكر معهما من الأمور العشرة، ليس شيئا منها مخصصا ألبتة.
وبيانه: أن قولنا اقتلوا المشركين، قد تحرر، أنه إنما يقتضي قتلهم في حالة مطلقة في جميع الأحوال، فإذا وردت الصفة فقال الله تعالى: اقتلوا المشركين المحاربين، فقد غير تلك الحال المطلقة، وزاد فيها قيدا وخصوصا، وهو كون تلك الحالة حالة الحرابة، وهي (حالة ما)، لأنه متى صدق الخاص صدق العام بالضرورة، فالعموم باق على دلالته، ولم يترك من مقتضاه شيئا بورود هذه الصيغة، بدل قيدنا تلك الحالة المطلقة، ولم يبطل من الكلية فرد ألبتة، والتقييد ضد التخصيص؛ لأن التقييد زيادة/ على مقتضى اللفظ، والتخصيص تبعيض من مقتضى اللفظ، فأين أحدهما من الآخر؟ (144 م ب)
وإذا ظهر أن الصفة مقيدة لا مخصصة، بطلت دعوى التخصيص فيها.
وكذلك قوله: حاربوا لا يكون هذا الشرط أيضا مخصصا؛ لأنه يقتضي أن يقتل كل مشرك في حالة الحرابة، وهي حالة خاصة، ومتى صدقت حالة خاصة، صدق مطلق الحالة، فالعموم باق على عمومه، وإنما الحالة المطلقة تقيدت.
وكذلك الغاية، في قوله تعالى:{حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون} لا يكون تخصيصا أيضا؛ لأنه يقتضي قتل كل مشرك في حالة الامتناع عن الجزية، وهذه حالة خاصة، وإذا قتلنا كل مشرك في حالة خاصة، فقد قتلنا كل مشرك في مطلق الحال، وهذا هو مقتضى العموم، فلم يخرج من أفراده شيء، ولم يوجد ما خالف العموم، بل ما قيده.
وكذلك قوله: اقتلوا المشركين إلا من يحارب، هذا الاستثناء يقتضي إخراج غير المحارب، وإن كان مشركا، يقتل في حالة الحرابة، وهي حالة خاصة مستلزمة لمطلق الحال، فالعام باق على عمومه.
وهذه كلها تقييدات لمطلق الحال المدلول عليها التزاما، لا مخصصا، وكذلك القول في بقية العشرة التي تقدم أنها لاحقة بالأربعة المنصوص عليها.
نعم، قد تقع هذه الصيغ في مواد تقتضي لخصوص تلك المواد التخصيص، وخصوص بعض الأفراد من العموم في جميع الأحوال، ولا يثبت لها الحكم في حالة من الأحوال ألبتة، كقولنا: قدرة الله تعالى قابلة للتأثير في كل معلوم إن كان ممكناً، فقولنا: إن كان ممكناً، يقتضي هذا الشرط إخراج المستحيلات والواجبات من قبول تأثير القدرة، ولا يثبت للقسمين قبول التأثير في حالة ألبتة، فإن هذه الحالة الخاصة التي هي حالة الإمكان، لا يمكن أن يتعداها الحكم إلى غيرها ألبتة، بخلاف قولنا: إن حاربوا، فإن المحارب قد يترك الحرابة ويصير ذميا أو غير ذلك، فوصف الإمكان ميسر الزوال، وحصول
(145/ أ) ضده لمحله بخلاف وصف الإمكان، لا يمكن زواله عن محله، فيتعين/ أن محله غير مراد بالحكم على حالة من الحالات، وأما غير المحارب فقد يراد إضافة الحكم إليه في حالة الحرابة.
وكذلك الصفة في بعض المواد، يمنع انتقالها، كقولنا: اقتل قريشا الطوال، فإن الطويل يستحيل في مجاري العادات أن يصير قصيرا، فلا يتصور من هذا المتكلم إرادة القصير مع هذه الصفة ألبتة، بخلاف لو قال: أكرم قريشا المسافرين، فإنه يتصور منه أن يريد جميع أفراد قريش، في هذه الحالة، فإن المقيم يمكن أن يكون مسافرا، فإرادة الكلية ممكنة، فلم يتعين التنافي بين هذه الصفة وبينها.
وكذلك الغاية، تجوز في بعض المواد أن يخرج بعض الأفراد عن جميع الأحوال، كقولنا: أكرم العرب حتى تصير إلى فزارة، خرجت فزارة من الحكم في جميع الأحوال، فإن وصف الفزارية لازم، ولا يمكن أن يصير الفزاري غير فزاري أبدا، فخرجت فزارة مطلقا.
وكذلك الاستثناء، كقولنا: أكرم العرب إلا فزارة، بعين ما تقدم في الغاية.
وإذا تقرر أن هذه المخصصات المتصلة، قد تكون مخصصة في بعض المواد، وقد لا تكون مخصصة في بعضها، امتنع أن تكون هذه الألفاظ من حيث هي تلك الألفاظ -مع قطع النظر عن المواد- مخصصة، وإلا لزم ترك العمل بالدليل من غير مانع، وهو خلاف الأصل.
وأما ثانيا؛ فلأنها تكون أعم من كل واحد من القسمين، والأعم لا يستلزم
أحد أخصيه عينا، فلا يستلزم التخصيص، لكونها أعم منه وهو المطلوب.
وحينئذ يتعين أحد الأمرين:
إما أن يقال: إنها ليست مخصصة مطلقا من حيث هي هي، وهو حق، (وإنما تأتي بالتخصيص من قبل المواد معها)، ولا يلزم من إضافة الحكم المجموع المركب من أمرين، أن يكون أحدهما يستقل بنفسه.
وإما أن يقال: إنها مخصصة في بعض المواد دون بعض، ولا يقال: إنها مخصصة بقول مطلق، وهذا أيضا حق، ولكن على هذه الطريقة ينبغي أن يفحص في كل عموم ورد فيه/ أحد هذه الأمور، هل مادته تقتضي تخصيصا أم لا؟ ولا يعتمد على صورة اللفظ. (145/ ب)
فهذا تلخيص هذا الفصل، وبيان هذه المخصصات المتصلة.
* * *